للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


فصل [*]
فحينئذٍ يطلع منه على المشهد الثاني عشر

وهو مشهد الذل والانكسار، والخضوع والافتقار للرب جل جلاله، فيشهد في
كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة وافتقارًا تامًّا إلى ربه ووليه، ومن
بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعاداته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة
حقيقتها، وإنما تدرك بالحصول، فيحصل فيه كسرة خاصة لا يشبهها شيء،
بحيث يرى نفسه كالإناء المردود تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه،
ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من
صانعه وقيّمه؛ فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير، ويرى أنه
لا يستحق قليلاً منه ولا كثيرًا، فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم
أن قدره دونه، وأن رحمة ربه اقتضت ذكره به وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من
الطاعات لربه، ورآها - ولو ساوت طاعات الثقلين - من أقل ما ينبغي لربه عليه،
واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أَوجَبت له هذا كله،
فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما
أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات
أمثال الجبال من المدلّين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم.
وأحبُّ القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه
الذِّلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله.
قيل لبعض العارفين: أيسجدُ القلبُ؟ قال: نعم؛ يسجد سجدة لا يرفع رأسه
منها إلى يوم اللقاء؛ فهذا سجود القلب، فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد
السجود المراد منه، وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع
الجوارح، وعَنَا الوجهُ حينئذٍ للحيّ القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلها، وذلّ
العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية، ناظرًا بقلبه إلى ربه
ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يُرى إلا متملقًا لربه خاضعًا له، ذليلاً
مستعطفًا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل
المحبة محبوبه المالك له، الذي لا غنى له عنه، ولا بدّ له منه، فليس له هم غير
استرضائه واستعطافه؛ لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته
له، يقول: كيف أغضب من حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمن سعادتي
وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟
وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام
والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقية في درجات الكمال أتم ترقية،
وهو القيّم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره
وكتفه وشدّه وثاقًا، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامَه سوءَ العذاب، وعامله بضد
ما يكون أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفيْنة بعد الفيْنة،
فيهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، وتذكّر ما كان عليه، وكل ما كان
فيه. فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد نحره في آخر الأمر، إذ
حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريبًا، فسعى إليه، وألقى نفسه
عليه بين يديه، يستغيث: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه،
ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه، حتى وقف على
رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك له. فهل تقول: إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى
عدوه ويخلي بينه وبينه؟ فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده، ومن
الوالدة بولدها؟ إذ فرّ إليه، وهرب من عدوه إليه، وألقى نفسه طريحًا ببابه،
تمرّغ خده في ثرى أعتابه، باكيًا بين يديه يقول: يا ربّ! ارحم من لا راحم له
سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك
وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت
معاذه، وبك ملاذه:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يَجْبُرُ الناس عظمًا أنت كاسره ... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
***
فصل
فإذا استبصر في هذا المشهد، وتمكن من قلبه، وباشره وذاق طعمه وحلاوته،
ترقى منه إلى (المشهد الثالث عشر) وهو الغاية التي شمّر اليها السالكون،
وأَمَّها القاصدون، ولحظ إليها العاملون.
وهو مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه والابتهاج به، والفرح
والسرور به، فتقرّ به عينه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي
ذكره على لسان محبه وقلبه، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية،
وإرادات التقرّب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه، وحركات
اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي، وقد امتلأ قلبه من محبته،
ولَهَجَ لسانُه بذكره وانقادت الجوارح لطاعته، فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير
عجيب في المحبة لا يعبَّر عنه.
ويحكى عن بعض العارفين قال: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما
دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن الدخول، حتى جئت باب الذل
والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا
أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية
فليلزم عتبة العبودية. وقال بعض العارفين: لا طريق أقرب إلى الله من العبودية،
ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد، ولا
يضر مع الذلّ والافتقار بَطالة؛ يعني بعد فعل الفرائض.
والقصد أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله، وترميه على طريق
المحبة، فيُفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت طرق سائر
الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق
الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس، ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب
والنقص والذم، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزًا وتفريطًا وذنبًا وخطيئةً، نوع آخر
وفتح آخر.
والسالك بهذه الطريق غريب في الناس؛ هم في وادٍ وهو في وادٍ، وهي
تسمى طريق الطير، يسبق النائم فيها على فراشه السعاة؛ فيصبح وقد قطع الركب
بينا هو يحدثك وإذا به قد سبق الطرف وفات السعاة. فالله المستعان وهو خير
الغافرين.
وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له وفرحه بتوبة عبده، فإنه
سبحانه يحب التوّابين ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله، فكلّما طالع العبد مننه
سبحانه عليه - قبل الذنب وفي حال مواقعته وبعده - وبرّه به وحلمه عنه وإحسانه
إليه: هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه، فإن القلوب مجبولة على
حب من أحسن اليها، وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي،
وهو يمده بنعمه ويعامله بألْطَافه، ويُسبل عليه ستره، ويحفظه من خطفات أعدائه
المترقِّبين له أدنى عثْرة ينالون منه بها بغيتهم، ويردهم عنه ويحُول بينهم وبينه،
وهو في ذلك كله بعينه يراه ويطّلع عليه، فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه،
والأرض تستأذنه أن تخسف به، والبحر يستأذنه أن يغرقه، كما في مسند الإمام
أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق
ابن آدم، والملائكة تستأذنه أن تعاجله وتهلكه [١] والرب تعالى يقول: دعوا عبدي
فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض، إن كان عبدكم فشأنكم به، وإن كان عبدي فمني
إلى عبدي، وعزتي وجلالي إن أتاني ليلاً قبلته، وإن أتاني نهارًا قبلته، وإن
تقرّب منّي شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرّب منّي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن
مشى إليّ هرْولت إليه، وإن استغفرني غفرت له، وإن استقالني أقلته، وإن تاب
إليّ تبت عليه، مَن أعظم منّي جودًا وكرمًا وأنا الجَوَاد الكريم؟ عبيدي يبيتون
يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم، وأحرسهم على فرشهم، مَن أقْبلَ
إليّ تلقيته من بعيد، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرّف بحولي
وقوتي ألنت له الحديد، ومَن أراد مرادي ردت ما يريد. أهل ذكري أهل مجالستي،
وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا
أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم
بالمصائب، لأطهّرهم من المعايب) .
***
(نموذج آخر من الكتاب)
في بعض منازل السير إلى الله تعالى
فما تقدم هو نظر الصوفية في المعصية، واختلاف مشاهد أصناف الناس فيها
بين مَن يعتبر ويندم ويزداد بعدها صلاحًا، ومَن يرى أنه مجبور ومعذور بالقدر،
ومَن يرى أنه مؤدٍّ لحق الطبيعة ووظائف الأعضاء ... إلخ، ولذلك جاء كله في
مباحث التوبة. وأمّا هذا النموذج فهو من نظرهم في سير السالكين إلى الله
تعالى؛ أي إلى معرفته العليا وما لهم من المنازل في طريقهم.
***
فصل
ثم ينزل القلب منزل الاعتصام وهو نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل
الله. قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران:
١٠٣) ، وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج
: ٧٨) والاعتصام: افتعال من العصمة؛ وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من
المحذور والمَخُوف، فالعصمة: الحمية، والاعتصام: الاحتماء، ومنه سميت القلاع
العواصم؛ لمنعها وحمايتها. ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام
بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسّك بهاتين العصمتين.
فأمّا الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة،
فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية
الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له،
فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح
بها تحصل له السلامة من قطّاع الطريق وآفاتها، فالاعتصام بحبل الله يوجب له
الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي
يستلئم بها في طريقه، ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد
إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى، فقال ابن عباس: تمسّكوا بدين الله. وقال ابن
مسعود: هو الجماعة. وقال: عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما
تكرهون في الجماعة والطاعة، خير ممّا تحبون في الفرقة. وقال مجاهد وعطاء:
بعهد الله. وقال قتادة والسدّي وكثير من أهل التفسير: هو القرآن. قال ابن
مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن هو
حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، وعصمة من تمسّك به، ونجاة من
تبعه) . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في
القرآن: (هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو
الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الألسن، ولا يخْلَق عن كثرة الرّد، ولا
تشبع منه العلماء) وقال مقاتل: بأمر الله وطاعته، ولا تفرّقوا كما تفرّقت اليهود
والنصارى. وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرضى لكم
ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا
بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويسخط لكم: قيل وقال
وإضاعة المال، وكثرة السؤال) رواه مسلم في الصحيح.
قال صاحب المنار: (الاعتصام بحبل الله: هو المحافظة على طاعته مراقبًا
لأمره) ويريد بمراقبة الأمر: القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأوجبها، لا لمجرد
العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر، كما قال طلق بن حبيب في التقوى: هي
العمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور
من الله، تخاف عقاب الله. وهذا هو الإيمان والاحتساب ومَن قام ليلة القدر إيماناً
واحتسابًا غفر له، فالصيام والقيام هو الطاعة، والإيمان مراقبة الأمر [٢] وإخلاص
الباعث هو أن يكون الإيمان الآمر [٣] لا شيء سواه، والاحتساب رجاء ثواب الله،
فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل، والله أعلم.
***
فصل
وأما الاعتصام به: فهو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن
يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه، فإن ثمرة الاعتصام به هو الدفع عن العبد،
والله يدفع عن الذين آمنوا، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب
يفضي إلى العطب، ويحميه منه، فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه
الظاهر والباطن، وشر نفسه. ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها،
بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه، فتفقد في حقه أسباب العطب فيدفع عنه موجباتها
ومسبباتها، ويدفع عنه قدره بقدره، وإرادته بإرادته، ويعيذه به منه.
***
فصل
وأما صاحب المنازل فقال: (الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم)
الموهوم عنده ما سوى الله تعالى. والترقي عنه: الصعود من شهود نفعه وضره،
وعطائه ومنعه وتأثيره، إلى الله تعالى. وهذه إشارة إلى الفناء، ومراده: الصعود
عن شهود ما سوى الله إلى الله. والكمال في ذلك الصعود عن إرادة ما سوى الله
إلى إرادته. والاتحادي يفسر الصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده، بحيث لا
يرى لغيره وجود ألبتة، ويرى وجود كل موجود هو وجوده، فلا وجود لغيره إلا في
الوهم الكاذب عنده.
قال: (وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر استسلامًا وإذعانًا
بتصديق الوعد والوعيد، وتعظيم الأمر والنهي، وتأسيس المعاملة على اليقين
والإنصاف) ؛ يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله استسلامًا من غير
منازعة، بل إيمانًا واستسلامًا، وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما،
والتصديق بالوعد والوعيد، وأسسوا معاملتهم على اليقين، لا على لا شك والتردد [٤]
وسلوك طريقة الاحتياط؛ كما قال القائل:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأجساد قلت إليكما
إن صحّ قولُكما فلست بخاسرٍ ... أو صح قولي فالخسارُ عليكما
هذه طريق أهل الريب والشك، يقومون بالأمر والنهي احتياطًا، وهذه
الطريق لا تنجي من عذاب الله، ولا يحصل لصاحبها السعادة ولا توصله إلى
المأمن.
وأمّا الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه، فهو الإنصاف في معاملتهم لله
ولخلقه. فأما الإنصاف في معاملة الله: فأن يعطي العبودية حقها، وأن لا ينازع
ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له، من العظمة والكبرياء والجبرية.
ومن إنصافه لربه: أن لا يشكر سواه على نعمه وينساه، ولا يستعين بها على
معاصيه، ولا يحمد على رزقه غيره، ولا يعبد سواه، كما في الأثر الإلهي: (إني
والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي) ، وفي
أثر آخر: (ابنَ آدم ما أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرّك إليَّ صاعد، أتحبب
إليك بالنعم وأنا عنك غني، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إليّ، ولا يزال
المَلَك الكريم، يعرُج إليّ منك بعملٍ قبيح) وفي أثرٍ آخر: (يا ابن آدم ما من يوم
جديد، إلا يأتيك من عندي رزق جديد، وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح، تأكل
رزقي وتعصيني، وتدعوني فأستجيب لك، وتسألني فأعطيك، وأنا أدعوك إلى
جنتي فتأبى ذلك، وما هذا من الإنصاف) .
وأما الإنصاف في حق العبيد؛ فأن يعاملهم بمثل ما يحب أن يعاملوه به.
ولَعَمْرُ اللهِ هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة هو اعتصام خاصةِ الخاصة [٥] في الحقيقة،
ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمّر إليه، فلا تأخذه فيه لومةُ لائمٍ، ولا
يرى مقامًا أجلّ منه.
***
فصل
قال (واعتصام الخاصة بالانقطاع، وهو صون الإرادة قبضًا، وإسبال الخُلُق
على الخلق بسطًا، ورفض العلائق عزمًا، وهو التمسك بالعروة الوثقى) يريد:
انقطاع النفس عن أغراضها من هذه الوجوه الثلاثة، فيصون إرادته ويقبضها عمّا
سوى الله سبحانه، وهذا شبيه بحال أبي يزيد فيما أخبر به عن نفسه لمّا قيل له: ما
تريد؟ فقال: أريد أن لا أريد.
(الثاني) إسبال الخُلُق على الخلق بسطًا. وهذا حقيقة التصوف فإنه كما قال
أبو بكر الكتاني: التصوف خُلُق فمَن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في التصوف.
فإن حسن الخلق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق، يدل على سعة قلب صاحبه،
وكرم نفسه وسجيته. وفي هذا الوصف يكفّ الأذى ويحمل الأذى، ويوجد الراحة،
ويدير خدّه الأيسر لمن لطم الأيمن، ويعطي رداءه لمن سلبه قميصه، ويمشي ميلين
مع من سخره ميلاً [٦] وهذا علامة انقطاعه عن حظوظ نفسه وأغراضها.
وأما رفض العلائق عزمًا، فهو العزم التام على رفض العلائق وتركها في
ظاهره وباطنه، والأصل هو قطع علائق الباطن، فمتى قطعها لم تضره علائق
الظاهر، فمتى كان المال في يديك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر، ومتى كان
في قلبك ضرك ولو لم يكن في يدك منه شيء. قيل للإمام أحمد: أيكون الرجل
زاهدًا ومعه ألف دينار؟ قال: نعم؛ على شريطة ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا
نقصت. ولهذا كان الصحابة أزهد الأمة مع ما بأيديهم من الأموال. وقيل
لسفيان الثوري: أيكون ذو المال زاهدًا؟ قال: نعم إن كان إذا زيد في ماله شكر،
وإن نقص شكر وصبر. وإنما يحمد قطع العلائق الظاهرة في موضعين: حيث
يخاف منها ضررًا في دينه، أو حيث لا يكون فيها مصلحة راجحة. والكمال من
ذلك قطع العلائق التي تصير كلاليب على الصراط تمنعه من العبور، وهي كلاليب
الشهوات والشبهات، ولا يضره ما تعلق به بعدها.
***
فصل
قال (واعتصام خاصة الخاصة بالاتصال، وهو شهود الحق تفريدًا، بعد
الاستحذاء له تعظيمًا، والاشتغال به قربًا) لمّا كان ذلك الانقطاع موصلاً إلى هذا
الاتصال، كان ذلك للمتوسطين، وهذا عنده لأهل الوصول. ويعني بشهود الحق
تفريدًا: أن يشهد الحق سبحانه وحده منفردًا ولا شيء معه، وذلك لفناء الشاهد في
الشهود، والحوالة في ذلك عند القوم على الكشف، وقد تقدم أن هذا ليس بكمال،
وأن الكمال أن يفنى بمراده عن مراد نفسه.
وأما فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه، فدون هذا الفناء في الرتبة كما تقدم.
وأمّا قوله بعدُ: (الاستحذاء له تعظيمًا) ؛ فالشيخ - قدّس الله روحه - لكثرة
لهجه بالاستعارات عبّر عن معنى لطيف عظيم بلفظة الاستحذاء التي هي استفعال
من المحاذاة، وهي المقابلة التي يبقى فيها جزء من المحاذي خارجًا عما حاذاه بل قد
واجهه وقابله بكليته وجميع أجزائه. [٧] ومراده بذلك القرب وارتفاع الوسائط المانعة
منه، ولا ريب أن العبد يقرب من ربه والرب يقرب من عبده، فأمّا قرب العبد
فكقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق: ١٩) وقوله في الأثر الإلهي:
(من تقرب منّي شبرًا تقربت منه ذراعًا) ، وكقوله: (وما تقرّب إليّ عبدي بمثل
أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،
ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) ، وفي
الحديث الصحيح: (أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الأخير) ، وفي
الحديث أيضًا: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، وفي الحديث الصحيح
لما ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: (يا
أيها الناس أربِعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه
سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، فعبّر الشيخ عن طلب القرب
منه ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تقرّ عيونُ عابديه
وأوليائه إلا به، بالاستحذاء؛ وحقيقته: موافاة العبد إلى حضرته وقدامه وبين يديه،
عكس حال من نبذه وراءه ظِهْريًّا، وأعرض عنه ونأى بجانبه، بمنزلة من ولى
المطاع ظهره، ومال بشِقّه عنه.
وهذا الأمر لا يدرك معناه إلا بوجوده وذوقه، وأحسن ما يعبّر عنه بالعبارة
النبوية المحمدية، وأقرب عبارات القوم أنه القريب برفع الوسائط التي بارتفاعها
يحصل للعبد حقيقة التعظيم. فلذلك قال: الاستجداء له تعظيمًا. ومن أراد فهم هذا
كما ينبغي فعليه بفَهم اسمه تعالى الباطن وفهم اسمه القريب، مع امتلاء القلب بحبه،
ولهج اللسان بذكره، ومن هاهنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذي كان مشمرًا إليه،
عاملاً عليه.
فإن كان مشمرًا إلى الفناء متوسط عن شهود السوى، لم يبق في قلبه شهود
لغيره ألبتة، بل تضمحل الرسوم وتفنى الإشارات، ويفنى مَن لم يكن ويبقى مَن لم
يزل. وفي هذا المقام امتزج فيه الحب بالتعظيم مع القرب، وهو منتهى سفر
الطالبين لمقام الفناء، وإن كان هذا مشمرًا للفناء العالي، وهو الفنا عن إرادة
السوى، لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني؛ بل
يتّحد المرادان فيصير عين مراد الرب هو مراد العبد، وهى حقيقة المحبة الخالصة،
وفيها يكون الاتحاد الصحيح، وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة،
فتدبّر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه
أفهام الواجدين.
وفي هذا الباب [٨] حقيقة يفنى مَن لم يُكِنُّ إرادةً وإيثارًا ومحبةً وتعظيمًا وخوفًا
ورجاءً وتوكلاً، ويبقى من لم يَزِلّ، وفيه ترتفع الوسائط بين الرب والعبد حقيقة،
ويحصل [٩] له الاستجداء المذكور مقرونًا بغاية الحب وغاية التعظيم. وفي هذا المقام
يجيب داعي الفناء في المحبة طوعًا واختيارًا لا كرهًا، بل ينجذب إليه انجذاب قلب
المحب وروحه الذي قد ملأت المحبة قلبه، بحيث لم يبق فيه جزء فارغ منها، إلى
محبوبه الذي هو أكمل محبوب وأجمله وأحقه بالحب.
وهذا الفناء أوجبه الحب الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب، ومحو
ما سوى مراد المحبوب من القلب بحيث لم يبق في القلب إلا المحبوب ومراده.
وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله، والله المستعان.
وأما قوله: (والاشتغال به قربًا) أي يشغله قرب الحق عن كل ما سواه، وهذا
حقيقة القرب. ألا ترى أن القريب من السلطان جدًّا المقبل عليه المكلّم له لا يشتغل
بشيء سواه ألبتة؟ فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به، والله أعلم.
***
فصل
ومن منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين: (منزلة الفرار) ، قال الله تعالى:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: ٥٠) ، وحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء،
وهو نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء؛ ففرار السعداء الفرار إلى الله عز
وجل، وفرار الأشقياء الفرار منه لا إليه، وأمّا الفرار منه إليه ففرار أوليائه؛ قال
ابن عباس في قوله تعالى:] فَفِرُّوا إِلَى اللهِ [: فرّوا منه إليه، واعملوا بطاعته.
وقال سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله. وقال آخرون: اهربوا من
عذاب [١٠] الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة.
وقال صاحب المنازل: (هو الهرب ممّا لم يكن إلى من لم يزل، وهو على
ثلاث درجات: فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدًا وسعيًا، ومِن الكسل إلى
التشمير جدًّا وعزمًا، ومن الضيق إلى السعة ثقةً ورجاءً) يريد بما لم يكن:
(الخلق) ، وبما لم يزل: (الحق) . وقوله: فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدًا
وسعيًا - الجهل نوعان: عدم العلم بالحق النافع، وعدم العمل بموجبه ومقتضاه،
فكلاهما جهل لغةً وعرفًا وشرعًا وحقيقةً. قال موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الجَاهِلِينَ} (البقرة: ٦٧) لما قال له قومه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} (البقرة:
٦٧) أي المستهزئين [١١] ، وقال يوسف الصديق: {و َإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ} (يوسف: ٣٣) ، أي من مرتكبي ما حرمت عليهم.
وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} (النساء: ١٧) ،
قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل ما عصي
الله به فهو جهالة. وقال غيره: أجمع الصحابة أن كل من عصى الله فهو جاهل.
وقال الشاعر:
ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وسمي عدم مراعاة العلم جهلاً، إمّا لأنه لم ينتفع به فنزل منزلة الجهل، وإمّا
لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله. فالفرار المذكور هو الفرار من الجهلين: من
الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقادًا ومعرفةً وبصيرةً، ومِن جهل العمل إلى السعي
النافع والعمل الصالح قصدًا وسعيًا.
قوله: (ومن الكسل إلى التشمير جدًّا وعزمًا) أي يفر من إجابة داعي الكسل
إلى داعي العلم والتشمير بالجد والاجتهاد، والجد: هو هاهنا صدق العمل
وإخلاصه من شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون، وهو تحت السين وسوف
وعسى ولعلّ، فهي أضرّ شيء على العبد، وهي شجرة ثمرُها الخسران والندامات.
والفرق بين الجد والعزم: أن العزم صدق الإرادة واستجماعها، والجد صدق
العمل وبذل الجهد فيه، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقي أوامره بالعزم والجد فقال:
{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} (البقرة: ٦٣) ، وقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (مريم: ١٢) ، أي بجدٍّ واجتهادٍ وعزمٍ، لا كَمَن يأخذ ما أُمر به بترددٍ وفتورٍ.
وقوله: (ومِن الضيق إلى السعة ثقةً ورجاءً) يريد: هروب العبد من ضيق
صدره بالهموم والغموم والأحزان والمخاوف التي تعتريه في هذه الدار من جهة
نفسه، وما هو خارج عن نفسه مما يتعلق بأسباب مصالحه ومصالح من يتعلق به،
وما يتعلق بماله وبدنه وأهله وعدوّه، يهرب من ضيق صدره بذلك كله إلى سعة
فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحسن الرجاء لجميل صنعه
به، وتوقّع المرْجو من لطفه وبرّه، ومِن أحسن كلام العامة قولهم: لا همّ مع الله،
قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} (الطلاق: ٢-٣) قال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجًا من كل ما ضاق على
الناس. وقال أبو العالية: مخرجًا مِن كل شدة، وهذا جامع لشدائد الدنيا والآخرة
مخرجًا. وقال الحسن: مخرجًا مما نهاه عنه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: ٣) ؛ أي كافي مَن يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه كل ما أهمه.
والحسب: الكافي؛ (حسبنا الله) : كافينا الله.
وكلّما كان العبد حسن الظن بالله حسن الرجاء له صادق التوكل عليه، فإن الله
لا يخيب أمله فيه ألبتة، فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل.
وعبّر عن الثقة وحسن الظن بالسعة، فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد
الإيمان من ثقته بالله ورجائه وحسن ظنه به.
***
فصل
قال: (وفرار الخاصة من الخبر إلى الشهود، ومن الرسوم إلى الأصول،
ومن الحظوظ إلى التجريد) ؛ يعني أنهم لا يرضون أن يكون إيمانهم عن مجرد
خبر حتى يترقوا منه إلى مشاهدة المخبر عنه، فيطلبون الترقي من علم اليقين
بالخبر، إلى عين اليقين بالشهود، كما طلب إبراهيم الخليل - صلوات الله وسلام
عليه - ذلك من ربه إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ
بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: ٢٦٠) ، فطلب إبراهيم أن يكون اليقين
عيانًا، والمعلوم مشاهدًا، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه النبي - صلى الله عليه
وسلم - بالشك في قوله: (نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم) حيث قال:] رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى [، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يشكّ، ولا إبراهيم
- حاشاهما مِن ذلك - وإنّما عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة.
هذا أحد الأقوال في الحديث وفيه قول ثانٍ أنه على وجه النفي، أي لم يشك
إبراهيم حيث قال ما قال، ولم نشك نحن. وهذا القول صحيح أيضًا؛ أي لو كان
ما طلبه للشك لكنّا نحن أحق به منه، لكن لا يطلب ما طلب شكًّا، وإنما طلبه
طمأنينة.
فالمراتب ثلاث: علم يقين يحصل عن الخبر، ثم يتجلى [١٢] حقيقة المخبر
عنه للقلب أو البصر حتى يصير العلم به عين يقين، ثم يباشره ويلابسه فيصير
حق يقين، فعلمنا بالجنة والنار الآن علم يقين، فإذا أزلفت الجنة للمتقين في
الموقف، وبرّزت الجحيم للغاوين، وشاهدوهما عيانًا، كان ذلك عين يقين، كما
قال تعالى: {لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ} (التكاثر: ٦-٧) ، فإذا
دخل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النار النار، فذلك حق اليقين، ونزيد ذلك إيضاحًا
- إن شاء الله تعالى - إذا انتهينا إليه.
وأمّا قوله: (ومن الرسوم إلى الأصول) يريد بالرسوم ظواهر العلم والعمل،
وبالأصول حقائق الإيمان ومعاملات القلوب وأذواق الإيمان ووارداته، فيفر من
إحكام العلم والعمل إلى خشوع السر للعرفان، فإن أرباب العزائم في السير لا يقنعون
برسوم الأعمال وظواهرها، ولا يعتدّون إلا بأرواحها وحقائقها وما يثبته لهم
التعرّف الإلهي، وهو نصيبهم من الأمر.
والتعرف الإلهي لا يقتضي مفارقة الأمر كما يظن قطّاع الطريق وزنادقة
الصوفية؛ بل يستخرج منهم حقائق الأمر وأسرار العبودية وروح المعاملة، فحظهم
من الأمر حظّ العالم بمراد المتكلم من كلامه تصريحًا وإيماءً وتنبيهًا وإشارةً. وحظ
غيرهم منه حظ التالي له حفظًا بلا فهم ولا معرفة لمراده، وهؤلاء أحوج شيء إلى
الأمر؛ لأنهم لم يصلوا إلى تلك التعرفات والحقائق إلا به، فالمحافظة عليه لهم علمًا
ومعرفةً وعملاً وحالاً ضرورية لا عِوض لهم عنه ألبتة.
وهذا القدر هو الذي فات الزنادقة وقطّاع الطريق من المنتسبين إلى طريقة
القوم، فإنهم لمّا علِموا أن حقائق هذه الأوامر هي المطلوبة أرواحها، لا صورها
وأشباحها ورسومها، قالوا: نجمع هممنا على مقاصدها وحقائقها، ولا حاجة لنا إلى
رسومها وظواهرها؛ بل الاشتغال برسومها اشتغالٌ عن الغاية بالوسيلة، وعن
المطلوب لذاته بالمطلوب لغيره، وغرّهم ما رأوا فيه الواقفين مع رسوم الأعمال
وظواهرها دون مراعاة حقائقها ومقاصدها وأرواحها، فرأوا نفوسهم أشرف من
نفوس أولئك وهممهم أعلى، وأنهم المشتغلون باللب وأولئك بالقشر، فتركب من
تقصير هؤلاء وعدوان هؤلاء تعطيل جملة الأمر؛ هؤلاء عطّلوا سرّه ومقصوده
وحقيقته، وهؤلاء عطّلوا رسمه وصورته، فظنوا أنهم يصلون إلى حقيقته، من
غير رسمه وظاهره، فلم يصلوا إلا إلى الكفر والزندقة، وجحدوا ما علم بالضرورة
مجيء الرسل [١٣] به، فهؤلاء كفار زنادقة منافقون، وأولئك مقصّرون غير كاملين.
والقائمون بهذا وهذا همُ الذين يرون أن الأمر متوجه إلى قلوبهم قبل جوارحهم،
وأن على القلب عبودية في الأمر كما على الجوارح، وأن تعطيل عبودية القلب
بمنزلة تعطيل عبودية الجوارح، وأن كمال العبودية قيام كل من الملك وجنوده [١٤]
بعبوديته، فهؤلاء خواصّ أهلِ الإيمان، وأهل العلم والعرفان.
***
فصل
قوله: (ومن الحظوظ إلى التجريد) يريد الفرار من حظوظ النفوس على
اختلاف مراتبها، فإنه لا يعرفها إلا المعتنون بمعرفة الله ومراده وحقه على عبده،
ومعرفة نفوسهم وأعمالهم وآفاتهما، ورب مطالب عالية لقوم من العبادة هي حظوظ
لقوم آخرين يستغفرون الله ويفرون إليه منها، يرونها حائلة بينهم وبين مطلوبهم،
وبالجملة فالحظ ما سوى مراد الله الديني منك كائنًا ما كان، وهو ما يبرح حظ
محرم إلى مكروه إلى مباح إلى مستحب غيره أحب إلى الله منه، ولا يتميز هذا إلا
في مقام الرسوخ في العلم بالله وأمره، وبالنفس وصفاتها وأحوالها. فهناك يتبين له
الحظوظ من الحقوق ويفرّ من الحظ إلى التجريد. وأكثر الناس لا يصلح لهم هذا؛
لأنهم إنما يعبدون الله على الحظوظ وعلى مرادهم منه، وأما تجريد عبادته على
مراده من عبده: -
فتلك منزلة لم يعطها أحد ... سوى نبي وصديق من البشر
والزهد زهدك فيها ليس زهدك في ... ما قد أبيح لنا في محكم السور
والصدق صدقك في تجريدها وكذا ... الإخلاص تخليصها إن كنت ذا بصر
كذا توكل أرباب البصائر في ... تجريد أعمالهم من ذلك الكدر
كذاك توبتهم منها فهم أبدًا ... في توبة أو يصيروا داخل الحفر
وبالجملة: فصاحب هذا التجريد لا يقنع من الله بأمر يسكن إليه دون الله، ولا
يفرح بما حصل له دون الله، ولا يأسى على ما فاته سوى الله، ولا يستغني برتبة
شريفة وإن عظمت عنده أو عند الناس، فلا يستغني إلا بالله، ولا يفتقر إلا إلى الله،
ولا يفرح إلا بموافقته لمرضاة الله، ولا يحزن إلا على ما فاته من الله، ولا
يخاف إلا من سقوطه من عين الله، واحتجاب الله عنه، فكله بالله، وكله لله، وكله
مع الله، وسيره دائمًا إلى الله، قد رُفع له علمٌ فشمّر إليه، وتجرّد له مطلوبه فعمل
عليه، تناديه الحظوظ: إليّ، وهو يقول: إنما أريد مَن إذا حصل لي - حصل
لي كل شيء، وإذا فاتني فاتني كل شيء، فهو مع الله مجرد عن خلقه، ومع خلقه
مجرد عن نفسه، ومع الأمر مجرد عن حظه؛ أعني الحظ المزاحم للأمر، وأما
الحظ المعيّن على الأمر، فإنه لا يحطه تناوله عن مرتبته، ولا يسقطه من عين
ربه.
وهذا أيضًا موضوع غلط فيه من غلط من الشيوخ، فظنوا أن إرادة الحظ نقص
في الإرادة، والتحقيق فيه أن الحظ نوعان: حظ يزاحم الأمر، وحظ يوازر الأمر
فينفذه؛ الأول هو المذموم، والثاني ممدوح، وتناوله من تمام العبودية، فهذا لون
وهذا لون.
... ... ... ... ... ... ... ... (للنموذج بقية)
(المنار)
أرأيتم أيها المبشرون الذين تدعوننا إلى النصرانية هذه المعارف
العالية في الإيمان، والعلم بالله وبمزايا الإنسان، وهذه الفضيلة والكمال في الإسلام؟
هذا النموذج نقطة من بحر كلام علمائنا في منازل السالكين والعارفين، أرأيتم مَن
ارتقى في الدين إلى الذروة العليا أيمكن إقناعه بأن النزول عنها إلى الدرجات التي
هي دونها خير له من البقاء على ارتقائه وكماله فيها؟ ! أيرضى مَن هذا حظه من
الدين والإيمان أن يشغل خياله ولسانه باسم يسوع، وصورة يسوع، وتثليث يسوع،
وفداء يسوع. الذي لا يعقل؟ أمَا والله لو كان يسوع وتلاميذ يسوع ويوحنا الذي
عمد يسوع ومسح رأسه ودعا له بالبركة - ومعهم موسى وإسرائيل وكل أنبياء أبنائه
أحياء؛ وجاءهم محمد (عليهم الصلاة والسلام) بهذا القرآن لَمَا وسِعهم إلا
اتباعه، وقد كانوا كلهم على الحق والتوحيد الذي نسختموه بالتثليت والفداء فأربعوا
على ظلعكم، وادعوا إلى دينكم البراهمة والبوذيين وأمثالهم الذين كان لهم ثالوث
كثالوثكم، فأولئك لا يبعد أن ينتقلوا من ثالوث إلى ثالوث، وأما صاحب التوحيد
الذي هو أكمل وأعلى معارف البشر، فلا يترك التوحيد إلى ما هو دونه.
((يتبع بمقال تالٍ))