للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: كريستيان سنوك هرغرنج


الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية [*]

الإسلام في المستقبل سيكون نظير الدين الإسرائيلي يطبق نفسه على حاجات
العصر الحديث ولا يدع النصرانية تغلبه وتسلبه أبناءه.
(مقدمة للمترجم)
إن نشوء الإسلام في المستقبل سيعيد تاريخ الدين اليهودي الحديث بدرجة
مشابهة، فالمبشرون بالإنجيل الذين لا يزالون يتوقعون انضمام كل الأديان إلى
النصرانية لا تتحقق أحلامهم فيما يتعلق بالإسلام؛ لأن الدين الإسلامي سيظل دينًا
قويًّا نشيطًا نظير الدين اليهودي، ويطبق نفسه نظير الدين اليهودي على حاجات
العصر المتغيرة.
هذا هو رأي الدكتور (كريستيان سنوك هرغرنج) الهولندي الذي قضى ربع
قرن يدرس القضايا الإسلامية وشريعة الإسلام وفلسفته.
ومما يقال عن هذا الأستاذ: إنه أكثر من خيالي ونبي متغرض، فهو أعلم
علماء عصره في الإسلام؛ لأنه لا يعرف تاريخ الإسلام وشريعته وفلسفته معرفة
دقيقة فقط، ولكنه قضى ربع قرن يدرس الإسلام من وجه علاقته بالمؤسسات
الدينية والسياسية الأخرى.
وقد أرسلته جامعة ليدن - في هولندا على سبيل المبادلة -إلى الولايات
المتحدة للمرة الأولى ليلقي في أمهات كلياتها العلمية أربع محاضرات في نتائج درسه
الإسلام، وقد فصّل في هذه المحاضرات زياراته لمكة (مدينة الإسلام المقدسة) ،
فإنه قضى ثمانية أشهر ضمن تلك المدينة المسورة وكان فيها عضوًا من بطانة
رجلٍ مسلم، فأتمّ هناك الفرائض الدينية التي كان يقوم بها يوميًّا مائتا ألف من
حجاج مكة، وتعهّد الجوامع هناك، وسمع المحاضرات التي لم يكن يسمعها في
الزمن الماضي غير المسلمين، وكم من قصة رويت عن نصارى أضلّوا الطريق،
ويهود مغامرين قُتِلوا في مكة لاتهامهم بأنهم تجرؤوا على الدخول إلى المدينة
الإسلامية المقدسة، وإذا لم تصدق هذه الأخبار فقد ثبت أن كثيرين غير المسلمين
طردوا من المدينة بإهانة عندما ظهر أنهم غير مسلمين.
ثم إن الدكتور هرغرنج ليس يعرف اللغة العربية فقط؛ بل إنه قبل ذهابه إلى
مدينة الإسلام المقدسة قضى عدة سنين يدرس التاريخ الإسلامي، وكانت معرفته
هذه للإسلام وسيلة استطاع بها أن يحافظ على تنكره مدة ثمانية أشهر قضاها في
مكة، وبلغ منه أنه خدع الكلاب الشاردة التي تفرق المسلم عن غير المسلم لأنها
تعرفه بقوة الشم فتهاجمه وتفضح أمره.
وقد وضع الدكتور المذكور بعد إقامته في مكة فصلاً فيها وفي تاريخها وحياتها
العمومية الحاضرة يعتبر الكتابة الوحيدة التامة عن هذه المدينة المحمية.
وليس اهتمام هذا الدكتور بالإسلام اهتمام طالب علم فقط، فقد قضى سبع
عشرة سنة في الهند الشرقية الهولندية مستشارًا لحكومة هولندا في المسائل المتعلقة
بإدارة سكان الهند الشرقية الوطنيين، واستطاع بدرسه الإسلام درسًا عميقًَا واسعًا
أن يضع لهولندا السياسة التي تجري عليها مستعمراتها الإسلامية التي تحتوي على
نحو من خمسة وثلاثين مليونًا من أتباع النبي محمد.
ومن مضي سبع سنين عاد الدكتور إلى هولندا ليكون أستاذ اللغتين العربية
والسلافية في جامعة ليدن، فقبل هذه الوظيفة على شرط أن يبقى مستشارًا عموميًّا
للحكومة في المسائل الإسلامية.
وزيادة على ذلك أنه ساح في أكثر البلدان الإسلامية، وكان في خلال ربع
قرن مضى يراقب الحركات العاملة على إحداث تغيير ديني وسياسي في العالم
الإسلامي كله، ولذلك كانت صورته التي صوّر بها حالة الإسلام الحاضرة،
والطريقة التي جرى عليها في تتبع نشوئه في المستقبل، أمرين خارجين عن
مألوف الذين يعتبرون أن الإسلام لا يزال بربريًّا في شكله الشرقي، بل إنه يرى أن
الحواجز بين الشرق والغرب تتهدم بالتدريج تهدمًا يؤدي إلى امتزاجهما السريع في
خلال سنين تأتي.
وقد ألقى هذا الدكتور محاضرة بالأمس - في جامعة كولومبيا - في الإسلام
هذا ما قاله فيها:
(محاضرة الدكتور هرغرنج في الإسلام)
إن المدينة الإسلامية كانت في خلال ألف سنة مضت ترتفع إلى الدرجة
الحاضرة النهائية، فمِن مضي ألف سنة اعتقد المسلمون أن أحوالهم الدينية راضية
تمام الرضى، وكان المعتقد الديني عندهم مسألة مقررة، وكان السواد الأعظم من
المسلمين يقولون بعصمة الدين الإسلامي ويقبلون حقيقته المكشوفة بدون ريب،
نظير إجماع النصارى على عصمة الكنيسة الكاثوليكية. وكانت للإسلام شرائع
تتعلق بالحياة في كل أطوارها من شخصية وعمومية وفردية واجتماعية.
وعلى الجملة: إن الإسلام كله قام على استقلال المسلمين السياسي، فقد كانوا
في دائرتهم الخصوصية أحرارًا مستقلين، اعتبروا العالم كله ملكًا لهم، فالذي لم يكن
لهم كان عليهم أن يفتحوه، وبذلك كان حكم السيف ممكنًا إذا لم يكن محتملاً؛ ولكن
ثبتت استحالته في الألف سنة التي مضت. ففي خلال القرن الماضي تعرى الإسلام
من استقلاله السياسي باعتداء الدول الأوروبية التدريجي عليه، ونتج عن ذلك أن
الإسلام اضطر أن يعدل آراءه وأعماله، وتأكد للمسلمين أنه يجب عليهم أن يحسبوا
حسابًا لما تفعله الأمم الأخرى وتحصل عليه.
وقد نجمت عن هذه الحالة مسألتان: الأولى منهما هي: هل يستطيع الإسلام
الذي يرشد حياة تابعيه وأفكارهم أن يجاري هذا التغيير عندما يفقد استقلاله السياسي
الذي قام عليه؟
إن الذين درسوا القضايا الإسلامية استنتجوا أن القضايا الروحية، متصلة تمام
الاتصال بالقضايا المادية في الدين الإسلامي، بحيث إن سقوط الاستقلال السياسي
يستلزم سقوط الإسلام نفسه، ولكني لا أوافقهم على هذا القول.
أما المسألة الثانية، فهي أهم من الأولى وهي: هل إذا كان الإسلام قادرًا على
احتمال ذلك التغيير - كما أعتقد أنه قادر - يقدر أن يطبق نفسه على قضايا الحياة
الحديثة بطريقة يستطيع بها تابعوه بأن يكونوا في مقدمة الصفوف في ارتقاء العالم
ومدنيته؟
هاتان هما المسألتان مع كل القضايا الأخرى المتفرعة عنهما ما أريد البحث
فيه على مسامع الأمريكيين رجاء أن أوقف الغربيين على الانقلاب العظيم الجاري
في العالم الشرقي ومجاري هذا الانقلاب.
(فشل محاولة تنصير المسلمين)
والأمر الجوهري في هذا الشأن هو الوجه المنظور فيه إلى قضية مستقبل
الإسلام، فإذا نظرتم إليها بعيني المرسل النصراني الديني؛ فلا بد أنكم تستنتجون
أنه لا يرجى شيء كثير من نشوء الإسلام؛ لأن الإسلام قبل صيرورته كفؤًا يجب
عليه أن يتخذ النصرانية أولاً؛ ولكن هذا هو أسوأ رأي يعول عليه، وأنا مسرور
بقولي: إنه ليس رأيًا شاملاً، فالمسلمون لا يقصدون أن يتنصّروا، وقد احتاطوا
أعظم احتياط لهذا الأمر الذي أدركه كل المبشرين النصارى المتنورين في الأراضي
الإسلامية، ففي الهند الشرقية الهولندية - حيث قضيت سبع عشرة سنة ملتصقًا
تمام الالتصاق بالمؤسسات الإسلامية - لا يقدر المرسل النصراني الديني أن يربح
تابعين لدينه، نعم يوجد كثيرون من المدعوين مسلمين ولا سيّما سكان داخلية البلاد
الذين لم يتغلغل إليهم دين من الأديان. وقد ابتعدوا خطوة واحدة عن حالتهم الوثنية
الفطرية، ولم يعد يصعب تنصيرهم، وفي بعض جهات جاوه حيث انتشرت الديانة
الهندية سابقًا لم يجد المرسلون النصارى صعوبةً في تنصير قبائل برمتها.
ولكن أكثر دعاة النصارى الدينيين في البلاد الإسلامية المحضة - حيث
الإسلام تقليد قديم لا دين يُتدين به - يرون صعوبةً كبرى في تنصير المسلمين،
وقد تحولوا عن التبشير بالمسيح إلى التهذيب والإعانة، وما داموا جارين على هذه
الطريقة فالمسلمون مستعدّون لقبول ما يقدمونه لهم.
مثلاً إن الذي تقدمه كلية روبرت الأميركية في الآستانة يقبله كل مسلم، وقد
كان للكلية المذكورة فضل كبير في نشر المعرفة والطرائق التي يعتبرها المسلمون
منتهى التقدم؛ ولكن الكلية المشار إليها لم تحوّل مسلمًا واحدًا عن معتقده.
وقد حدّثت مؤخرًا أحد زملائي الفرنساويين الذي قضى عدة سنين في الجزائر،
ولمعرفتي بتعصب المسلمين في شمالي إفريقيا سألته عن العمل التبشيري الذي
تقوم به الجمعيات الكاثوليكية الدينية المتعددة فقال: إنه عمل ناجح ولكن لا ذِكر
ألبتة للدين فيه.
هذا وإن هولندا تحكم على خمسة وثلاثين مليونًا من المسلمين ولم تعد تفكر
قط في هدايتهم وتنصيرهم , وكل ما أدركناه هو حاجتنا إلى تعليم هؤلاء الناس
الذين وكّلت أمورهم إلينا بطيّات الحوادث التاريخية، وأدركنا أن أفضل شيء
لنفوسهم هو تطبيق دينهم الخاص ومؤسساتهم الخاصة على حاجات العصر الحاضر.
ولا أعتقد أبدًا أن الدين الإسلامي يسقط أمام النصرانية؛ لأن المسلم يحتاط
أشد الاحتياط لمقاومة النفوذ النصراني، فهو يعرف النصرانية التي ليست عنده
شيئًا جديدًا غير مألوفٍ، فقد عرف أصلها وطريقة نشوئها وهو يعتبرها دينًا فسد
بالتدريج، وأخيرًا نسخه وحي النبي محمد خاتم الأنبياء الموحى إليهم؛ وبالتالي إنه
يعتبر النصرانية شيئًا مضى، ويرى تديّنه بها خطوة إلى الوراء، ومهما كان
التغيير الذي يقع على الإسلام في ربع القرن الجاري أو نصفه فإنه لا يكون تغييرًا
يتناول التدين بالنصرانية. إذ لا تدعو الضرورة في الإسلام إلى هذا الإصلاح.
***
(إضعاف الإسلام بالتربية والتعليم)
ولا يخفى أن كل من عاش في أراضي الإسلام لا ينكر أنه حدث في النصف
الأخير من القرن الماضي تغيير عظيم، فقد اشتدت حاجة المسلمين إلى كل ما هو
ضروري للاشتراك في الحياة الحديثة التي تبعت دخول الغزاة الغربيين إلى الشرق،
ولم يعد المسلمون المتنورون اليوم يكتفون بالتربية الإسلامية القديمة، فهم يطلبون
أطباء حديثين وكيمياء حديثة، وأحدث شيء في علم الحياة. وصاروا يطلبون
دروسًا اجتماعية في مدارسهم واللغات الحديثة والفن الحديث، ولا يبالون مَن يقدم
لهم هذه الأشياء إذا قدمت لهم في غير صبغة دينية.
مرّ زمان كان فيه المسلم يعرف أخاه المسلم بألْف طريقة مختلفة: كأخلاقه
وطريقة معيشته ولباسه وأكله، ولكن كل هذه المميزات أخذت تزول بالتدريج؛ بل
إن المزية الوحيدة التي كان بها المسلم يقدر أن يعرف أخاه في الدين سيزيلها
التهذيب والتعليم ببقية معروفة من العقيدة الدينية.
وقد زالت عادات إسلامية قديمة كثيرة، وأصبح كثير منها آخذًا الآن بالزوال،
فزي اللباس الشائع الذي دخل من الغرب إلى الشرق يجعل تأدية الصلوات
الخمس الواجبة يوميًّا أمرًا مستحيلاً، فلم يعد المسلم الشرقي يقدر اليوم أن يصلي
خمس مرات في اليوم بين شروق الشمس وغروبها! ! وهو مضطر أن يشتغل
ثماني ساعات في اليوم. بل إنه لا يقدر أن يحافظ على مركزه في الصناعة
المنظمة التي يضطر إلى مزاولتها بالتدريج ويصوم سحابة النهار في شهر رمضان.
وقد كانت هذه الأمور قديمًا شرائع لا بد من العمل بها؛ أمّا الآن فإنها تصير
أشياء لا يقدر أن يمارسها غير حجاج مكة والأئمة المتصوفين؛ بل حدث تراخٍ في
كل شيء، فقد ساد الإسلام في وقت من الأوقات وتناولت سيادته التجارة أيضًا،
ولكن حفت به المشاكل بالتدريج، نعم إن ضمان الحياة لا يزال عند المسلمين شكلاً
من أشكال المقامرة؛ ولكن الربا في استثمار المال صار ممكنًا باعتباره قسمًا من
المقاولة الأصلية.
* * *
(درجة تأثير الأفكار الأوربية في المتعلمين)
تغلغلت الأفكار الأوروبية في كل جهة من الأراضي الإسلامية، ولكن لم يجد
فيها الشعور الأوربي مركزًا، ولهذا أتجرأ على القول بأن المسلمين سيستمرون على
دينهم مهما اتخذوا من التهذيب والمدنية الغربيين، ففي كل المدارس الأوربية
الكبرى تجد كثيرين من الطلبة المسلمين، وهم من فئة المتنورين الذين بواسطتهم
تحدث التغيرات الأولى في الإسلام، وهؤلاء الشبان من أهل العلم في العالم، فقد
درسوا العلوم الغربية بفروعها نظير خيرة طلبتنا الغربيين، وهم لا يقومون بكل
الفرائض المطلوبة من المسلم الحقيقي، لأنهم مثلنا في طرائق اللباس والمأكل
والمعيشة.
ولكن مجرى عقلهم لا يزال إسلاميًّا، فقد كان بين تلاميذي طلاب مسلمون،
وعندما كنت أتناول مباحثهم التي يكتبونها كنت أرى فيها مظاهر فكر إسلامي في
شكل مختلف كل الاختلاف عما يكتبه طلبتي الآخرون، بل كنت دائمًا أعرف
الطالب المسلم من مباحثه.
ثم إنك ترى موقف المسلمين المتنورين تجاه شريعتهم وعقيدتهم القديمتين نفس
موقف المتنورين بين الإسرائيليين في العصر الحاضر، وكلما عشت بين المسلمين
ازددت اعتقادًا أن الإسلام سيجري في نشوئه على الطريقة التي سلكها الدين
الإسرائيلي في تاريخه الحديث.
نعم إن الضغط الشديد الذي وقع على الدين الإسرائيلي لم يقع على الإسلام
فتفرُّق الإسرائيليين بين أمم الأرض اضطرهم إلى أن يطبقوا حياتهم على شرائع
غير شرائعهم، وكذلك اضطر المسلمون إلى أن ينقحوا الطائفة الكبرى من شرائعهم
المسيطرة على حياة الفرد اليومية من جراء اتساع الأراضي التي احتلوها بالفتح،
والمحايط المتعددة التي اضطّروا إلى العمل بموجبها.
***
(الإسلام واليهودية)
وبين الإسلام والدين الإسرائيلي تشابه عميق يزداد ظهورًا في مخالطة
المتنورين الإسرائيليين والمسلمين، فالتوحيد هو قاعدة الدينين، وليس الله تجاه
خدّامه في هذين الدينين إلا مشترع يرى كل قسم من حياة الرجل يحتاج إلى شريعة،
ومن أجل ذلك صار درس الشريعة فيهما عاملاً مهمًّا؛ ولكن الوجه الخيالي في
الدينين المذكورين انحط انحطاطًا عظيمًا، وأخذ يقتصر على القائمين ضمن جدران
المدارس، ولم تبق له علاقة قوية بحاجات الحياة الفعلية.
وقد صار تفسير الشريعة في الدين الإسرائيلي منوطًا بالحاخامين، وما عدا
بعض مراسيم دينية خارجية ترى أكثر المتنورين الإسرائيليين مكتفين بحفظ العقائد
الأولية من دينهم، أما عامة القوم فإنهم يضيفون إليها طائفة من الخرافات القديمة.
وترى الإسلام تاليًا تلو الدين الإسرائيلي. فخذِ القرآنَ مثلاً وانظر إلى التغيير
الذي حدث في خلال ثلاثة عشر قرنًا مضت على تأسيس الإسلام، فالمسلم العربي
المولد لا يقدر أن يفهم آيات القرآن إلا بعد درس طويل.
ولا يخفى أن أكثر المسلمين يعتبرون القرآن كتابًا مغلقًا، فقد كان في وقت من
الأوقات قوة إصلاحية في العالم، وكان يقرؤه كل مؤمن ورِع، أمّا اليوم فإن الأئمة
والعلمانيين يقرءونه بتجويد دون أن يتدبروا معناه، حتى إن الكلمات التي يجودونها
حجة عليهم في أشياء يصنعونها كل يوم حتى خلال التجويد.
وسيقع أيضًا تغيير على الشرائع والمؤسسات الإسلامية فيحل درسها بالتدريج
محل ممارستها بالرغم من التقليد المقدّس الذي ينطق بأن المعرفة بدون عمل لا فائدة
منها، وزد على ذلك أن الناشئة الإسلامية الناهضة لا تريد أن تكد ذهنها في درس
الشريعة الإسلامية، كما هي تتعب رئاتها بتجويد الآيات القرآنية، فإن هذا الأمر
سيقتصر على فئة خاصة من المسلمين، كما هي الحال عند الإسرائيليين في الوقت
الحاضر.
ولكن ترك العادات القديمة والاعتراف بعدم اتفاق الشريعة القديمة مع حاجات
الحياة الحديثة لم يفهم منهما أن الإسرائيليين تركوا دينهم، وكذلك لا يفهم منهما أن
الإسلام سينحط. نعم إن بين المسلمين المتنورين اليوم تعصبًا قليلاً، ولكن في
صدورهم ميلاً قويًّا إلى التمسك بدين آبائهم وتطبيقه على الحاجات الحديثة؛ بل إن
المسلمين المتنورين اليوم لم يعودوا يذكرون الجهاد، ولكنهم يلفتون الأنظار إلى
إنماء التساهل واتساع المعرفة التي تتغلغل في كل جهة من جهات العالم الإسلامي.
وهاهنا أمر آخر هو أن المسلم المتنور يشعر نظير الإسرائيلي المتنور
بالرابطة الروحية التي تربطه إلى أخوته في الدين وهو لا يريد أن يقطع هذه
الرابطة.
نعم إن السواد الأعظم من المسلمين - ولا سيّما حيث النفوذ الأوربي لا يزال
خفيفًا - هم الآن حيث كانوا من مضي خمسمائة سنة، وكذلك توجد فئة بين
الإسرائيليين لا تزال تمارس شريعة لم تصدم بالحياة الحديثة بعد، وقد كان تطبيق
التقليد المقدس على حاجات المحيط المتغير ظاهرًا بأجلى مظهره في الدين
الإسرائيلي، ولكن التشابه في نشوء الدينين الإسرائيلي والإسلامي يحمل الواحد على
أن يتوقع للإسلام نفس ما وقع في الدين الإسرائيلي.
ولا يمكن أن يقع انحطاط تدريجي في الإسلام؛ لأنه توجد بواعث خارجية
تمنعه، فالإسلام قوي ولم يضعف - لا سّيما في القران الماضي - وقلّت فيه
الانشقاقات الداخلية، وزد على ذلك أن الإسلام يربح أكثر من النصرانية تابعين له من
الوثنيين. فالذي يصير مسلمًا لا يطلب منه شيء كثير؛ إذ لا يوجد تقديس ولا
طقس ديني ولا تعليم طويل، فكل ما يطلب منه أن يعترف بالله أنه كلي القوة، ومِن
ثمَّ يتدرج إلى تعلم الفرائض الإسلامية الدينية، وعندما يصير مسلمًا يتغير
مركزه الاجتماعي، ولكن إذا تنصّر فإنه يبقى دون غيره، ويظل المرسل الديني
غريبًا معلمًا متنحيًا عنه.
***
(الإسلام بمكة ومبلغ علم الخطيب به)
ولكني بإظهاري لكم هذه الصورة عن الإسلام، والحوادث التي تدير مجراه لا
أقول إنه لا يوجد فيه كثير من التقاليد القديمة التي لا تصدّق، ففي خلال الثمانية
الأشهر التي قضيتها في مكة كنت أحسبني مقيمًا في مدينة في القرن الثاني عشر أو
الثالث عشر. فهناك درست الشريعة الإسلامية بكل فروعها، وكل أسرار الإسلام
في الأشهر الثمانية التي كانت فيها المدينة غاصّة بحجاجها البالغ عددهم مائتي ألف،
ولا توجد تجارة في مكة غير نهب الحجاج فإن سكانها الوطنيين يسلبونهم كل ما
يكون معهم من مال بالبيع المغبون.
ولا شيء أدل على البداوة القديمة من مكة، فهي تمثل الإسلام في العصور
القديمة فلا بيوت هناك. أما وسائل النور والحرارة والماء التي اعتدناها في العصر
الحاضر فهي هناك كما كانت في العصور المظلمة، ولكن الذي لم يذهب إلى مكة ولا
أقام في بيت إسلامي فيها ودرس في جوامعها لا يقدر أن يفهم، أو يجد صعوبة
شديدة في معرفة نشوء بلاد إسلامية.
وقد كثر التحدث حينًا بعد آخر عن مكة أنها ستفتح للعالم بالقوة، ولكني لا
أرى شيئًا يدل على أن إنكلترا ستحاول فتح مكة؛ لأنها إذا أقدمت على هذا الأمر
جلبت لنفسها اضطرابات كثيرة في الهند. ولذلك ستظل مكة عدة سنين مركز التقليد
الإسلامي.
وعلى الجملة، إني أقول: إن نشوء الإسلام في القرن الجاري لا يكون شيئًا
باعثًا على الدهشة؛ بل سيكون طبقًا للحركة العمومية التي تقرّب بين الأمم والأديان
دون زوال الاحترام للتقاليد المورثة عن السلف، ولا بدّ للإسلام من الاتصال بالعالم
الغربي وسيفعل ذلك، ولكن نقصه العظيم أو النقطة التي يحتاج فيها أشد الاحتياج إلى
اتخاذ الأفكار والمبادئ الأوربية هي موقفه تجاه نسائه، وقد أخذ يتساهل في موقفه
نحوهن تساهلاً بطيئًا تدريجيا، فالإسلام لا يمكن أن يرتقي ارتقاءً حقيقيًّا إلا إذا حرر
نساءه الراسفات في سلاسل التقاليد القديمة التي لا تنطبق على روح العصر
الحديثة، التي هي روح الترقي الحقيقي. اهـ.
(المنار) :
سنبين رأينا في هذه المحاضرة في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.