للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أنا عربي وليس العرب مني

س٤١ من صاحب الإمضاء بمصر:
مولاي السيد الإمام منشئ المنار نفع الله به المسلمين.
أما بعد، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فإننا نلتمس كتابة جواب
على سؤالنا هذا في المنار الأغر لكشف الغمة عن صحة الحديث المسئول عنه
ومعناه.
السؤال: قرأنا في جريدة المفيد البيروتية كتاب تهديد جاءها من بعض الترك
يذم فيه العرب جاء فيه حديث: أنا عربي وليس العرب مني. فهل من سند صحيح
لهذا الحديث بهذه الرواية أم برواية أخرى؟ وإذا صح أفلا يكون النبي صلى الله
عليه وسلم قد تبرأ من عموم العرب وهم قومه وهو منهم؟ وما سبب ذلك إذا صح؟
ثم إننا نسمع بشيوع هذا الحديث في أمة الترك حتى كل من خدم في العسكرية
الجهادية سمعه منهم برواية أنا عربي وليس الأعراب مني، ومنها: أنا عربي وليس
العرب مني فأية الروايات أصح؟ أفيدونا لا زلتم ملجأ لحل الغوامض.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سائل
(ج) لا يصح شيء من ألفاظ هذا الحديث بل هو موضوع مختلق على
النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا لم أسمعه من أحد إلا من بعض أفراد عسكر بلدنا
الذين حضروا حرب البلقان الأولى وحرب الروسية للدولة وغيرهم ممن أدوا الخدمة
العسكرية مع أمثالهم من الترك. نقل إلينا هؤلاء أن بعض أفراد الترك كانوا
يحتقرونهم ويقولون لهم: إن الله قد ذم العرب في القرآن العظيم الشأن بقوله:
{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (التوبة: ٩٧) وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: أنا عربي وليس العرب
مني. فمن هؤلاء من كان يتعجب من هذه الأقوال، ولا يدري ما يقول كالأميين،
ومنهم بعض الأذكياء الذين يقرءون القرآن كانوا يجيبون عن الآية بما يقابلها من
قوله تعالى في سورتها التوبة {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ
مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} (التوبة: ٩٩) فيُفْهَم من مجموع
الآيتين أن تلك في كافري الأعراب ومنافقيهم، وهذه في مؤمنيهم الصادقين الصالحين
وأن المدح والذم فيها ليس للجنس، ولكن لم أسمع من أحد ولا عن أحد منهم أنه
أجاب بأن الأعراب هم سكان البادية خاصة والواحد أعرابي، وأن علة كون
كفارهم ومنافقيهم أشد كفرًا ونفاقًا من أمثالهم في الحضر هي جفوة البداوة
وقسوتها وخشونتها كما هو معروف عند جميع الأمم، وأن التعرب أي سكنى البادية
كان محرمًا على المؤمنين بعد الهجرة؛ لوجوب ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم
ونصرته.
وأما الحديث فلم يكن أحد من أولئك العوام يعلم أن بعض الناس قد كذب على
الرسول صلى الله عليه وسلم ونسب إليه أحاديث لم يروها عنه أحد من حديثه منها
ما له معنى صحيح، ومنها ما معناه باطل كلفظه. وهذا القسم منه ما لا يَعْرِف
بطلان معناه إلا العلماء، ومنه ما هو بديهي يعرف بطلانه كل من شم رائحة
الإسلام كقول أولئك السفهاء من الترك إنه صلى الله عليه وسلم قال: أنا عربي
وليس العرب مني، إذ لا معنى لهذا النفي إلا التبرؤ من قومه العرب، وليس
الغريب أن يحفظ هذا بعض المتعلمين المتفرنجين الذين أفسدت السياسة عليهم دينهم
فكان من عصبيتهم الجنسية بغض العرب، ولكن العجيب الغريب وصول هذه
المفسدة إلى عوامهم الذين نسمع أن أكثرهم باق على فطرته الإسلامية يحب العرب
تدينًا؛ لأنهم قوم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد سمعت من بعض من شهد هذه المحاورات أنهم كانوا يجيبون عن الحديث
بأن أصله: أنا عربي وليس أعرب مني. وأنهم رووه محرفًا، ولا أدري أهذا
شيء كان سمعه ممن أجاب بمثل هذا الجواب؟ أم ظن أن أصله ما ذكر فصححه
بظنه؟
وإنني أورد هنا بعض الأحاديث الواردة في مناقب العرب إتمامًا للحجة على
أولئك المنافقين من الترك؛ وتثبيتًا لإخواننا المؤمنين الصادقين منهم ومن غيرهم،
فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: (أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي والقرآن
عربي وكلام أهل الجنة عربي) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وكذا العقيلي
ووضع السيوطي بجانبه في الجامع الصغير علامة الصحة.
ومنها: (إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من
كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) رواه مسلم في
صحيحه والترمذي عن واثلة. ولفظ الترمذي (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم
إسماعيل واصطفى من ولد إسماعلي بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا) إلخ
فهذا الحديث الصحيح يدل مع قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: ٣٣) أن العرب من بني
إسماعيل هم صفوة أصفياء الله من البشر كلهم وصفوتهم قريش وصفوة قريش بنو
هاشم، فهم لب اللباب، وخاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والتسليم صفوتهم فهو
سيد ولد آدم على الإطلاق، فكيف يتبرأ من قومه الذين اصطفاهم الله تعالى
واصطفاه منهم؟ ومن عساه يستبدل بهم في عرف أولئك المنافقين؟ وقد روى
الحاكم هذا المعنى من حديث ابن عمر بلفظ آخر وهو: (إن الله اختار من آدم
العرب واختار من العرب مضر ومن مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم،
واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم،
ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم) ورُوِىَ أيضا من حديث أنس مرفوعا:
(حب العرب إيمان وبغضهم نفاق) وسند هذا ضعيف يؤيده ويقويه سائر الأحاديث
في الباب مما تقدم وما هو في معناه كحديث (لا يبغض العرب إلا منافق) رواه
عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده عن علي كرم الله وجهه، وحديث (لا يبغض
العرب مؤمن) رواه الطبراني عن ابن عمر، وحديث (من أحب العرب فهو حبي
حقًّا) رواه أبو الشيخ عن ابن عباس.
فهذه الأحاديث تدل على أن هؤلاء الذين عرفوا ببغض العرب كلهم من
المنافقين المبغضين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر عن بعض
أهل الجراءة منهم التصريح ببغض الإسلام، والنيل من مقام خاتم الرسل عليه
أفضل الصلاة والسلام، والطعن في الخلفاء وسائر الصحابة الكرام، وهم يتعمدون
إذلال العرب وإهانتهم انتقامًا من الإسلام، ولا غرو ففي حديث جابر عند أبي يعلى
بسند صحيح (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) اللهم أعز الإسلام وأعز العرب، اللهم
وأعز من أعز العرب، وأذل من أذلهم إلى يوم القيامة.