للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أمين أبو خاطر


الجنسية واللغة

يراد بالجنسية الانتساب إلى قوم تضمهم جامعة واحدة ويخضعون لقانون واحد
بدون التفات إلى وحدة الأصل وكثرة العدد واختلاف اللغة والدين كالجنسية
الفرنساوية والألمانية والإنكليزية والعثمانية والنمساوية إلخ، وهي في عرف الناس
وفي نظر رجال الحكومات صفة لازمة للقومية وقوة مقومة لكيان المملكة وحفظ
المجتمع، وفي نظر بعض علماء الاجتماع ضلال من ضلالات الزمان، التي
استولت كما استولى غيرها على الأذهان، ولا بد أن يقضي الزمان بإلغائها كما
قضى على غيرها من الأوهام والخرافات.
يظهر لأول وهلة أن هذا الرأي الأخير بدعة تزعزع أركان الوطنية وتبدد
عناصر القومية، وتضعف روابط الجامعة وتهدم بناء المملكة ولكن يتضح بعد
الإمعان والتمعن في ما يلي أنه حقيقة لا بد من ثبوتها في المستقبل البعيد.
إذا استولى الوهم على الذهن كان أشد تأثيرًا فيه من العقل وإذا اندس في أخلاق
الأمم وعاداتها كان شديد المراس لا يزحزح إلا بعد جهد وعناء شديدين. وإذا طال
الزمن على عقيدة فاسدة شق على العقل والعلم نقضها وإقناع الجمهور بفسادها؛ لأن
الخرافات أعلق بالأذهان من الحقيقة وأشد منها تمكنًا واستمساكًا، بدليل ما نرى منها
إلى الآن في عادات أرقى الأمم مدنية وأعلاها علمًا وأدبًا، ومن قبيلها إجماع الناس
على الاعتقاد بالجنسية اعتقادًا غلب فيه الوهم على الحقيقة، فيعطونها ما ليس لها من
الحدود والصفات والمميزات التي لا تعتبر في نظر علماء الاجتماع إلا حيلاً
سياسية لاستعباد الأقوام الصغيرة وتعضيد القوة الحاكمة، وهي تظهر بأشد
مظاهرها في البلاد التي تقوى الروح الوطنية فيها، وتصبح خطرًا على البلاد
المجاورة، وحيث الرغائب والأميال والحذر من المستقبل والاستنكار من تقدم
الأمم الأخرى وتفوقها والانفعال من خسارة بعض الامتيازات تُحَوِّل الأذهان عن
فهم الحقيقة، وتميل بها إلى تفسير القضايا الاجتماعية تفسيرًا يوافق تلك
الرغائب والأميال. نرى ذلك في فرنسا التي خسرت سيادتها في أوربا بعد وحدة
ألمانيا ووحدة إيطاليا، وفي النمسا حيث تطالب الشعوب المظلومة بحقوقها،
فإذا خلا الذهن من تلك الأكدار حسب الروح الوطنية ظاهرة من الظواهر الطبيعية
تؤثر في الفرد كما تؤثر في العموم ولها حد من النمو لا يمكن توقيفه أو منعه كما أنه
لا يمكن توقيف المد والجزر أو منع حرارة الشمس في إبان الحر. على أن من
الضلال الفاضح أن يكون أساس الجنسية الأساس الذي وضعته السلطات الحاكمة
وتحاول أن ترسخ في الأذهان أن أقل جنوح عن نظامها يفقد الإنسان جنسيته ويجعله
شريدًا طريدا في مجاهل الإنسانية.
فما هو أساس الجنسية؟ وما هي علامتها المميزة؟
إذا رجعنا إلى الأنثروبولوجيا وهو العلم الوحيد الذي يرجى منه حل المسألة لم
نجد فيه ما يفي بالغاية؛ لأن علماء الأنثروبولوجيا فريقان الواحد يقول بتعدد أصول
الإنسان والآخر يقول بوحدة الأصل، فالقائلون بالتعدد يزعمون أن الأسباب التي
ساعدت على ظهور الإنسان في بقعة من الأرض ساعد مثلها على ظهوره في بقعة
أخرى، وأن ما بين الأنسال البشرية من الاختلافات الجوهرية كاختلاف اللون
والصفات والتركيب مسبب عن اختلاف الأصول وليس عن تحول الصورة الأصلية
وتطبيق الحياة على الأحوال المحلية، فهذا الرأي لا يحل المسألة حَلاًّ شافيًا عدا
عن أنه لا يخلو من النقد ولم يتفق عليه علماء الأنثروبولوجيا، أما الفريق الثاني
فيقول: إن التغييرات التي تحصل في النسل الواحد بفعل الأحوال المحيطة وتأثير
العومل المحلية هي حدود للجنسية وينسب لكل شعب صفات خاصة تميزه عن بقية
الشعوب ولو كانت من نسل واحد. على أن تلك الصفات ليست إلا صفات خارجية
لا تدل دلالة صريحة على وجود حدود فاصلة بين الهيئات الوطنية لأن في كل
شعب ولا سيما في النسل الأبيض أفرادًا كبارًا وصغارًا وشعرًا أشقر وأسود وعيونًا
زرقًا وسودًا ومزاجًا باردًا وحارًّا.
وإذا تغلبت بعض الصفات في شعب والبعض الآخر في شعب آخر فالعلامات
الجسمية والعقلية تقرب أن تكون واحدة وليس فيها من الصفات الخصوصية ما
يمتاز بها شخص عن آخر وتعرف بها جنسيته كما يعرف النسل الأسود بالجلد
الأسود والشعر الأجعد وهيئه القِحْف والوجه.
فهذه الصفات التي يعلقون عليها أهمية كبرى ليست بيولوجية لتحدث تغييرًا
في ذاتية الإنسان ولا جوهرية لتضع حدودا فاصلة بين الجنسيات، لأنها تكتسب
بالتعليم والتهذيب والتدريب وتزول بعد البلوغ وفي ظروف معلومة، تدلنا على ذلك
أحوال الولد الذي ينقل طفلا من قومه وينمو ويعيش في وسط آخر بعيد عن أهله
فإنه يكتسب صفات ذلك الشعب الغريب ولا يظهر فيه أثر من صفات قومه؛ لأن تلك
الصفات أعراض قابلة للزوال حتى لقد يخسر البالغ صفات قومه ويكتسب صفات
قوم يخالطهم كما اكتسب البرامكة صفات العرب وضرب المثل ببلاغة تواقيعهم،
وكما أن الأيوبيين وهم أكراد صاروا أشد نعرة للعرب من العرب أنفسهم، وكان
منهم شعراء وعلماء وأجازوا الشعراء ووقف منهم على أبوابهم ما لم يقف على
أبواب غيرهم من ملوك العرب، والسموأل وابن سهل يهوديان وهما شاعران
عربيان تتدفق الروح العربية من أنفاسهما، والأمثلة على ذلك كثيرة يروى منها عند
كل الأمم فقد قام كتبة ألمانيون من أصل فرنساوي تفتخر بهم ألمانيا وقام ألمانيون
في فرنسا وإيطاليون في إنكلترا وقِسْ عليه.
فالرابطة الدموية إذا ليست شرطًا جوهريًّا لتحديد الجنسية فالهيغونوت (وهم
البروتستانت الفرنساويون الذين هربوا من الاضطهاد) الذين هاجروا إلى براندبورج
أصبحوا من أفضل الألمان، والهولانديون في أمستردام الجديدة صاروا أميريكيين لا
غبار على وطنيتهم، أي أن الحرب والمهاجرات الكبرى والأسفار مزجت الناس
بعضهم ببعض حتى لم يبق فارق يفرق العناصر القومية بعضها من بعض عدا عن
أن التشريع لا يعير القرابة الدموية أقل أهمية، لأنه يسهل للغرباء أن يتجنسوا
بجنسية المملكة أي يصيروا وطنيين لهم ما لأهل الوطن من الحقوق وعليهم ما على
مواطنيهم من الواجبات، فالأنثروبولوجيا ليست أساسًا للجنسية وكل ما يقال فيها
واهن من هذه الجهة وغير ثابت.
وقد حاولوا أن يجعلوا أساس الوطنية الاشتراك في المنافع والمرافق وقالوا:
إن ما يجعل الناس أعضاء أمة واحدة هو الماضي المشترك والمستقبل المشترك
وكونهم تحت سلطة واحدة وخضوعهم لشرائع واحدة واشتراكهم في الأفراح
والأتراح، إلا أن ذلك نظرية سفسطية تصح قولاً ولا تثبت فعلا؛ لأن الروماني في
غاليسيا لا يشعر على الإطلاق بكونه بولونيًّا مع أن الرومان والبولونيين اشتركوا
في الشرائع والنظامات السياسية منذ أكثر من ألف سنة، والفيلاندي يعتبر جنسيته
غير جنسية السويدي رغما عن أنهما يؤلفان شعبًا واحدًا ويسيران على سياسة واحدة
منذ أكثر من ألف سنة أيضًا، لا ريب في أن الشرائع والنظامات واتفاق العادات
والأخلاق وارتباط الأعمال تقرب العناصر بعضها من بعض وتولد فيها شعورًا
بالتضامن، إلا أنها تنزع جنسية من صدر قوم ولا تخلق أخرى في قوم آخرين.
كل ذلك فن احتيالي تضرب به الحقيقة عرض الحائط، فالجنسية لا تعرف
من صفات الفرد إلا ما ندر، والشرائع والنظامات لا تحدد الجنسية حدًّا صحيحًا
فاصلاً بالرغم عما لها من التأثير في الأخلاق، بل ما يحددها هو اللغة؛ لأن بها
وحدها يصبح الإنسان عضوًا من شعب خاص ويتولد فكره وشعوره وبها يقتبس
منهج الشعب الذي كونها وأنماها ووضع فيها أسرار عقله ونفث فيها نسمات روحه
وكساها بأدق خصوصياته العالمية وبها يصبح ابنًا ووارثًا لكل المفكرين والشعراء
ولكل النبغاء وقواد الشعب، وبها يشابه قومه فكرًا وعملاً؛ لأنها تستهوي الأفراد
بتاريخها وآدابها، وهي بالحقيقة الإنسان كله لأنه سلك الإيصال للمدركات الخارجية
والآلة الجوهرية التي تساعد على العمل في العالم الخارجي فمن بين الملايين يقوم
مفكر واحد يفكر في قومه فيكتب لهم لإصلاح مجتمعهم فيأخذ الملايين عنه ما أنتجته
قريحته الذكية وينالون باللغة ما لا ينالونه بأية آلة أو واسطة أخرى، فاللغة هي
أقوى رابطة تربط الناس بعضهم ببعض لأن أخوين لا يتكلمان لغة واحدة يكونان
بعيدين أحدهما عن الآخر أكثر من غريبين يتعارفان ويتبادران السلام بلغة واحدة.
كنت وبعض الزملاء في الآستانة وكنا نختلف إلى بعض الأندية ونتكلم بلغتنا
العربية فابتدرنا شيخ يناهز الستين تتقاذفه عوامل الفرح واليأس والقنوط والأمل
والحب والبغض قال بالحرف: يا لشقاوتي هنا أبناء وطني يتكلمون العربية وأنا
أموت حسرة في الآستانة قلنا: ومن أين الشيخ؟ قال: من بغداد. قلنا: وأين
سورية من بغداد؟ قال: تجمعنا اللغة.
وقعت بين الإنكليز والأمريكان حروبٌ طاحنة وحصلت مشاكل شتى زادت
شقة البعد بين الشعبين، ولكنهما تجاه غير الإنكليزي واحد، ويشعران بأنفسهما
أنهما أبناء بريطانيا العظمى.
لما قامت الحرب بين الإنكليز والبوير خفق قلب الهولنديين وتفتت ألما رغمًا
عن انقطاع العلاقة السياسية بين هولاندا والكاب منذ نحو قرن وفي حرب ١٨٧
تشيع أهل سويسرا وبلجيكا للفرنساويين وحنوا إليهم بكل جوارحهم رغمًا عما بينهم
وبين الفرنساويين من الفرق العظيم في الشرائع، والأخلاق والجنسية السياسية
والتذكارات التاريخية وفي حرب الشلسويك هولشتين فزع النروجيون للدنمارك
وتطوع بعضهم لمساعدتهم مع أنهم يكرهونهم ويقبحونهم وقد تحرروا من سلطتهم
بعد حروب طويلة ولا شيء يربطهم بهم سوى اللغة إلا أن هذا اللاشيء هو كل
شيء.
رقي اللغة عنوان رقي الأمة وانحطاط اللغة دليل على انحطاط الأمة لأنها
تتخذ أهمية إذا استخدمتها الأمة آلة لنهوضها ورقيها وتقل أهميتها إذا كانت الأمة
منحطة ومستعبدة للفئة الصغرى منها المستبدة بأحكامها؛ لأن في مثل هذه الحال لا
تحتاج إليها الهيئة الحاكمة لأنها لا تتنازل إلى مخاطبة الأفراد ولا يحتاج إليها
الأفراد أيضًا؛ لأنه لا يحق لهم أن يفرغوا ما في قلوبهم في قالب من الكلام الحسن
ولا يبقى منها إلا ما يلزم القرويين للتفاهم أو للهذر والمزاح أو للعداوة والتحسر
والشتم، وقانون الاستبداد يقضي بإظلام البصائر فيحب الظلام ويقبح النور ويسد
سبل التهذيب ويقفل أبواب المدارس ويجعل السوط قاموس اللغة ومتنها وكل
علومها وآدابها، والشريف في الأمة لا يرى ما يدعوه إلى التعلم لأن حقوقه يؤيدها
شرف الولادة فهو سيد بدون أن يفتح فمًا أو أن يغمس قلما في دواة.
فالجنسية في هذه الحالة واطئة؛ لأن علامتها الرئيسية واطئة، إلا أن الأحوال
تغيرت في هذه الأيام حتى في روسيا وتركيا وأصبح لكل فرد من أفراد الرعية حق
الدفاع عن نفسه وأن يعلو فوق الحد الذي وضعته فيه أحوال ولادته، وفتحت أبواب
التعليم وانتشرت الجرائد، وأعطيت حرية الخطابة فاتسع نطاق اللغة ورقت
حواشيها وسَمَتْ آدابها، وأمعن فيها الكبير والصغير والغني والفقير حتى الملوك
أنفسهم؛ إذ علموا أن لا بد لهم من سهولة الكلام في كثير من الأحوال، وأصبح كل
عقبة تقف في سبيل استعمال اللغة الخاصة بالأمة أو كل ضغط يوجب لغة أجنبية
عارًا وعنفًا لا يحتملان، ومن كانت جنسيته الصغرى في البلاد التي يتوطنها
وكانت لغته غير اللغة الرسمية وحظر عليه استعمال لغته وأجبر على استعمال لغة
أجنبية فإنه يشعر بألم لا يعرفه إلا من مر بهذه الشقة وعانى مشقاتها لأنه يكون كعبد
من عبيد القرون الوسطى أو كمجرم محكوم عليه بالنفي، وما من أحد في الكون
يرضى بحرمانه من أهم قوة في الحياة بها يبث شعائره ويعبر عن أفكاره، وما
الحرمان من ألقاب الشرف بشيء بالنسبة إلى الحرمان من اللغة الحاصلة، وتقييد
الأرجل بالقيود ليس بشيء بالنسبة إلى تقييد اللسان الذي به تحسب قوى العقل في
قفص يمنعها من الظهور والانتشار ويشل حركتها ويقتلها في المحيط المفسد بسياسة
الظلم. فنكران اللغة نكران للأنانية لا يرض به إلا من سفلت طباعه وتدنى إلى أن
ينحني ويعفر وجهه بالتراب أمام الهيئة الحاكمة المستبدة ويضحي حقوقه ويدوس
على أقدس عاطفة من عواطف الجنسية، وعلى أن مثل هذا السافل أو الجبان قليل
في العالم؛ لأن الأكثرية تتمسك بلغتها وتدافع عنها كما تدافع عن حياتها وتقاوم كل
قوة تعمل لإذلالها. ويمكن للأمة الحاكمة أن تجعل لغتها اللغة الرسمية وأن تمنع لغة
الأمة المحكومة من المحاكم والمدارس والكنائس والجمعيات والمعاملات ولكنها لا
تستطيع أن تمنع حركة الأفكار التي تهيأ لنسف بناء تلك السياسة بعد أن أصبح
سجنًا لا مسحة عليه من الإنسانية بدلاً من أن يكون ملجأً لتقوية الضعيف وتخفيف
آلامه.
لا يمكن أن نقنع إنسانًا ذا عقل سليم بقطع رأسه ولا تستطيع شريعة أن تقنع
أمة حية بترك لغتها ومظهر عقلها الخاص، وكل مملكة تحتوي على جنسيات
متعددة لا بد من وقوع التنافر والشقاق فيها وإذا تكافأت فيها القوات تجزأت وانحلت.
فما هو العلاج الشافي لذلك؟ هذه مسألة من أعقد المسائل الاجتماعية التي حارت
في حلها الأفهام وهي لا تحل إلا بالطرق الراهنة التي لا إشكال فيها ولا تمويه.
أفضل حل يَرْتَئِيه رجال السياسة هو اللامركزية بكل معانيها المتسعة وهو حل
مقبول يجب التسليم به إلى أن يظهر أفضل منه لأنه نظري أكثر مما هو عملي،
فاللامركزية قد يمكن تطبيقها والعمل بها في المملكة التي تحتوي جنسيتين
متساويتين عددا وقوة وارتقاء بحيث يستطاع التساوي والتفاهم بينهما كما في
بلجيكا، ويعسر أو يستحيل في المملكة التي يكثر فيها الجنسيات كما في النمسا التي
تحتوي على أكثر من عشر جنسيات متباعدة ومتنافرة بحيث لا يتألف منها مجموع
مندمج في جسم المملكة لأن التساوي بين العناصر المتعددة يقضي باستعمال كل لغات
البلاد في كل الإدارات من مكتب بوسطة القرية إلى الوزارة ومن غرفة قاضي الصلح
إلى محكمة النقض والإبرام ومن اللجان البلدية إلى المجالس النيابية عدا ما يوجب
من إنشاء المدارس الابتدائية والثانوية والعالية لكل عنصر والسعي لتهذيب آداب
كل لغة ومكافأة النبوغ في كل منها. وتلك مطالب لا يمكن تحقيقها والعمل بها لأن
ذلك تجزئة للمملكة وتفكيك للروابط التي تربط عناصرها بعضها ببعض.
ولا يمكن لمملكة تكثر فيها العناصر أن تستغني عن لغة للمملكة تكون اللغة
الرسمية فالعنصر الذي تكون هذه لغته يصبح سائدًا والعناصر الأخرى مسودة
فتتفاوت الحقوق وتمتنع المساواة؛ لأن الشريعة تطلق لسان البعض وتخرس لسان
البعض الآخر وتقسم أبناء الوطن الواحد إلى قسمين أحدهما وطني حميم والآخر
نصف وطني.
رأينا مما تقدم أن اللغة مطلب حيوي لا ينال بالاتفاقات المبرقعة والعقود
المعوجة، وإن عقدة الإشكال فيها لا تحل إلا بالطرق التي ذكرناها حلاًّ يرضي
الجنسيات على اختلافها لما ظهر لنا فيها من الإشكال والتعقيد وصعوبة التطبيق،
فالحل الصادق الصحيح هو القوة؛ لأن كل ما عداها لا يفيد إلا لتهدئة ثائر الخواطر
إلى أجل معلوم؛ لأن تنازع اللغة كتنازع البقاء لا بد من أن يجري مجراه وينتهي
بالهزيمة أو بالموت أو بالفوز، ويجب على المطالب بهذا الحق الحيوي أن يقبل
الوعود بالامتيازات وأن يرفض الاقتراحات للتسوية والتراضي، فإما لا شيء وإما
كل شيء.
بدأ تنازع الجنسيات منذ آلاف من السنين وكمن في ما مضى من الزمان كما
تكمن النار في الحطب، وقد هب من سباته ليسترد القوة التي سلبت منه؛ لأن
الجنسية المسلوبة الحقوق لا تقيم على الضيم إلى الأبد إلا إذا ضعفت حيويتها
وقضى الناموس الطبيعي عليها بالموت، يُغِير شعب نشيط على بلاد فيفتحها عنوة
ويستولي على أهلها ويستبد بأحكامها إلا أنه إذا لم يكن له قوة كافية يوهن بها
المغلوب ولم يمح لغته بقي دائما في خطر من القيام عليه.
وإذا كان المغلوب أكثر منه عددًا قد يطرده من البلاد أو ينزع السلطة منه
ويرغمه على إنكار جنسيته.
وأما في المهاجر فتغلب القوة بطريقة لا تبعد عن طريقة الفتح؛ لأن
المهاجرين إذا كانوا أقوياء وكثيرين طردوا السكان الأصليين وحلوا محلهم، وإلا فإما
أن ينكروا جنسيتهم ويندمجوا في جنسية البلاد أو أن يرحلوا عنها ويطلبوا مهجرًا
يستقلون به ويحافظون فيه على جنسيتهم.
وعلى ذلك يكون أفضل حل لتنازع الجنسيات إما الإدماج والاندماج؛ وإما
الفصل والانفصال، وكلاهما لا يتمان إلا بالقوة، والشواهد على ذلك كثيرة في
التاريخ القديم والحديث.
هذه هي مسألة الجنسيات في نظر بعض علماء الاجتماع هي الفصل الأخير
من فصول المأساة التي بدأ تمثيلها منذ بدء المهاجرات أو بعدها بمدة، وكانت
الفترات بين الفصول طويلة إلا أنها لا تطول إلى الأبد، فقد أرخى الستار على
المشهد الأخير ليحضر بعده مشهد من أشد المشاهد هولاً تمثل فيه معارك عنيفة بين
الحق والقوة وتنتهي بانتصار القوة.
لا يوجد ناموس في الدنيا يحظر على الكائن الحي الاحتفاظ بشروط كيانه ولم
يوجد في الدنيا من قال للأسد وهو يفترس خروفًا: تخل عن هذا الخروف؛ لأن
الأسد يقبض على الخروف بدافع يدفعه إلى ذلك، وهذا الدافع هو الحق الذي يخوله
افتراسه، على أن للخروف أيضًا حقًّا بأن يقتل الأسد إذا استطاع إلى ذلك سبيلا.
فالحق والقوة يجتمعان في حالة الدفاع عن الحياة أوفى ما كان بأهميتها، والشريعة
المدنية نفسها تخول الإنسان حق الدفاع عن نفسه أي تجيز له في بعض الظروف أن
يدافع عن حقه بالقوة، والحرب ليست إلا دفاعًا بالقوة عن الحق للأمة. يرى شعب
أن شيئًا يلزم لحياته أو لكمالياته فيمد يده إلى ذلك الشيء ويكون حقه به كحق الأسد
بالخروف وصاحب ذلك الشيء يمنعه من أخذه أي يستعمل القوة للدفاع عن حقه
وليس للمغلوب منهما أن يشكو بل عليه أن يستعد لاستئناف القتال في المستقبل.
وإذا غلب أيضا وحكم عليه بالانكسار إلى الأبد وجب أن يرضى بما حكمت عليه
الطبيعة، وأن يعلم أنه خروف وليس أسدًا فيطبق أحواله الحيوية على أحوال
الخروف لأنه لا يستطيع أن يحارب الطبيعة التي لم تلده أسدًا.
للأمة التي تُسْلَب لغتها منها حق شرعي بالدفاع عن أثمن ملك لها وإذا لم يكن
لها قوة كافية للاحتفاظ بهذا الملك سقط حقها به. وللأمة السائدة حق بالاحتفاظ
بشرف لغتها وبمنع كل امتياز يضر بها أو يضعف أهميتها وإذا لم تستطع أن تؤيد
حقها هذا بالقوة وجب أن تذعن لمطالب الأمة المسودة فتساويها بحقوقها وتتنازل عن
سلطتها المطلقة وتحتفظ بما يستطاع من السيادة؛ لأنها إذا كانت شرطًا لازمًا لحياتها
أصبح زوالها قاضيًا عليها بالموت لا محالة.
لا يتوهمن أحد أني أرمي في هذا البحث إلى غاية مخصوصة أو أن أعني فيه
أمة مخصوصة؛ إذ لا غرض لي بالسياسة ووجهتي فيه الوجهة العلمية الاجتماعية
فألم بالمسألة من كل أطرافها وأطلقه على كل الجنسيات المختلطة على الألمان في
النمسا وبوهيميا وعلى الدنماركيين في الشلسويك الشمالية والبولونيين في بوزن
والرومانيين في ترانلسلفانيا والطليان في الترانتين ولا أستثني العرب في تركيا،
فالخمسة الملايين من المجر لهم الحق أن يحولوا إلى مجر الأحد عشر مليونا
المغايرين لهم الذين في هنكاريا وكأنهم بذلك يستمرون في العمل لاستقرار الفتح
الذي بدأ سنة ٨٨٤ إلا أن الألمان والسلاف والرومان الذين في هنكاريا لهم الحق
أيضا بأن يدافعوا عن أنفسهم، فإذا فازوا على المجر ونزعوا منهم جنسيتهم سقط
حق المجر وقضي عليهم أن يرضخوا لما قدر لهم منذ أكثر من ألف سنة، والتشيك
لهم حق بأن يطلبوا مملكة لأنفسهم يتحررون فيها من الألمان وكأنهم بذلك يستأنفون
المعارك القديمة التي جرت بينهم وبين الألمان في المارش والجبال البيضاء.
وللألمان حق أيضا بأن يقاوموا بالقوة قوة أكبر وأن يشهروا حربًا ثالثة تكون
الفاصلة بعد الحربين التاريخيتين السابقتين فيبرهنوا للتشك نهائيًّا أنهم ليسوا أكفاء
لمقاومة الفاتحين الذين دخلوا البلاد منذ اثني عشر قرنا ولم يقاومهم فيها أحد.
بقيت لي الكلمة الأخيرة عن تركيا وهي البلاد التي تهمنا أكثر من سواها؛
لأنها الوطن الذي نَحِنّ إليه ونحافظ على وحدته وكيانه فأقول: إن انفصال بعض
الجنسيات عن تركيا في الحرب الأخيرة قد يكون في مصلحتها ومنفعتها لأنها كانت
سوسا ينخر في جسم المملكة، وبقي فيها جنسيتان كبيرتان متكافئتان هم الترك
والعرب وما عداهما فجنسيات صغيرة ليس لأحدها أو لمجموعها من القوة ما يخشى
منه على نزع السيادة من الأمة السائدة ويقدر لها إما الرضوخ للقوة وإما الاندماج في
إحدى الجنسيتين الكبيرتين، فإذا أذعن الأتراك لمطالب العرب وساووهم بأنفسهم
وأشركوهم في الأحكام والإدارات اشتد ساعدهم وصلح حالهم وقوي ملكهم وإلا كان
القول الفصل للقوة وانتهى بها الإشكال على أحد أمرين إما الإذعان وإما الانفصال.
وسيبرهن المستقبل صحة هذه النظرية إن لم يكن عاجلا فآجلا، تلك سنة الكون لا
تنقضها سياسة الرياء ولا تحولها عن مجراها الوعود الكاذبة والعقود المرقعة.
إن مأساة الجنسية التي بدأ تمثيلها منذ ألوف من السنين على مرسح العالم لا
بد أن تختتم بمشهد تشهده أوربا تمثل فيه المذابح والشرور والجرائم وبجانبها
الشجاعة والشهامة والشرف، تلك مظاهر الطمع والجشع، وهذه مظاهر القوة
الحيوية؛ لأن الفروع المنفصلة عن جذوعها تحن إلى الرجوع إلى أصلها فتجاهد ما
استطاعت إلى ذلك سبيلا، فإما أن تموت في جهادها أو أن تفوز فتجتمع بأصولها،
ذلك جهاد عنيف تموت فيها الأمم الصغيرة وتباد الفروع التي ليس لها قوة كبرى من
جنسها تفزع إليها وتخلصها من نير عبوديتها، وتثبت الأمم الكبرى التي لا يقوى
عليها منازع، وقد ينقضي القرن العشرون قبل تمثيل هذا المشهد المؤلم ومن يعش
بعده يكن في أمن من حفظ جنسيته والتمتع بها حيثما كان.
تلك سنة الحياة العامة والقوة تُكْسِبها الحق بالبقاء وهي سنة تحكم على
الشموس في الفضاء، كما تحكم على القناعيات في الماء، إذا هلكت بها أمة فِلأن
ليس لها قوة تساعدها على البقاء كالكائنات البيولوجية التي تهلك في أدوار النمو.
(المقتطف) ... ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... أمين أبو خاطر