للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بيان للأمة العربية من حزب اللامركزية [*]

من المعلوم أن الأمة العربية المستظلة براية الهلال العثماني من أخلص الأمم
للدولة العلية وأشدها استمساكًا بعروة الجامعة العثمانية، وقد مضت على هذه الأمة
قرون عانت فيها ضروبًا من المحن والمصائب بسبب الإدارة السيئة التي أنتجها
الحكم المطلق في المملكة العثمانية وهي صابرة على ذلك بحكم الجهل الذي كان
مخيمًا عليها وعلى كل الشعوب العثمانية وراضية بما يصيبها من الجور رغبةً في
بقاء الرابطة التي تربط الشعوب العثمانية بالدولة العلية وتقيها شر التفرق المفضي
إلى ضياع المملكة واقتسامها بين الطامعين فيها من دول الاستعمار.
صبرت الشعوب العربية العثمانية على ذلك طويلا وللصبر حد ينتهي إليه.
ولما رأت هذه الشعوب أن الالتجاء إلى رابطة عامة قد دخلها الوهن، والسكوت
على مرض بلغ حد الإعضال ليس من الإخلاص للدولة التي يودون بقاءها في شيء،
وأن الأخطار التي ألمت بالمملكة فذهبت بقسم عظيم منها بسبب سوء الإدارة
وفساد الحكم تهددهم بمثل ما أصاب غيرهم لا محالة - هب عقلاؤهم والمفكرون
فيهم إلى البحث عن أقرب الطرق المؤدية إلى السلامة، فصاح بهم اليأس ينذرهم
فوات الوقت ودنو ساعة الخطر، فلم يجد إلى قلوبهم منفذًا بل رأوا أن اليأس
استسلام للهلاك فنبذوه، نظروا فرأوا أن أدواء الوطن والأمة كثيرة ترجع كلها إلى
أمر واحد هو شكل الإدارة التي تدار بها المملكة، ذلك الشكل الذي مضى عليه
مئات من السنين لم يخط فيها بالأمة والدولة إلى الأمام بينما الممالك الأخرى تسير
في طرق الترقي والمدنية سير السابق المُجِدّ، بل أصبحت المملكة العثمانية في
أخريات الممالك ثروة وقوة وعمرانًا، بل هي لا تكاد تكون بالنسبة إلى أصغر
الممالك الأوربية شيئًا مذكورًا ذلك بأنه ما من ولاية من ولاياتها تستطيع أن تعمل
لنفسها بنفسها عملاً نافعًا لها موجبًا لعمرانها، جالبًا لثروتها، فتمهيد الطرق وإقامة
القناطر والجسور ومد السكك الحديدية وتجفيف المستنقعات واستخراج المعادن
وتسيير مركبات الترام وتنوير المدن بالكهرباء أو غيرها وتأليف الشركات
واستثمارها لمرافق البلاد ونشر التعليم وإنشاء المدارس وما شابه ذلك من أسباب
الارتقاء والثروة والعمران كله منوط بعاصمة الملك متوقف على إذن المركز وإرادته
إن شاء أعطى وإن شاء منع.
وها نحن نرى معظم الولايات العثمانية بل كلها مملوءة بكنوز الطبيعة ومعادن
الأرض، ولم نر ولاية من هذه الولايات انتفعت يومًا من هذه الكنوز المدفونة على
كثرتها، مع أنها مورد رزق عظيم للحكومة ولأهل الولايات لو كانت تعمل فيها
أيدي الشركات اليوم، وهيهات أن يكون ذلك ما دام أهل البلاد ليس لهم من أمر
مرافق بلادهم شيء. وما دامت الحكومة المركزية هي المتصرفة بكل شيء.
زد على هذا أن عدم كفاءة الموظفين الذين يقذف بهم المركز إلى الولايات
وجهلهم بكيفية تطبيق القوانين وعادات البلاد ولغاتها وحاجاتها قد أوجد اضطرابًا
وتشويشًا في إدارة الأمور في كل ولاية، فأساء سمعة الحكومة العثمانية حتى
أحجمت كل شركة وطنية أو شبه شركة وطنية عن استثمار خيرات البلاد أو عمل
أي عمل نافع لها، فصار الأهلون عالة على الأجانب الذين تحتكر شركاتهم منافع
البلاد وعالة على الحكومة التي لا تفتح لهم أبواب موارد الرزق إلا بمقدار، وفقدت
منهم مزايَا الجماعات الإنسانية كالاعتماد على النفس والتعاون على المشاريع النافعة
والنظر في وسائل عمران الوطن، بل لا يكاد يوجد أثر من روح الاستقلال
الشخصي في نفوس أفراد العثمانيين فهم ينتظرون من حكومتهم أن تفتح لهم
المدارس للتعليم وتنشئ الملاجئ للفقراء، وتدفعهم إلى كل عمل من أعمال الحياة،
وما ظنك بأسرة نشأت، وهي عالة على ربها لا تطرق بابًا من أبواب العمل، ولا
تألف التمرن على أي سبب من أسباب الحياة، ما ظنك بهذه الأسرة إذا قعد يوما
صاحبها عن العمل واستسلم لعوامل الضعف؟ ألا تصبح عرضة للفاقة وتصير إلى
الهلاك المحتم؟
إن حال الأمة العثمانية اليوم يشبه حال هذه الأسرة لاعتمادها في كل شيء
على الحكومة المركزية وفقدانها روح التضامن وروح الاستقلال الشخصي، ولعموم
الجهل بين أكثر الطبقات فيها لأنها لا تملك لنفسها حتى ولا شؤون التعليم فضلا عن
باقي شؤون الحياة.
هذا ما فكر فيه عقلاء العرب وخشوا بعده من مصير قومهم إذا استمر شكل
الإدارة في الحكومة على ما كان عليه من استئثار المركز بالسلطة على كل شيء،
وبهذا ثبت لديهم أن الضعف الذي اعتور الدولة وسرى إلى سائر أجزاء المملكة لا
يمكن تلافيه إذا أريد بقاء الدولة وسلامة استقلالها إلا بأن يناط بأهل كل ولاية النظر
في شئونها الإدارية والتعليمية، أي بأن يكون لها نوع من الحكم الذاتي
الموجود في كل الممالك الراقية اليوم في أوربا وأميركا المعروف باسم:
(Administratire (Decentralisation أي: اللامركزية
الإدارية، الذي يود رجال حكومتنا أن يسموه توزيع السلطة أو توسيع
المأذونية. وعلى هذا المبدأ ولأجل نجاة الوطن والدولة تأسس في مصر حزب
اللامركزية الإدارية العثماني لا لمصلحة الشعوب العربية وحدها بل لمصلحة الدولة
نفسها؛ لأن كل ارتقاء وغنى وقوة تنالها الشعوب العثمانية إنما هو ارتقاء وغنى وقوة
للدولة، وهل للدولة قيام أو وجود إلا بمجموعة هذه الأجزاء التي تتألف منها المملكة
فإذا قويت قويت الدولة والعكس بالعكس؟
ولقد تلقت الأمة العربية وعقلاؤها والمخلصون من أبنائها في كل ولاية نبأ
تكوُّن هذا الحزب بكل ارتياح وسرور؛ لأنهم شعروا كشعور المؤسسين لهذا الحزب
بالخطر المحدق بالأوطان وبالحاجة إلى التمسك بأسباب الترقي الصحيح والنهوض
السريع وأننا صرنا من الحرج إلى حالة لا مخلص لنا منها ولا للدولة التي نود
بقاءَها وسلامتها لبقائنا وسلامتنا إلا بانتهاج أقرب الطرق المؤدية للسلامة، ألا وهو
مشاركة الشعب للحكومة في إدراة شؤون البلاد والتوفر على عمرانها وارتقاء أهلها.
لم يشذ عن مشاركتنا بهذا الشعور بفضل الله إلا أفراد من عُبَّاد المنفعة في
الأمة العربية وآخرون يقادون إلى مفتريات هؤلاء مكرهين بزمام الحاجة إليهم، أو
التقليد لهم على غير علم، وهؤلاء متى حصحص لهم الحق كانوا إليه أميل،
وبأنصاره ألزم، وإذن لا يكون هناك أدنى ريب في أن سواد الأمة العربية الأعظم
وعقلاءها وذوي الرأي فيها مجمعون على استحسان مبدإ اللامركزية وأيقنوا بأنه خير
وسيلة للنجاة والنجاح، وهذه حقيقة وإن عرفتها الحكومة المركزية تحاول أن
تتجاهلها ولا تعطي الأمة العربية ما تريده لأجل حياتها ولأجل دولتها أيضا.
إننا لا يجوز لنا أن نرتاب في نية الحكومة ومقاصدها إذا أقامت الدستور، إذ
ما من حكومة دستورية في العالم تأبى ترقي الشعب وراحته، إنما نرتاب في فهم
هيئتها الحاضرة معنى اللامركزية التي ينشدها طلاب الإصلاح ومقدار إخلاص
هؤلاء لدولتهم ووطنهم، مع أننا أثبتنا للحكومة أننا لسنا طلاب عنت بل طلاب
إصلاح، بأن رضينا منها بدون ما هو وارد في برنامج حزبنًا تمهيدًا لسبيل الوفاق
الدائم بين الحكومة والشعب العربي الذي كلما برهنت الحكومة على الثقة به
وتوطين العزيمة على إصلاح حاله زادها إخلاصًا، وازداد بإخوانه الأتراك ثقة،
وإلى دوام مشاركتهم في السراء والضراء ميلاً.
رضينا منها بدون ما هو طلبتنا من الإصلاح على قواعد برنامجنا ولكنها ويا
للأسف لم ترض حتى بما هو دون المطلوب لنا، ولم تف بما وعدت به خلص
الأمة العربية وعقلاءها الذين نابوا عنها في المؤتمر العربي. إذ هذا المؤتمر كما
تعلم الأمة العربية الكريمة عقد في باريس باسمها، وكانت مباحثه دائرة على منافع
اللامركزية الإدارية وطلبها للبلاد العربية، وإذ كان المؤتمرون فيه يمثلون معظم
الجمعيات العربية والشعب العربي الكريم فقد أوفدت جمعية الاتحاد والترقي التركية
التي هي حزب الحكومة اليوم المتكلم بلسانها مندوبًا من قبلها للاتفاق مع أعضاء
المؤتمر على مواد إصلاحية سبق الاتفاق عليها بين الشبيبة العربية وبين مركز
الجمعية في الآستانة تمهيدًا لعرضه على المؤتمر، ورأى المؤتمرون أن يبرهنوا
للحكومة وللعالم أجمع على أنهم يريدون الإصلاح ولو أتى تدريجا، وأن من
الإخلاص لدولتهم أن لا يكون على عملهم مسحة من الجفاء، وأن يقبلوا بمواد
الاتفاقية مع بعض التحوير إذا وعدت الحكومة بقبولها وسرعة تنفيذها. ثم وعدت
الحكومة بقبولها إلا أنها لما أعلنت بيانها في الإصلاح جاء مخالفًا لنص الاتفاقية من
بعض الوجوه وفيه تغيير ظاهر. ولما صدرت الإرادة السنية على بيان الحكومة
رأينا نص البيان قد تغير أيضًا.
ولكي يرى أبناء الأمة العربية الكرام الفرق بين برنامج حزب اللامركزية وما
رضينا به من دونه في اتفاقية باريس، ثم بيان الحكومة لقرار مجلس الوكلاء
المنافي لجوهر الاتفاقية، ثم القرار الذي صدرت عليه الإرادة السنية، ومباينته
للقرار الأصلي - نأتي في هذا البيان على نصوصها جميعًا لمقارنة بعضها ببعض
ووقوف الشعب العربي الكريم على ما بينها من المباينة، وإننا مع رضانا بالقليل لم
نحصل عليه.
(وههنا نشر في البيان برنامج حزب اللامركزية، ثم الاتفاق الذي صدق
عليه مؤتمر باريس ثم بيان الحكومة بما قررت قبوله من الاتفاقية، ثم ترجمة
الإرادة السنية بتنفيذ ذلك - وكل هذا قد نشرناه في المنار من قبل ثم عقب البيان
على ذلك بما يأتي) .
* * *
المقابلة بين برنامج الحزب
واتفاقية باريس وما قررته الحكومة
بالمقابلة بين برنامج الحزب والاتفاق الذي صادق عليه مؤتمر باريس يرى
القارئ الكريم الفرق العظيم بينهما، فالبرنامج يتضمن طلب اللامركزية الإدارية
بكل معانيها والاتفاق ليس فيه شيء قليل غامض من مطالب اللامركزية ومع هذا
رضي المؤتمر بمضمون هذا الاتفاق بانيًا ذلك على حسن نية الحكومة وعزمها
الأكيد على إجراء الإصلاح على قواعد اللامركزية بالتدريج، فكان من الواجب أن
تثبت الحكومة حسن نيتها للأمة العربية بالمبادرة بتنفيذ مواد الاتفاق لتتأكد الثقة
بينهما ويتعاونا على ترقية البلاد وإحياء قوة الدولة التي كاد يعروها الدثور بسبب
الإدارة السيئة.
ولكن الحكومة لم تفعل ذلك بل أصدرت بيانها الذي رآه القراء الكرام وهو
يباين ذلك الاتفاق من وجوه كثيرة. منها أن ذلك البيان يقول في المادة الرابعة (إن
التعليم في الولايات العربية يكون في المدارس الابتدائية والإعدادية باللغة العربية)
ولكنه نفى ذلك في المادة الخامسة أو الفقرة الثانية من المادة الرابعة بقوله (ولأجل
تعميم اللسان الرسمي يجب المحافظة على المدارس الإعدادية في مراكز الولايات
ودوام التدريس فيها باللغة التركية) .
ومنه أن البيان المذكور لم يترك للولايات سوى تعيين الموظفين الصغار
واشترط معرفتهم التركية مع العربية بحجة أنها اللغة الرسمية مع أن اتفاقية باريس
تقضي بأن جميع موظفي البلاد العربية يعينون فيها ما عدا الرؤساء الذين يعينون
بإرادة سنية، وأن يقبل مبدئيًّا أن تكون المعاملات الرسمية في البلاد العربية
باللسان العربي فيتيسر أن يكون أولئك الموظفون من أهل الولايات نفسها، وفي هذا
التعديل الذي جاء في البيان حرمان أهل الولايات العربية حتى من الوظائف
الصغيرة كالتسويد وكتابة المحاضر، وفيه من الضرر على صغار المأمورين ما فيه
لأن معظمهم يجهلون اللغة التركية فاشتراط معرفتهم بها بمثل هذا القيد القانوني
يوجب طرد الألوف منهم طردًا من وظائفهم الحالية باسم القانون بدلاً من فتح الباب
لغيرهم في خدمة حكومتهم المحلية، ومنه أن اتفاقية باريس تقول بلزوم ترك أمور
نافعة للإدارة المحلية، وهذا البيان لم يتعرض ألبتة لهذا الأمر مع أن ترك الأمور
النافعة للولاية واعتبار اللغة المحلية لغة المعاملات الرسمية من أهم ما تعلق عليه
آمال المصلحين في إصلاح إدارة البلاد بيد أهلها والاعتماد في ترقيتها على أبنائها،
ومنها أن اتفاقية باريس نصت على أن يعطى مقدار من المال لسد عجز الدوائر
التي تترك إدارتها للولايات (ويراد بها بالضرورة المعارف والنافعة) ويُعْطَى غير
ذلك نصف رسوم العقارات على أن يصرف للمعارف ولكن المادة التي جاءت في
بيان الحكومة بخصوص مالية الولاية لم يصرح بذلك بل هي غامضة كما يرى
القراء الكرام.
أما ما يتعلق بالمناصب والوظائف التي تقرر أن تعطى للعرب في الاتفاق
المكتوب والاتفاق اللساني المفصل له فنترك الكلام عليه؛ لأنه في نظر حزبنا أمر
ثانوي يراد منه الثقة بتنفيذ تلك المواد على وجهها. على أن هذا البيان على نقصه
وغموضه ومباينته لاتفاقية باريس وعدم الإشارة فيه إلى ما ورد فيها أيضا من
اعتبار قرارات المجالس العمومية نافذة فإنه طرأ عليه نقص آخر لما صدرت
الإرادة السنية بتنفيذها كما يعلم ذلك من مقابلتها ولا حاجة للبيان.
وهذا كله يدل على أن الحكومة لم تستعمل الصراحة في رفض أو قبول
مطالب المصلحين، فكان ذلك داعية الريب فيما تعد به من الإصلاح، ولهذا عدلت
اللجنة العليا لحزب اللامركزية في مصر عما كانت قررته عندما أذيع خبر قبول
الحكومة لمطالب العرب، وهي أن ترسل وفدًا إلى الآستانة ليشكر الحكومة على ما
أظهرته من الميل لإجابة مطالب المصلحين، فقد كانت رفعت شكرها ببرقية إلى
الصدارة معربة عن استبشارها بعصر ترق جديد تدخل فيه الأمة العثمانية، وعصر
وئام يكون فاتحة خير وسعادة على العنصرين الكريمين الترك والعرب العثمانيين،
وكتبت بغرضها من إرسال الوفد إلى أحد أركان الدولة منتظرة رأيه في الأمر،
وفي أثناء ذلك أعلن بيان الحكومة فإذا هو كما قدمنا مباين لاتفاقية باريس، ولا
يختلف عن قانون الولايات إلا بشيء طفيف، فأحزن ذلك الذين كانوا مستبشرين
بحسن نية الحكومة من الشعب العربي، وأوجب عدول اللجنة العليا عن إرسال
الوفد، وكتبت ببيان السبب إلى أحد أركان الدولة الذي كانت كتبت إليه قبل ذلك.
ومما جاء في آخر كتابها الذي أرسل باسمها من رئيس اللجنة العليا قوله:
ولما جاءت التلغرافات العمومية مبشرة بتصديق الحكومة على الاتفاقية التي
تمت مع العرب رأينا أن نبرهن للحكومة على إخلاصنا وحسن نيتنا وعلى شكرنا
العظيم فقدمت تلغرافا بالنيابة عن اللجنة للصدارة أعرب فيه عن شكرها وآمل أن
نكون دخلنا في عصر جديد من عصور الإصلاح الحقيقي وذكرت فيه أن حزبنا
سيوفد وفدًا خاصًّا لتقديم الشكر للحكومة، ورغمًا عن تكذيب مركز الاتحاد والترقي
لخبر هذا الاتفاق بصورة مهينة لطلاب الإصلاح كما رأيتم ذلك بالضرورة في
جريدة طنين فإن اللجنة كانت باقية على هذا العزم لاعتبارها أن الحقائق هي التي
كان دون ما في بروغرام حزب اللامركزية إلا أنه يكفي للدلالة على حسن التفاهم
مع الحكومة والسير في سبيل الإصلاح ولو بالتدريج، وليس لنا غاية من وراء ذلك
كما يشهد الله.
ولكن الحكومة ببيانها الأخير شوَّهت مواد تلك الاتفاقية تشويهًا ولم ترض بذلك
القليل الذي رضينا به فأدخلت اليأس من جديد في نفوس أعضاء حزبنا ونفوس
الأمة العربية جمعاء فرأت اللجنة أن نؤخر الآن إرسال الوفد وأن تخاطبكم بصفتكم
من شهود ذلك الاتفاق في باريس بما عوَّلت عليه، وهو أنها توقف إرسال الوفد
على أحد أمرين: إما إرضاء الحكومة بالاتفاقية المذكورة وتطبيقها بالحرف، وإما
أن تودع مسألة اللامركزية برمتها إلى رأي الأمة بأن تصادق على بروغرام حزبنا
ليسير في تأييد مبدئه بالطرق القانونية التي تسير فيها الأحزاب عامة في كل مملكة
دستورية فإذا كانت البلاد مستعدة لهذا النوع من الحكم ثبت مبدؤنا ونفذ بالتدريج،
وإذا كان غير ذلك نكون قمنا بالواجب الذي تدعونا إليه ضمائرنا، ونعتقد أنه محتم
علينا بإزاء دولتنا ووطننا، وإذا كانت الحكومة لا ترى هذا ولا ذاك ولا توافق على
الاتفاقية ولا تقبل الاعتراف بهذا الحزب فقد عوَّلنا معتمدين على الله وحسن النية
والإخلاص لهذا الوطن ومعونة الأمة العربية وأهل الرأي فيها على المضي في
الوجهة التي رسمناها لأنفسنا من أجل سعادة الأوطان وسلامتها وسلامة الدولة أيضًا
ونترك تقدير النتائج المترتبة إلى ضمائر القابضين على زمام الأمر اليوم إلخ.
فهذا الكتاب وما قبله من البيانات الواضحة يثبت لأبناء الأمة العربية الكريمة
أننا لم نَأْلُ جهدًا في تحقيق رغباتها وتأييد مطالبها في إصلاح الوطن وترقيته
وسعادته وإن رائدنا الإخلاص لدولتنا ووطننا، وإنما هذا الإخلاص لا يمنعنا إذا
رأينا إصرارًا من الحكومة على رأيها القديم في الأمة العربية ومطلا وتسويفًا في
إجابة مطالبها أن نتخذ خطة العزم والحزم والثبات أمام كل الموانع التي تحول دون
تحقيق آملنا في ترقي بلادنا وإسعاد أهلها وجعلهم قوة ذات حياة وحركة متضامنين
في العمل على صيانة الوطن وسلامة العنصر العربي الكريم من الأخطار الحائقة به،
خصوصًا في هذا العصر الذي اشتد فيه التنافس بين الأمم في مضمار تنازع البقاء،
وأصبحت كل العناصر العثمانية عرضة لفقد الاستقلال والموت الشائن المهين،
موت الخمود والخمول، إذا استمرت عالة على الحكومة في كل شيء فاقدة كل
وسائل الارتقاء والكمال والاعتماد على النفس.
وإنما نعتمد في هذا التضامن الداعي لنجاة الوطن ونجاة الأمة من الاضمحلال
على ذكاء العنصر العربي الكريم وكفاءة أبنائه واستعدادهم وعلى النية الخالصة لله
وللوطن والدولة، ونرجو أن يؤازرنا على سعينا هذا كل من أظلته سماء البلاد
العربية لنثبت للعالم أجمع أن الأمة العربية التي قوي الزمان على محو معظم الأمم
القديمة لم يقو على محوها، وأن الأمة التي استمد منها العالم القديم روح المدنية
والتشريع منذ ستة آلاف سنة أي من عصر حمورابي وكان العالم الجديد مدينا في
مدنيته لها من ألف سنة أي من عصر الرشيد والمأمون وما بعدهما لا يجوز العدل
والإنسانية أن تسحق بأقدام الطامعين والسياسيين، وإن الأوطان التي أنبتت حمورابي
أول واضع للشرائع المدنية، وأخرجت مثل موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة
والسلام الذين قلبوا نظام العالم الإنساني وأخرجوه من ظلمات الوثنية والرذائل إلى
نور التوحيد والفضائل، لا يجوز أن تكون أوطانا لغير أهلها النابتين من ترابها
والناشئين فيها ما دام في صدورهم نفس يتردد ويدل على الحركة والحياة.
لا يوجد فيما نعلم عربي مخلص تظله راية الهلال العثماني إلا ويريد البقاء
للدولة والحياة مع إخوانه الأتراك تحت راية واحدة هي راية الهلال، ليكونوا قوة له
وهو يكون قوة لهم وكلاهما قوة للدولة، كما أنه لا يوجد عربي يعقل معنى الحياة
والوجود يرضى أن يكون مكانه من هذه الدولة مكان العبد المملوك من المالك،
والمسود من السيد، ولا مكان الأجنبي من الفاتح المستعمر، بل يطلب كل عربي
يعقل معنى الحياة أن يكون مكانه من التركي في هذه المملكة مكان الأخ الشقيق من
أخيه الشقيق، لا يمتاز أحدهما عن الآخر بحق شرعي ولا قانوني، وإنما يتفاضل
أفراد كل من الشعبين بعلومهم وأعمالهم. ويعتقد عقلاء العرب أن بقاء الدولة بدون
هذه المساواة مؤلفة من هذين العنصرين محال، وإذا هما افترقا، لا قدر الله، فالله
وحده هو العليم بالمآل.
فإذا كان إخواننا هؤلاء لا يريدون أن يفهموا هذه الحقيقة، وإن أودوا بنا
وبأنفسهم فنبذوا الجميع في هاوية الدمار، فإن الشعب العربي قد عرفها، وهو يريد
الحياة ويجاهد في سبيلها، بمنتهى ما عنده من القوة والجلد والحزم، فمن العبث أو
من الخطأ الموجب لتنافر القلوب وتجافيها أن يحال بينه وبين الإصلاح الذي يطلبه
لنفسه ولأوطانه، والقوة التي ينشدها لحفظ حياته، وبقاء الدولة التي يحترم وجودها.
وبما أن الواسطة لترقي هذه الأمة وسلامتها هو أن يكون لها حق الإشراف
على مرافق بلادها، وحق المشاركة في إدارة مصالحها، وحق التعليم والتعامل
بلغتها، وهذا لا يتأتى بغير الإدارة اللامركزية فقد رأى عقلاؤها والمفكرون فيها
وجوب السعي لنيل هذا النوع من الإدارة بكل الوسائل الممكنة، وبما أنه ما من
عاقل من أبناء العرب يطلب شيئا فوق اللامركزية الإدارية التي تضمن له الحكم
الذاتي من جهة وبقاء الرابطة السياسية بالدولة العثمانية من جهة أخرى، بناء على
ذلك كله، تدعو اللجنة العليا لحزب اللامركزية كل الجمعيات العربية وكل العقلاء
من أفراد هذه الأمة الكريمة إلى توحيد الكلمة والوجهة والغاية ومؤازرتها فيما تدعو
إليه من المطالب العامة الموافقة لمصلحة الجميع، ومتى نلنا هذه الأصول العامة
تبعها بالسهولة ما يطلبه بعضهم لبعض الولايات خاصة، على أن أنصارها والقائلين
بصحة مبدئها في سائر أنحاء البلاد العربية كثيرون ولله الحمد، بل هم جماهير أهل
الرأي والغيرة والإخلاص، لا كما يغش رجال الدولة طلاب المنافع والمناصب
بالتملق والدهان، وستعلم حكومتنا أن الأمة العربية متحدة متكافلة، تردد صوت
طلاب الإصلاح اللامركزي في كل مكان، وعسى أن تقنع بالآية التي تراها اليوم
فلا تحتاج إلى ما هو أكبر منها من الآيات.
***
مظاهرة العرب السلمية اليوم
في هذا اليوم الذي يصدر فيه هذا المنشور وترى حكومتنا العليا في الآستانة
آية من آيات صدقنا ونصحنا وإخلاصنا لها، في هذا اليوم تهتز أسلاك البرق
وتنبض عروقه بين عاصمة الدولة وجميع الولايات العربية العثمانية والجاليات
العربية العثمانية في الممالك الأجنبية فتشعر حكومة العاصمة بما تفيض به قلوب
العرب العثمانيين في مشارق الأرض ومغاربها، في هذا اليوم تستوي الشمس على
كرسيها من القبة الزرقاء، وفخامة الصدر الأعظم مستو على كرسيه في الباب
العالي، ووفود طلاب اللامركزية من العرب واقفون في إدارات البرق (التلغراف)
في سورية وفلسطين والجزيرة والعراق وفي أوربا وأمريكا يخاطبون فخامته بما
نصه العربي بعد عنوان الخطاب:
قد برهنت الأمة العربية بأقوالها وأفعالها، ومسلك حزبها وجمعياتها وصحفها،
على شدة إخلاصها لدولتها، وحرصها على سلامة السلطنة العثمانية كلها، واتفاق
شعوبها على عمرانها وترقيتها، وقد ثبت لها بالبرهان أن ذلك لا يتحقق ولا تبقى
الدولة وتحيا إلا بالإدارة اللامركزية الواسعة التي يظهر بها استعداد كل شعب من
شعوب الأمة العثمانية فتتبارى في ميدان العلم والعمل، وقد سمعنا عن لسان مولانا
السلطان الأعظم وأركان دولته ما يدل على الرغبة في إجابة الأمة والعرب خاصة
إلى مطالبهم الإصلاحية، فنحن لهذا نسترحم من مقام الصدارة العظمى إعلان وتنفيذ
أحكام اللامركزية الإدارية الواسعة في ولايتنا، وإعطاء الشعب حريته في هيئاته
النيابية وأمور المعارف والنافعة وجميع الشئون الاقتصادية المحلية، واعتبار اللغة
المحلية لغة رسمية والأمر لوليه.
وفي هذا اليوم ترفع اللجنة العليا لحزب اللامركزية الإدارية العثماني برقية
إلى فخامة الصدر الأعظم تؤيد بها برقيات أمتها الكريمة هذا نصها:
الآستانة - الصدارة العظمى:
اليوم تُظْهِر لكم الأمة العربية رأيها وإرادتها بالبرق من كل جهة، وتطالبكم
بلسان أهل الرأي فيها بإعلان اللامركزية الإدارية الواسعة في كل ولاياتها، فلجنة
حزب اللامركزية بمصر تنهي إلى فخامتكم أنها تؤيد هذا الطلب الحق بكل قوتها،
راجية من حكمة حكومتكم إحلال رأي الأمة الموافق للشرع والدستور محل الاعتبار
والقبول.
... ... ... ... ... ... رئيس حزب اللامركزية بمصر
... ... ... ... ... ... ... ... ... رفيق العظم
* * *
صفوة القول وخلاصته
إن الأمة العربية متفقة في جميع الولايات العثمانية على طلب الإدارة
اللامركزية الواسعة المبينة قواعدها الكلية في برنامج الحزب، ويؤيد أهل الولايات
في ذلك المهاجرون من إخوانهم العرب في مصر وأوربة وأمريكة، ولا ينافي
اتفاقهم على القواعد العامة وتضامنهم وتكافلهم فيها بعض المطالب الخاصة ببعض
الولايات كطلب جمعية بيروت الإصلاحية أمورًا مخالفة لبعض مطالب جمعية
البصرة مثلا، فطلاب الإصلاح كلهم إلب واحد وكلمتهم واحدة، والأمة كلها
معهم تشد أزرهم وتنبذ من يخالفهم نبذ النوى ولا يمكن أن تسكن هذه الحركة،
وتسكت الأحزاب والجمعيات عن الصراخ أمام الأمة والحكومة، بالتلهي ببعض
قشور المطالب وما هو مطلوب منها في المرتبة الثانية، أو ما هو منها بمنزلة
الفروع من الأصول.
* * *
أصول المطالب وما لا يعتد بغيره إلا معه
الأصول الأساسية من مطالب العرب هي ما أشارت إليه برقية الأمة وهذا
تفصيله بالاختصار:
١- حرية الشعب في هيئاته النيابية، وأهمها حريته في انتخاب أعضاء
مجالس الولايات العمومية ومجلس المبعوثين وغيرهما، وجعل جميع قرارات
المجالس العمومية نافذة فيما هو داخل في اختصاصها وهو كل ما يتعلق بمصلحة
الولايات التي لا تتعلق بالسياسة الخارجة ولا الحربية.
٢- حريته في أمور المعارف، وأهمها أن يكون التعليم باللغة العربية، وأن
تناط إدارته بالمجالس المحلية.
٣- حريته في أمور النافعة والشئون الاقتصادية بأن تكون جميع أعمالها
بأيدي المجالس المحلية، إلا ما يتعلق بالسياسة الخارجية أو الحربية، فللمجالس
العمومية في هذا حق الرأي المحترم فقط، وأما حق التنفيذ فمن خصائص الحكومة
العليا في العاصمة. وعلى كل حال لا يجوز إعطاء امتياز في الولاية بإنشاء طريق
أو استخراج معدن أو عمل زراعي ولا بيع أرض أميرية ونحو ذلك من الشئون
المحلية إلا بقرار من مجلسها العمومي.
٤- اعتبار اللغة العربية رسمية في جميع الولايات العربية بأن تكون جميع
معاملات الحكومة بها في هذه الولايات فلا يقبل فيها موظف إلا من أهلها الذين
يحسنونها قولا وكتابة، لأن نشر التعليم بلغة الأمة كما يجب يتوقف على التعامل بها
في شئونها ومصالحها العامة.
فمتى نالت الأمة هذه الأصول الأساسية تساهلت فيما عداها، وفي بعض
الفروع المترتبة عليها والتدرج فيها، ذلك بأن حياة الأمة لا تكون إلا بحريتها فيما
مر ذكره، وحياة لغتها بالعلم والعمل، وتدبير ثروتها والاستقلال بمنافعها
الاقتصادية كلها، وإلا كانت جاهلة فقيرة ذليلة مضطهدة أبد الدهر، فإذا ساعدت
الأمة العربية حكومتها على ذلك تعتقد أنها تريد لها الحياة فتكون مخلصة لها كل
الإخلاص، وإلا عملت كل ما في طاقتها للوصول إلى حقها في إحياء لغتها والحياة
بها، وإحياء أرضها، والتمتع بخيراتها ومنافعها، ومن أراد الحياة الشريفة الطيبة
لا يلام، وإذا سعى لها سعيها نالها بسلام أو غير سلام، ومتى أرادت الأمة فعلت،
ومتى سارت وصلت، وتلك سنة الله في جميع الأمم {َولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) .
صدر بمصر القاهرة في ٩ ذي القعدة سنة ١٣٣١ - ٢٦ أيلول سنة ١٣٢٩
مالية عثمانية ٩ أكتوبر سنة ١٩١٣.