للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة السنة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل:٥٩) ، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ} (النمل: ٩٣) ، {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ
العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجاثية:
٣٦-٣٧) .
فنحمده بما حمد به نفسه، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته
من بني آدم الذين فضلهم على كثير من خلقه، محمد النبي الأمي، العربي
الحجازي، الذي أرسله رحمة للعالمين، وأتم به نعمته في الدنيا والدين، وآله
الطيبين الطاهرين، وصحبه الهادين المهديين، والتابعين لهم في هدايتهم وهديهم
إلى يوم الدين.
وبعد فإننا نُذَكِّرُ قُرَّاءَ المنار على رأس سنته السابعة عشرة بنحو ما ذكَّرناهم
في السنين الخالية، من سوء عاقبة الإفراط والتفريط اللذين رُزِئَتْ بهما أمتهم
الجاهلة الغافلة: الإفراط في عبادة الهوى واتباع الشهوات، والانهماك في الفواحش
والمنكرات، والمحافظة على البدع وسيئ العادات. والتفريط في حقوق الله وحقوق
الأمة، وما يجب من التزام هدي الكتاب والسنة، ومجاراة الأمم بما يستطاع من
حول وقوة، ولا سيّما قوة الاعتصام والوحدة، وقوة العلم والمعرفة، وقوة الكسب
والثروة.
ثم نذكرهم بتلك الآيات والعبر، وهاتيك المواعظ والنذر، وبما يُفتنون به في
كل عام، وما تسلب من ملكهم الأمم والأقوام، وبيان سنن الله تعالى في الظالمين
والمسرفين، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: ٤) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ
عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: ١٠١) [١] ، {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: ١٠٢) .
سبحان الله! إن من العقلاء من يتعظ بالعبارة، ومنهم من يكتفي بما توحيه
إليه الإشارة، وإنهم ليستنبطون من وقائع الأحوال ما يستعدون به لما ينتظر في
الاستقبال، ولو على سبيل الفرض والاحتمال، وإن الأمم أشد من الأفراد احتياطًا،
وأخفى حيلة وأدق استنباطًا، وأوسع في المستقبل آمالاً، وأكثر استعدادًا له وأعمالاً؛
لأنها أطول أعمارًا، وأشد قوة واقتدارًا، وأكثر أعوانًا وأنصارًا، فما بال أمتنا لا
تتعظ بكلام الله ولا بكلام البشر، ولا تعتبر بما تشاهده من الأحداث والعبر، وكلما
أنذرها الله بطشته تتمارى بالنُّذُر؛ {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ
بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: ٤-٥) ، {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ
الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} (الأنبياء: ٤٥) .
تركت هذه الأمة هداية القرآن، ففاتها ما كانت نالت به من الملك والسلطان،
والعلم والعرفان، والبسطة في العمران، وأمست غافلة عن سبب ذلك التوفيق وهذا
الخذلان؛ بل أتى عليها أحقاب من الزمان، لا تشعر بكنه هذا الخسران، وقد
استيقظ فيها الشعور بما فسد من أمر دنياها، قبل الشعور بما كان سببًا له من فساد
أمر دينها، وبما خسرت من سلطانها وأملاكها، قبل الشعور بما خسرت من أخلاقها
وملكاتها. ولما شعرت بالخطر على حياتها المادية والسياسية، غافلة عن عللها
الروحية وأسبابها المعنوية، شرعت في شيء من الإصلاح الصوري، بدون أن
تؤديه بروح الإصلاح المعنوي، فعُدَّ السلطان محمود مصلحًا بتغيير الزي الرسمي
ونظام الجندية، والسلطان عبد المجيد مصلحًا بإعلان التنظيمات الخيرية،
والسلطان عبد الحميد مصلحًا بإنشاء نظارة العدلية، ومصطفى رشيد باشا مصلحًا
بإدخال الدولة العثمانية في سلك الدول الأوروبية، ومدحت باشا وأعوانه مصلحين
باقتباس القوانين الغريبة الغربية، ومحمد علي باشا وأحفاده مصلحين بِفَرْنَجَةِ البلاد
المصرية، والأمير عبد الرحمن خان مصلحًا بالتأليف بين القبائل الأفغانية. ولم
تتوجه همة أحد إلى إصلاح الأخلاق والعادات، وإزالة البدع والمنكرات، وجمع
الكلمة التي فرقتها المذاهب واللغات، فما زاد الأمة ذلك الإصلاح الصوري إلا
ضروبًا من الفساد، ولا أفاد الدولة إلا إضعاف الاستقلال وإضاعة البلاد، {بَلْ
مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: ٤٤) .
لا أقول إن جميع ما قام به أولئك الرجال لم يكن مطلوبًا، ولا أقول إن
ضرره وما ترتب عليه من الفساد كان ذاتيًّا؛ بل أقول: إن أكثره كان ضروريًّا،
ولكنه لم يكن علاجًا لهذه الأمة من طبيب اجتماعي، عَرَف من أمراضها الظاهري
والباطني فوصف لها من الدواء ما يزيل العلة، ويحفظ البنية، ويقوي المنة، لذلك
رأيناها بعد هذه المعالجات لم تزدد إلا مرضًا، حتى كادت تكون حرضًا، ازدادت
ذلاًّ وفقرًا، وتفرقًا وضعفًا، وفسادًا في الأخلاق، وإسرافًا في النفاق، وكان ما
أُدخل فيها من علوم الأمم القوية وقوانينها وآدابها، كالجسم الغريب الذي يدخل في
البنية فيفسد مزاجها؛ لأنه لم يكن على حسب استعدادها وحاجها؛ بل كان تقليدًا
صوريًّا، أو عارضًا وقتيًّا؛ فمنه ما كان ضارًّا، ومنه ما كان نافعًا؛ فأما الضارّ
فأكبر ضرره التقاليد والقوانين الإفرنجية، التي قطعت كثيرًا من روابط الأمة المِلِّيَّة،
وأزالت ما أزالت من مقوّماتها ومشخصاتها الاجتماعية والأدبية، ولم تستبدل بها
ما يحل محلها من مقومات الأمم الأوروبية؛ بل صارت عيالاً عليهم في جميع
الشؤون، حتى انتهى ذلك إلى هذا الفتون، بأن فقدت الاستقلال، باسم النفوذ أو
الحماية أو الاحتلال، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام: ١٢٩) ، {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: ١٣١) ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: ١٣٢) .
وأما ما كان نافعًا من تلك الأعمال التي وسمت بسمة الإصلاح، فإنما كان
نفعه موضعيًّا، وعارضًا لا دائمًا، فكان كمداواة بعض أعراض الزهري (الداء
الإفرنجي) الظاهرة بما يزيلها، مع بقاء العلة في الباطن (كتسمم الدم) تصدر
عنها آثارها، فما زال منه بالمعالجة الموضعية اليوم، يظهر ما هو شر منه
وأعصى على العلاج في الغد (كلما داويت جرحًا سال جرح) ذلك مثل ما كان
في الدولة العثمانية، وهي أكبر مظاهر السلطة في الأمة الإسلامية، وخير منه ما
قام به الأمير عبد الرحمن، من جمع كلمة قبائل الأفغان، وتدريبها على القتال،
الذي يحفظ به الاستقلال، وكذا ما قام به الأمير محمد علي في مصر، فإنه بنى
ركني الثروة والقوة على أساس العلم، ولو أتم أحفاده ما بدأ به ببناء ركني الأخلاق
والآداب، على أساس الدين وسنن الاجتماع، لَتَمَّ لهم تكوين الأمة، ولاستقام لهم
بالأمة أمر الدولة، فهذا العصر عصر الأمم والشعوب، لا عصر الأمراء والملوك،
ولكن جميع أقيال المسلمين، كانوا - ولا يزالون - عن هذا غافلين، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا
فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فاطر: ٤٤) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا
مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} (غافر: ٢١) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: ٩) .
نعم، إنهم لم يسيروا في الأرض، لأجل الاعتبار بسنن الله في الكون،
فينظروا في سوء عاقبة الأمم الجاهلة النائمة، ومصير الدول المستبدة الظالمة،
وحسن عاقبة الأمم العالمة العاملة، وسيادة الدول المنظمة العادلة، وكيف أن
إصلاح الأرض وعمران الدور، لا يغني عن إصلاح الأخلاق وارتقاء الجمهور،
ولو ساروا لما نظروا، ولو نظروا لَمَا أبصروا، ولو أبصروا لَمَا اعتبروا، {أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) ، وأي عمى أشد
من عمى الاستبداد؟ وهو مصدر كل فساد وأصفاد، حتى إنه يفسد الطباع، ويغير
الأوضاع، ويقطع رابطة الزوجية، ويزيل عاطفة الأبوة والبنوة، فيغري الولد
بقتل والده، والوالد بقتل ولده، وكيف يؤمن على حياة أمته، من لا يكبر عليه قتل
والده أو ولده؛ إذا هو نازعه في سلطته، أو عارضه في إرادته؟ فانتظار الأمم أن
يكون صلاحها ورشادها ممن لا حظَّ لهم من حياتهم إلا استذلالها واستعبادها، اتباعًا
لترفهم ونعيمهم، وافتتانًا بإطرائهم وتعظيمهم، يشبه طلب العلم من الجاهلين،
والتماس الهدى من الضالين {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ
الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا
فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٦- ١١٧) .
ألا إنه لا بقاء مع ظلم وفساد، ولا عدل مع استبداد، ولا هلاك مع إصلاح،
ولا إصلاح للدولة إلا بصلاح الأمة، ولا صلاح لأمة إلا إذا كان فيها بقية من
أولي الرأي والعزم، يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد في الأرض، ولا تأثير
للأمر والنهي إلا بإجماع الأمر وإحكام الرأي، ولا يفيد الإحكام والإجماع، إلا مع
مراعاة سنن الاجتماع، لاختلاف استعداد الأقوام، باختلاف أحوال الزمان والمكان،
وزماننا هذا هو زمان الجماعات العلمية والأدبية والسياسية، والشركات الزراعية
والصناعية والتجارية، فحظ الأفراد الكثيرين من معنى الأمة، على قدر حظهم من
إقامة هذه الأركان الستة، ولا ينبغي أن يطلق هذا اللفظ، على من لا نصيب لهم
منها ولا حظَّ، إلا على سبيل التجوز في القول، كما يطلق اسم الشيء على صورة
الشيء، ومتى ملكت الأمة بالجمعيات أمورها المعنوية، وبالشركات أمورها المادية،
كانت جديرة بأن تقوم أمر حكومتها، وتقيمها على صراط شريعتها، لهذا كان
همنا منذ سنة المنار الأولى، أن نذكر أهل العلم والرأي من المسلمين بهذه الطريقة
المثلى؛ اهتداء بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: ٩-١٠) وليس بعد إقامة حجة الله في الورى، إلا فلاح من اتبع الهدى،
وهلاك من آثر الهوى، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ
عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: ٢٣) .
ألا وإن أمر التربية والتعليم هو أهم ما يجب أن يوكل إلى الجماعات، ولا
يجوز أن يترك إلى الأفراد ولا إلى الحكومات؛ لأن المدارس للأفراد دكاكين لكسب
المال، وللحكومات معامل لسبك العُمَّال، فكل من الفريقين يتوخى في التعليم منفعته
الخاصة، وإن باينت مصلحة الأمة العامة، وإنما تطلب الحكومة عمالاً لها كالآلات،
لا إرادة لهم ولا رأي ولا استقلال، والأفراد يتبعون سننها ويسيرون على طريقها،
وإنما ربح تجارتهم برواج بضاعتهم في سوقها، وشر من ذلك ما ابتلي به
جماهير المسلمين، من ترك تربيتهم النفسية والعقلية إلى خصومهم في السياسة
والدين فكانوا بهذا الخزي من الأخسرين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فأنى تصلح أمة تركت تجديدها وتكوينها، إلى من
لا همَّ لهم إلا إزالة ملكها ودينها؟ ! كلا؛ إنها كرّة خاسرة، يخسرون بها الدنيا
والآخرة {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ
هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: ١٧٩) .
الأمم تصلح بالتربية ونحن قد أفسدنا المربون - الإفرنج والمتفرنجون -
وترتقي بالعلم ونحن قد دلاَّنا العلماء المقلدون المفتونون، وتقوى وتعتز بجمع
المدارس لكلمتها، ونحن قد أوهنتنا وشقَّت عصانا المدارس؛ لأنها إما معاهد
سياسية وإلحاد، وإما أديار وكنائس، قد قطعت روابط الأمة الدينية والمدنية،
وفتنتها بالأهواء والشهوات الحيوانية، وسرى سم تقليدها إلى المدارس الأميرية
والأهلية، فالمتخرجون فيها أقلهم الذين يسلمون، ومنهم الملحدون وأكثرهم
الفاسقون، يجرفون ثروة الأمة إلى الأجانب، ويقذفونها بالفجور والنفوذ الأجنبي
من كل جانب، ويتغلبون فيها على المناصب فينالون منها جميع المآرب، يحقرون
لها سلفها، ويعظمون في نفسها كل ما هو أجنبي عنها، فيقطعون جميع روابطها
المِلِّيَّة، ويزينون لها ذلك باسم المدنية، فهم المنافذ والكوى التي يدخل منها الفساد،
وهم الآلات التي يستعين بها الأجانب على إدارة أمر البلاد؛ لأنهم تربية مدارسهم،
بل صنع معاملهم، أو الجيش السلمي لثكناتهم، ولا يتم لهم ما يسمونه الفتح السلمي
بدونهم، ولأجل هذا ربوهم هذه التربية المذبذبة، وحشوا مخيلاتهم بمسائل
العلوم المضطربة، فلا هم صاروا بها أوربيين، ولا ظلوا مسلمين أو شرقيين،
ولكنهم لغرورهم باسم المدنية الإفرنجية يفسدون على الأمة أمرها، ويزعمون أنهم
هم المصلحون لشأنها، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ * ألاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: ١١-١٢) .
هكذا ذفف على جرح هذه الأمة من جعلوا أنفسهم أُساة لها وأطباء، فكان أقتل
أدوائها ما عالجوها به من الدواء، ومن كان له عقل وبصيرة، فليتدبر ما تقوله
فيهم كتب الإفرنج وصحفهم الشهيرة [٢] ومن أهمه ما نقلته مجلة العالم الإسلامي
الفرنسية، عن مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية، في سياق الكلام على فتح العالم
الإسلامي (الذي نشرناه في ص ٥١٦ م١٥) وهذا نصه: (اتفقت آراء سفراء
الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي
أسسها الأوربيون كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل
المشترك الذي قامت به دول أوربة كلها) ! ! فإذا لم يكن للمسلمين مدارس مِلِّيَّة،
تديرها حكومة أو جماعات إسلامية، فتربيهم على ما يجمعون به مصالحهم الدينية
والدنيوية، وإذا كانوا لا يعرفون للتعليم غاية إلا المنفعة الشخصية، وما يتخيلون من
المنافع الخسيسة المادِّية، فإن أوربة تعرف كيف تنشئهم في مدارسها ومدارسهم
خلقًا جديدًا، يكونون بها على توهُّم الحرية خدما لها وعبيدًا، فهم مقادون من أمامهم،
ومسوقون من ورائهم، ولكن لا يدرون كيف بدؤوا ولا أين ينتهون {أَمْوَاتٌ غَيْرُ
أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: ٢١) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَألُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: ١١٨) .
ألا إننا في أشد الحاجة إلى الصناعات الإفرنجية، وما تتوقف عليه من العلوم
والفنون العملية، وإلى الاعتبار بتاريخهم، وأطوار حكوماتهم وجماعاتهم، ولكن
يجب أن يقوم باقتباس ذلك جماعات منا، يجمعون بينه وبين حفظ مقوماتنا
ومشخصاتنا، وأركانها: اللغة والدين والشريعة والآداب [٣] ، فمن فقد شيئًا من هذه
الأشياء فقد فقد جزءًا من نفسه، لا يمكن أن يستغني عنه بمثله من غيره، كما أنه
لا يستغني بعقل غيره عن عقله، ولا بجسم سواه عن جسمه، وإنما نستفيد من
العبرة بحالهم، كيف نرقي لغتنا كما رقوا، وكيف ننشر ديننا كما ينشرون دينهم،
وكيف نسهل طرق العمل بشريعتنا وآدابنا كما سهلوا طرق شرائعهم وآدابهم، ولنا
أن نستعين على ما نستمده منهم، بأهل الفضيلة والاستقلال من رجالهم، الذين ليس
لهم فينا أهواء دينية، ولا مطامع سياسية استعمارية، وبهذا نكون مهتدين بما أمرنا
الله به من السير في الأرض، والاعتبار بأحوال وبسنة سلفنا، في جعل الحكمة
ضالّتنا، واعتقاد أنها حيث وجدت فنحن أحق بها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ
فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: ٢٤-٢٧) .
الدعوة إلى انتقاد المنار
أمر الله تعالى بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ونهى عن الغِيبَةِ وتوعد المغتاب ومن يحب شيوع الفاحشة،
وأوعد الهُمَزَة اللُّمَزَة، بالويل الشديد والحطمة، فنحن نذكر كل من يطلع على
منارنا هذا بأمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وندعو من رأى فيه خطأ أن يذكرنا به
قولاً أو كتابة، مبينًا ذلك بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، مع أدب
العبارة، والاكتفاء منها بقدر الحاجة، ونحن ننشر - إن شاء الله تعالى - كل ما
يكتب إلينا، سواء كان لنا أو علينا، إذا التزم الكاتب ما شرطنا، ثم نبين ما عندنا فيه
من قبول وإذعان، أو ردّ أدبي مؤيَّد بالبرهان، وليعلم كل عاقل منصف أن من
يخطِّئنا ولا يكتب إلينا، فهو لا ثقة بعلمه ولا بدينه ولا بما يقوله فينا، وأنه
حاسد أو مدَّعٍ كذاب، وإلى الله المرجع والمآب، وهو سريع الحساب.
... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني