للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ علي يوسف
(٢)
سياسته العامة والعثمانية الخاصة:
كان الشيخ علي كاتبًا سياسيًّا، وكانت سياسته إسلامية عثمانية مصرية، ثم
لما أظهر الاتحاديون العصبية التركية، واضطهاد العرب والعربية، كانت سياسته
إسلامية عربية أولا ثم عثمانية. أعني أنه يخدم الدولة العثمانية في كل ما يستطيعه
إلا إذا كان معارضًا للإسلام أو العرب، وقد خدمها أجل خدمة في تأسيسه لجمعية
الهلال الأحمر في مصر، فهو الذي سن هذه السنة الحسنة في مصر فاستفادت
الدولة منها تلك الألوف الكثيرة من الجنيهات مع بعثات طبية منظمة أدت لها الخدمة
النافعة في حربي طرابلس والبلقان كما كان له في مؤيده اليد البيضاء في إعانتها
من قبل على حرب اليونان.
كان للمؤيد التأثير العظيم فيما عليه المصريون الآن من التعلق الشديد بالدولة
العثماية والحب الخالص لها، وقد كانوا يمقتون الترك وحكم الترك مقتًا شديدًا لأنهم
لم يروا من آثار حكمهم ولم يحفظوا من أخبار حكمهم ما يوجب غير ذلك. وقد
تجلى ذلك في الثورة العرابية أظهر التجلي، فكان زعماؤها عازمين على جعل
حكومتهم مصرية محضة يتولى إدارتها المصريون دون الترك والمستتركين من
الشركس وغيرهم، فلما وقعت البلاد تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي ثقل ذلك على
المسلمين طبعًا، وأحسوا بضعفهم، فحدث عند بعض المشتغلين بالسياسة فكرة
التعلق بالدولة والرجاء فيها. وكبر ذلك ونمى بل وجد وظهر منذ تولى الأريكة
الخديوية العزيز الحاج عباس حلمي الثاني وفقه الله وأيده، فإنه بما سنه من زيارة
الآستانة في كل عام، أوجد في مصر حركة سياسية وطنية لم تكن في غابر الأيام،
وجرأ المصريين على ما لم يكونوا يتجرءون عليه من قبل، وولى وجوههم شطر
تلك العاصمة، وأنطق ألسنتهم وأجرى أقلامهم، بما لم يكن يعهد من أحد منهم،
وكان المؤيد خطيب هذا المنبر، أو منبر خطباء هذه السياسة، ولكن مصر لم تستفد
منه شيئًا مما كانت ترجوه من هذه السياسة، وإنما استفادت منه الدولة تعلق السواد
الأعظم من المصريين بها وحبهم إياها فكان من أثره جمع الإعانات لها في كل
حرب تدخل فيها.
لا موضع هنا لبيان أثر هذه السياسة في معاملة الإنكليز لمصر وللدولة
العثمانية ولا لبيان تأثير هذا الحب والتعلق من الخديو وأمته في نفس السلطان
عبد الحميد ثم في نفوس من خلعوه وخلفوه في هذه الدولة، ولا لبيان سيرتهم مع
عزيز مصر، ولا مع الإنكليز فيما يتعلق بسياسة مصر؛ لأن موضوعنا سياسة
الشيخ علي يوسف في المؤيد وفي نفسه، وخلاصة القول فيها أنها كانت إسلامية
في كل حال، عثمانية مصرية معًا أيام كانت الآمال والأماني تنوط بالدولة حل
المسألة المصرية بإخراج الإنكليز من مصر، ثم عثمانية محضة مصرية محضة
بعد ما خابت تلك الآمال، وطاحت تلك الأماني والأحلام، التي كان يقال في مثلها:
حياتنا بين أيدي المابين.
ثم عربية عثمانية في العهد الأخير، كما أشرنا إلى ذلك في فاتحة الكلام، بل
صارت خدمته للدولة في هذا العهد داخلة في سياسته الإسلامية العامة. وسيأتي
الكلام في سياسته المصرية خاصة.
يقول أعداؤه وخصومه في السياسة من قومه: إنه كان متقلبًا في سياسته،
ويعدون عليه من ذلك ما قد يعد له، والسياسة متقلبة بنفسها، فالذي يجمد على حال
واحدة لا يستطيع أن يكون سياسيًّا؛ لأن الأحوال تتغير دائمًا، والسياسي هو الذي
يدور معها كيفما دارت. وفي الحكم والأمثال دوام الحال من المحال، وإنما يعاب
على الرجل أن يكون متقلبًا في المقاصد لا في الوسائل.
فعلى هذه القواعد التي لا نزاع فيها يرد أنصار الفقيد شبهة خصومه بأنه كان
في سياسته أثبت من الأطواد، أما سياسته الإسلامية فالأمر فيها ظاهر، ولم يتهمه
بالتحول عنها متهم، وأما سياسته العثمانية فقد ثبت عليها حتى الممات أيضًا،
وآخر خدمة خدم بها الدولة تأسيس جمعية الهلال الأحمر المصرية، وكان عضوًا
عاملاً في جمعية إعانة الحرب أيضًا. نعم إنه شن على جمعية الاتحاد والترقي
حربًا عوانًا لاعتقاده أن ما سارت عليه في سياسة الدولة وإدارتها كان ضارًّا بالدولة
العلية والأمة العثمانية عامة، وقومه العرب خاصة، ومضعفًا للرابطة بين الدولة
وبين مصر، ومنافيًا للسياسة الإسلامية أيضًا، ولم يكن رحمه الله منفردًا بهذا
الاجتهاد بل كان متفقًا مع جماهير العثمانيين من الترك والعرب الذين ألفوا عدة
أحزاب لمقاومة الجمعية، وصار أكثر أعضاء مجلس الأمة عليها فاضطرت إلى
حله بالإرادة السلطانية، ثم إن الجمعية نفسها صرحت بأنها كانت مخطئة في كثير
من أعمالها ومقاصدها وأنها رجعت عنها، ومنها تتريك العرب وغيرهم من الأقوام
العثمانيين.
فظهر للمتتبع للحوادث أنه قد ظهر أنه كان مصيبًا في انتقاده، وكان آخر ما
ظهر للجمهور من ضرر سياستها هو أول شيء كان أول من انتقده عليها جهرًا،
وهو جعل السلطة في أيدي الضباط وإشغالهم بالسياسة، وقد قال في هذا الموضوع
كلمته المشهورة في بيروت في أول العهد بإعلان الدستور، وسكر الناس كلهم
بخمرة الفرح والسرور، وهي أن السيف والسياسة لا يجتمعان في غمد واحد. قال
ذلك لما رأى بعض صغار الضباط الاتحاديين في بيروت يتصرف في الحكومة
تصرف الحاكم المطلق المستبد. ثم تبين أن ضرر اشتغال الضباط بالسياسة
والإدارة قد أضعف الدولة وقسم القوة فيها على نفسها، وكان أهم أسباب الخذلان في
الحرب البلقانية الأخيرة كما صرح به القائد الألماني الكبير البارون فندر غلترز
باشا منظم الجيش العثماني.
ويقولون: إن التقلب والذبذبة في السياسة العثمانية هو ما جرى عليه خصوم
الفقيد الذين صدق عليهم المثل رمتني بدائها وانسلت، ذلك بأنه ينتصرون لصاحب
القوة أخطأ أم أصاب نهض بالدولة أم هوى بها، فكانوا يقدسون السلطان عبد الحميد
ويقولون في طلاب الدستور والإصلاح منه أشد مما قال مالك في الخمر. وكان
قاعدة سياستهم ما وضعه لهم زعيمهم مصطفى كامل باشا من الغلو في السلطان
عبد الحميد والتشنيع على طلاب الإصلاح والدستور منه، حتى إنه أوجب على من
ينطق بالشهادتين، الشهادة لله تعالى بالوحدانية والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم
بالرسالة، أن يثلثهما بالشهادة للسلطان عبد الحميد إلخ، وقد صرحوا في جريدتهم
اللواء قبل إعلان الدستور بيوم واحد بأن طلاب الدستور أعداء الدولة الخونة؛ لأنه
يضر الدولة ويفسدها ... بل كانوا بعد إعلان الدستور أيضًا يصيحون في وجوه
بعض العثمانيين المبتهجين به. ثم لما استقرت السلطة لجمعية إعلان الدستور
وصار بيدهم المال والقوة قدسوهم كما كانوا يقدسون السلطان عبد الحميد.
هذا ملخص ما يرد به أنصار الشيخ على خصومه في مسألة ثباته على
سياسته العثمانية في جوهرها، وهو أنه كان يتبع المصلحة ويدور معها، وهم
يتبعون رجال السلطة ويدورون معهم، وقد فتح ههنا الباب لخصم ثالث يقول: إن
الشيخ عليًّا كان من أنصار عبد الحميد أيضا، بل هو أستاذ مصطفى كامل في الغلو
فيه، وقد نال من رتبه وأوسمته أكثر مما نال مصطفى كامل، وبقي ثابتًا على
الثناء عليه فلم ينقلب عليه بعد سقوطه، كما انقلب عليه تلاميذ مصطفى كامل،
وكنا ننتظر أن يعد أنصاره هذا من ثباته، ولكنك تذكر عنهم أن الشيخ كان يتبع في
خدمة الوطن العلية المصلحة، لا الرجال الذين بيدهم المال والقوة، فهل كان الشيخ
علي يجهل أن السلطان عبد الحميد مخرب للدولة أم لا؟ إن قلت: نعم فما هو
بالسياسي، وإن قلت لا فما هو بالناصح الذي يتبع المصلحة. وإنما الناصح في هذه
المسألة هو المقطم دون المؤيد ودون اللواء الذي تلقى عنه السياسة الحميدية
كالمصرية، ثم أربى عليه في الغلو فيها وغش الناس بمدح ذلك السلطان المخرب.
فما قول أنصار الشيخ الذي يبالغون في مدح سياسته فيغرقون في هذا؟ وما قولك
وأنت تبحث في سياسته بحث المؤرخ الصادق المنصف.
أقول: إن آخر ما أعرف من شوط أنصار سياسة المؤيد في هذه المسألة أن
السلطان كان هو الدولة، فكان لا بد لمن ينتصر لها؛ لكونها إسلامية وللتَّقوِّى بها
على الاحتلال الأجنبي في مصر من مدح السلطان والدفاع عنه كيفما كانت سيرته
في سياسته وإدارته للمملكة. والسياسي لا يكون صوفيًّا ولا ناسكًا يلتزم الحق من
كل وجه، بل يلتزم مصلحته والمنفعة التي اتخذها قاعدة لسياسته. والمقطم ما كان
يذم السلطان ويندد بمخازيه انتصارًا للحق وغيرة على الدولة، بل ليصرف عن
الدولة قلوب المصريين ويقطع حبل رجائهم فيها خدمة للاحتلال، لأجل هذا كان في
حجاج وخصام دائم مع المؤيد ثم مع اللواء الذي اتبع سنن المؤيد، وغلا فيها غلوًّا
كبيرًا، وأما الانتفاع برتب السلطان وأوسمته فلا يلام عليه مثل الشيخ علي ولا
مصطفى كامل، لأن المتصدي للزعامة السياسية يحتاج إلى ذلك؛ لأنه يزيد في
جاهه ويعلي من كلمته، ويؤهله للقاء عظماء الحكام والسياسيين أصحاب المناصب
فيعدونه من طبقتهم، وإنما يعاب بمثله من يخدم المصلحة العامة تعبدًا لله تعالى، أو
من يبني خدمته على مقاومة تمييز بعض الناس على بعض بهذه الرتب التي تضعها
الحكومة يطلب إبطالها، ليتفاضل الناس بعلومهم وأعمالهم، لا بالألقاب اللفظية،
ولا حلي الأوسمة الفضية والذهبية.
أما أنا فأقول: إن كلا من المؤيد واللواء، ومثلهما الأهرام، قد أضر
المسلمين والعثمانيين عامة والمصريين خاصة بما جرين عليه من الإسراف في مدح
السلطان عبد الحميد والدفاع عنه، ولولا أن جمهور المسلمين كانوا يحملون ذم
المقطم لسياسته وإدارته وتنديده به على سوء النية ويظنون أن أخباره غير صادقة،
ولولا تلك الردود عليه لكان نفع ما نشره عظيمًا، ولقد كان يكون النفع أعظم لو
كان المؤيد واللواء ينشران مثل تلك الأخبار ويبنون عليها مطالبة السلطان بالإصلاح
مشايعة لطلابه من العثمانيين مع الاعتدال.
وقد كنت أقول لمن أذاكرهم في ذلك من عقلاء المصريين: إن المقطم ينشر
بعض ما يعلم، ويعلم بعض ما يقع، وإنه يجب عليكم أن تعتبروا بأخباره، مهما
كان ظنكم ورأيكم في نيته، وإلا كنتم طالبين التلذذ بمدح الدولة والسلطان، لا
لمعرفة الحقيقة التي يتبعها الصلاح والفساد، فتشايعون السلطان على ما يضر،
وتتكلون عليه في أمر الإسلام وأمر مصر، وكل ذلك من بناء المصلحة على وعث
من الرمل، بدلا من بنائها على الصخر، وهو أن تعرف الأمة حقيقة حال دولتها
وحكومتها، وتعتمد على سعيها وعملها في إصلاح نفسها وإصلاحها.
ومما أعرفه للشيخ علي رحمه الله تعالى من المزية في سياسته العثمانية بل
في أخلاقه وسجاياه الفطرية، إنه كان كلما ازداد علمًا وخبرة بأحوال الدولة ازداد
ميلاً إلى مساعدة طلاب الإصلاح من العثمانيين على ما يطلبونه، ولكن مع روية
واعتدال، ومحافظة على كرامة السلطان لعدة أسباب منها مراعاة صلة الولاء بينه
وبين الخديو التي كان هذا يحافظ عليها فلا ينقطع عن زيارة ذاك سنة من السنين
ومنها ما كان يراه أولا من نفع تعلق المصريين به في المسألة المصرية ومنها اتقاء
أن يظنوا أنه صار خصمًا للدولة. ومنها أن مفاجأة الناس بخلاف ما يرونه ربما
يفضي إلى ضد ما يراد منه. وينفرهم من المؤيد فلماذا لم يعد خصومه هذا من ثباته
على حفظ كرامة السلطان ويعدون مساعدته لطلاب الإصلاح من التقلب في السياسة
وعدم الثبات.
لا أذكر من الشواهد على رغبته في معرفة حقيقة حال الدولة ومساعدة طلاب
الإصلاح فيها ما كان بينه وبين مراد بك صاحب جريدة ميزان الذي كان من زعماء
جمعية الاتحاد والترقي الأولى، ولا ما كان من صلته بمحمود باشا الداماد، فإن هذا
مما لا أعرف حقيقته وخفاياه. وأكتفي بأصح الشواهد وأثبتها وهو ما وقع لي معه:
إنما كثر اجتماعي به وكان مبدأ صحبتي له في سنة ١٣١٦ إذ كنت أطبع المنار
بمطبعته في أواخر سنته الأولى وأوائل سنته الثانية قبل شراء مطبعة له، وما كان
أسرع ما وثق بي على قلة ثقته بالناس، ولما رأيته يحدثني بحرية واستقلال فكر،
ويقبل مني ما أذكره له من الانتقاد على الدولة والسلطان، خلافًا لأكثر من عرفت
في مصر من الإخوان، رغبت إليه في جعل المؤيد لسانًا لطلب الإصلاح في الدولة،
فقال لي: اكتب ما تشاء من رأيك في ذلك مع الاعتدال وحفظ كرامة السلطان،
وذلك كاف في إيصال هذه الأفكار والآراء إلى الناس. فكتبت عدة مقالات في
موضوع حاجة الدولة إلى الإصلاح وما يجب منه في هذا العصر، فكان ينشرها في
صدر المؤيد غالبًا كما ينشر غيرها من مقالاتي التي كنت أذيلها بإمضاء م. ر
ويعزوها هو إلى أحد أفاضل الكتاب المجيدين.
ما كنت أظن يومئذ أن أحدًا من المتعلمين المدركين في مصر ينكر عليه نشر
تلك المقالات؛ لأنني كنت أنشر في المنار ما هو أشد منها في تمثيل الخلل والفساد،
وما يجب على الأمة والدولة من الإصلاح، حتى دخلت عليه يومًا فإذا هو في جدال
مع محمد بك فريد في مقالة من تلك المقالات، كان فريد يقول له: إن نشر مثل هذه
المقالة يعد خروجًا من المؤيد على خطته، وإن ذلك قد ساء إخوانهم الوطنيين
جدًّا ... وقد علمت منه بعد ذلك أن كثيرًا من أصحابه كلموه بهذا اللسان، ولم ير أن
يذكر لي ذلك حتى سمعت بأذني، وأطلعني أيضًا على رسالة جاءته من تونس
وأخرى من جاوه في الرد على مقالة من مقالات المنار ساءت كثيرًا من الناس في
تلك الأقطار، إذ عدوا النصيحة لجهلهم عداوة للدولة وخروجًا عليها، ولكنه لم
ينشرهما؛ لأنه كان يرى أن ما ينشره المنار حق، وقد كتب بمداد الغيرة
والإخلاص للدولة.
أليس هذا دليلا على كونه كان يراعي المصلحة العامة، ويحب إصلاح الدولة
ويساعد المصلحين، بشرط أن لا يضر بنفسه ولا بجريدته؟ بلى وأنا على ذلك من
الشاهدين، ولعله لولا ظهور جريدة اللواء والتزامها خطة الغلو في تقديس السلطان
عبد الحميد وفي المسألة المصرية ووقوفها للمؤيد بالمرصاد، وإسامتها تأويل كل ما
ينشر فيه بقلم الروية والاعتدال، لما وقف المؤيد بالمصريين عند ما عهدوا من
السياسة العثمانية، بل لسدد وقارب في السير إلى الغاية التي تجب، وهي معرفة
حقيقة حال الدولة ومعرفة حقيقة أنفسهم، ومكانهم منها ومكانها منهم، وما يجب
عليهم لها ولأنفسهم، ولكانت مصر حينئذ هي المعين الأكبر لأحرار العثمانيين على
ما كانوا يطلبون من الإصلاح، ولوصلوا بذلك إلى خير مما كان من إكراه الجيش
السلطان على إعلان الدستور ثم خلعه بقوة السلاح، وما ترتب على ذلك من الشقاق
والخذلان، الذي نشكو من سوء عواقبه إلى الآن.
وجملة القول في سياسة المؤيد العثمانية أنها بنيت أولا على أساس المسألة
المصرية، وقصد بها تقوية الصلة بين الدولة ومصر، وبين السلطان والخديو،
وكان الشيخ علي لا يعرف في أول العهد بها من أمر الدولة والسلطان شيئًا، إلا ما
اقتضته الحال من تلك الحركة الخديوية، ووافق ما جبل عليه من النزعة الإسلامية،
ثم إنه صار كلما زاد علمًا بالدولة واختبارًا يتلطف في النصح، ويساعد طلاب
الإصلاح من العثمانيين، مع مراعاة ما كان يرمي إليه من تقوية الصلة بين مصر
والدولة العلية، والمحافظة على كرامة السلطان إن لم يكن لذاته فَلِمَا هو متحمل به
من لقب الخلافة الإسلامية، ولما بينه وبين عزيز مصر من الرابطة الرسمية.
وأما اللواء فقد بدأ سياسته العثمانية بما تلقفه من سياسة المؤيد في طفولته أي
المؤيد وغلا فيها كدأبه وعادته، وكان كلما زاد صاحبه معرفة بسوء حال السلطان
عبد الحميد وزبانيته، يزداد غلوا في إطرائه وتقديسه، وإسرافًا في التشنيع على
طلاب الإصلاح للدولة. ذلك بأنه كان له راتب مالي يأخذه من المابين فوق ما نال
من الرتب والأوسمة لنفسه ولكثير من المصريين، وفوق المال الذي كان يأخذه
بأسماء أخرى كعقد الاحتفالات السنوية بعيد الجلوس السلطاني في أوربة، ووراء
ذلك ما لا يحسن ذكره في هذه الترجمة فإذا كان هذا هو الثبات المحمود عند الذين
يطعنون في الشيخ علي لتحوله عنه فأعدل ما نحكم به في هذه القضية قول الخليفة
العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
على أننا رأينا الشيخ ثبت على خدمته للدولة في تقوية حقوقها في مصر،
وناهيك بتلك الغارة الشعواء التي شنها على حكومة بلاده في مسألة القضاء الشرعي
إذ أرادت بضغط الإنجليز أن تبطل جعل تولية قاضي مصر الأكبر من حقوق
السلطان يرسله من الآستانة وفي إعانة المصريين لها بالأموال، ولا سيما في أزمنة
الحروب والشدائد، وفي تقوية الصلة بين عابدين والمابين كما يقال في عرف هذا
العصر وقد ختم ذلك بأفضل خاتمة، وهي تأسيس جمعية الهلال الأحمر، واستقال
أخيرًا من لجنة إعانة الحرب البلقانية؛ لأنه اقترح أن ترسل اللجنة إلى الدولة ما
بقي في صندوقها من المال وهو مبلغ كبير، بعد انتهاء الحرب، فأبى الرئيس
وأكثر الأعضاء ذلك.
فليدلنا المعارضون على خدمة غيره لها، التي تضاهي خدمته وتغني غناءها،
ومن سَبَرَ غَوْرَ السياسة يعلم أن حملته على الاتحاديين كانت أنفع للدولة في سياستها
ومصلحتها الدائمة من تلك الإعانات المالية؛ لأنه تفيد في إصلاح سياستها الدائمة،
والإعانة منفعة مؤقتة عارضة، ورحم الله الأستاذ الإمام حيث قال: ما وعظك مثل
لائم ولا قوَّمَك مثل مقاوم.
سياسته المصرية:
كانت مقاومة الاحتلال والسعي لجلاء الجيش الإنكليزي عن مصر من قواعد
سياسة المؤيد الأساسية، وقد كان ذلك مرجوًّا لأن حكومة لندره كانت تصرح رسميًّا
بأن احتلالها للبلاد المصرية مؤقت وأنها ستنجلي عنها؛ ولأن دول أوربة كانت
معارضة لها في احتلالها معرقلة لكل ما يثبت قدمها، وأشدهن في ذلك فرنسة،
ولأن الدولة العثمانية كان يحسب لها حساب كبير في هذا. فلما عرف الفقيد حقيقة
الدولة العثمانية، ومنتهى شوطها في المسألة المصرية ورأى كيف رجعت فرنسة
القهقرى في حادثة فشوده الشهيرة، ثم كيف عقدت سنة ١٩٠٤ مع إنكلتره الاتفاق
على ترك حقوقها لها بمصر، في مقابلة مساعدتها على احتلال مملكة مراكش، ثم
كيف تتابعت سائر الدول الكبرى على إقرار إنكلتره على احتلالها في مصر،
وإعطائها العهود على عدم معارضتها فيه، لما علم ذلك رأى أن العمل النافع لمصر
إنما يكون فيها وفي لندره؛ لأن الجذب والدفع صار محصورًا بين المصريين
والإنكليز محبي الإنصاف أو المعارضين لحكومتهم في سياستها الاستعمارية.
فحصر عمله في هذين الأمرين، فقامت عليه قيامة جريدة اللواء وأنصارها،
وسموا المؤيد بالمقطم الأحمر؛ لأن الوطنية وخدمة مصر عندهم تتجلى في شيئين:
مطالبة الانكليز بالجلاء عن مصر، وشتم نظارة الحكومة وذم كل عمل تعمله في
مصر. أما الفقيد فقد اغتنم فرصة إصرار اللواء على الغلو في المعارضة للسير
على ما أوجبه عليه تغير السياسة الخارجية وطول التجربة والاختبار من الاعتدال
في المعارضة، وإقامة الحجة لمصر بأن فيها من يتكلم ويناضل بالحجة والبرهان لا
بالتمويه ومكابرة الحسن والعيان، وكان يرى أن الحماقة والجهل، قد تكون مجنا
للروية والعقل، فيكره أن يصادر اللواء في حريته، على إيذائه له ولوطنه.
أما عمله في مصر لمصر فطرقه وأنواعه كثيرة، منها ما هو خاص بتنبيه
الأهالي وإرشادهم إلى ما ينفعهم في التربية والتعليم والآداب والفضائل، وفي
الكسب والاقتصاد والتعاون على الخير، ومنها ما يتعلق بحقوق الأمة على الحكومة،
والتعارض والتجاذب بين مصر والمحتلين.
وكان ركن سياسته المصرية الركين تأييد نفوذ الأمير الشرعي الخديو وسلطته
في كل أمر، والتوسل إلى ذلك بكل ما يمكن، ويحتج بأن كل ما زاد في سلطته
ونفوذه فهو ربح لمصر على الاحتلال، وكل ما نقص منها فهو مزيد في سلطة
الاحتلال ونفوذه.
فكل أمر للأمير فيه رأي أو قصد فهو الخادم الأمين له فيه، ينصره برأيه
وقلمه ولسانه، وإن خالف رأي نفسه إلا أنه في هذه الحالة قد يتلطف في عرض
رأيه على مسامع الأمير قبل الشروع في العمل، فإن قبل فذاك، وإلا أخذ بقول
الشاعر:
سيد القول ما يقول الرئيس
وقد ثبت على هذه السياسة واستقام على هذه الطريقة طول حياته، ولقي في
ذلك من الألاقي ما يلقاه أمثاله من كيد الحاسدين له على قربه من أريكة الملك،
ومعارضة المخالفين له في السياسة والرأي، وخسر كثيرًا من الأصدقاء الذين لا
ينكر ما لهم عليه أو على الأمة من الفضل؛ لأن هؤلاء يرون أن الإخلاص للبلاد
في خدمة الأمير إنما تكون بحسب اعتقادهم ورأيهم وإن لم يرضه أحيانًا.
وقد كانت إضاعته لبعض هؤلاء الأصدقاء الأوفياء أنهض حجج من رموه بقلة
وعدم الوفاء، ويقل من يعرف كنه هذه الوقائع ويزنها بالقسطاس المستقيم، ويقل في
هذا القبيل من يبين للناس ما هو الراجح والمرجوح في هذا الميزان، للتعريف
بحقيقة هذا الرجل الذي يقل مثله في الرجال.
إننا سمعنا بعض الذين رثوا الرجل في منظومهم ومنثورهم قد وصفوه بأنه
أوفى الأصدقاء، في هذا الزمن الذي قل فيه الوفاء، وإنني - ولا أنكر أن بعض
الناس غلوا في إطرائه - أقول: إنه كان ذا وفاء يقل من يفضله به، وأما الذين
يصفونه بعدم الوفاء فمنهم صاحب الهوى المتبع الذي يتكلم بسوء قصد، ومنهم
المنصف الذي يعتقد ما يقول.
أما سيئ القصد فلا علاج لمرضه ولا جواب لقوله، وأما المنصف فله عندي
جواب استخرجته من الشواهد التي عرفتها في هذا الباب، ولعلها أوضحها وأكبرها،
وهو أن الرجل كان سياسيًّا قبل كل شيء، فهو ما ترك صداقة صديق إلا في
سبيل السياسة، وإلا بعد أن تعذر عليه الجمع بين صداقته وبين ما تقتضيه تلك
السياسة.
وما لي لا أصرح فأقول كان إذا غضب مولاه، الذي تدور سياسته على قطب
رحاه، على أحد أصدقائه، يبذل كل ما يراه في وسعه من وسائل إرضائه، فإن لم
يستطع حافظ على مودته بالقدر الممكن، فإذا رأى أنه مضطر إلى هَجَره هجره
هجرًا جميلاً، وإذا اضطر إلى كتابة ما يسوؤه لا يتعدى حد الضرورة التي تقتضيها
السياسة إلا قليلاً. وإذا استطاع في أثناء ذلك أن يخدمه بشيء خدمه، إن لم يكن
ذلك في الجهر، فمن وراء الستر. وهل يستطيع السياسي الذي يخدم الأمراء
والملوك أكثر من هذا؟
كأني ببعض هؤلاء المنصفين يقول إذا قرأ هذا: إن عندي انتقادًا آخر على
الرجل وهو أنه ما كان يقف في مثل هذا عند حد المصلحة العامة أو عند الحق
ومقتضى الفضيلة. وإنني أُذَكِّر هؤلاء - الذين تمثل بعضهم أمامي الآن - بما قلته
من قبل في السياسي الذي يشتغل بالسياسة فعلا من كونه لا يزن أعماله بالميزان
الذي يزن به الصوفي أو فيلسوف الأخلاق، وليس ما شرحته من سيرة الرجل في
هذه المسألة بالذي يكثر في عصرنا من تصل به الفضيلة إلى مثله. ولا هو بالذي
يرتقي إلى وضعه في ميزان سياسة عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب رضي
الله عنهما، ولا بالذي يعد من مقامات الصديقين، المشروحة في كتابي إحياء العلوم
ومدارج السالكين.
أين هذه السيرة ممن كان إذا سخط من أحد؛ لأنه لم يعظمه التعظيم الذي يحبه
لنفسه يغلو جهد طاقته في ذمه وإيذائه، ويقعد له بكل طريق يسير فيه ولو إلى
خدمة الملة والأمة، فيضع له العواثير، ويحفر له الأحافير، ولا يرقب فيه إلاَّ ولا
ذمة؟ أيجوز أن يقرن هذا بذاك؟ كلا إن ذلك ظلم وجهل بأقدار الرجال، لا يذهب
إلى مثله إلا بلداء العوام وأغرار الأطفال.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))