للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عبد العزيز بك علي المصري

عبد العزيز بك المصري أو عزيز بك - كما تقول الترك - مِن ضُباط أركان
الحرب المشهورين في الجيش العثماني. وقائد برقة في قتال الجيش الإيطالي، وقد
قُبِضَ عليه في الآستانة منذ شهرين وسجن بأمر ديوان الحرب العرفي، ولم يعرف
السبب الرسمي لذلك، فحدث لذلك من التأثير السيئ في مصر وسوريا وغيرهما
من البلاد العربية فوق ما كان ينتظر، وصار ذلك شغل الجرائد العربية الشاغل،
وسرى هذا التأثير إلى كثير من الجرائد الأوربية.
وتناقلت الجرائد عن الآستانة أن الذي وشى به هو الشيخ عبد العزيز جاويش
الذي وظيفته التجسس على العرب. وقد دعا شيخ الجامع الأزهر أشهر علماء
المصريين وفضلائهم إلى عقد اجتماع للتشاور بما يجب اتخاذه لإنصاف هذا الرجل،
فاجتمع ألوفٌ مِن الناس في ٢٦ من هذا الشهر. وكان قد دُعي إلى الخطابة فيما
يتعلق بهذا الموضوع رفيق بك العظم ومحمد أفندي لطفي جمعة ومحمد أبو شادي
بك وإبراهيم بك الهلباوي - الثلاثة من المحامين - فخطب كل منهم فأجاد، وأثنوا
على عبد العزيز بك المصري وأطروا خدمته للدولة وأقاموا الدلائل والبينات على
استهجان القبض عليه، وفنّدوا ما شاع وما تصوّر مِن اتهامه به. وخطب صاحب
هذه المجلة خطبة ارتجالية وجيزة اقترحت عليه عندما وصل وأخذ مجلسه مِن مكان
الاحتفال، واختار ناظم عِقد اللجنة حسن باشا رضوان أن يكون الخطيب الثاني،
فأجبنا الطلب، ثُم اقترح علينا أن نكتب ملخص ما قلناه وننشره وهو هذا:
اقترح عليّ الآن أن أقول شيئًا في الموضوع الذي عُقد لأجله هذا الاجتماع ولم
يكن اسمي في جدول الخطباء وهم كثير فأنا أقول كلمةً وجيزةً حتى لا أضيّع على
الخطباء المستعدين وقتهم.
سمعتم ما شرحه الخطيب الأول (رفيق بك) من خدمة عبد العزيز بك
المصري للدولة والأمة في إقامة الدستور وتأييده، وفي مقاومة حرب العصابات
المسلحة في مكدونية، وفي اليمن وبرقة.
وستسمعون من سائر الخطباء شرحًا أوسع في الثناء على الرجل. وإنني أظن
كما تظنون أن الرجل بريء مِمَّا رماه به السعاة الواشون، ولكني أبني كلمتي على
غير الأساس الذي بنى عليه رفيق بك كلامه، فأنا لا أفرض أنه بريء، وإنه
يخشى أن يؤثر في أعضاء المحكمة التي تنظر في قضيته ما يدور حولها من
السعايات والأوهام فتصدق بعضها وتبني عليه الحكم، ولا أقول يوجب عقابه إذا
كان مذنبًا أو طلب العفو عنه بعد الحكم؛ بل أقول قولاً آخر فهاكموه:
يجوز أن يكون عبد العزيز المصري قد أتى بذنبٍ، لأنا نحن المسلمين لا
نقول بعصمة أحد من البشر غير الأنبياء الذين يبلغون رسالات ربهم فيما يتوقف
عليه أمر التبليغ وحكمته، كما يجوز أن يذنب كل واحد من الناس وليس فيهم أنبياء
مرسلون. نُجوّز هذا عقلاً وإن كان لدينا دلائل متعددة تؤيد البراءة الأصلية،
أظهرها أن الرجل بقي زمانًا في الآستانة بعد عودته من برقة كانت توكل إليه
الأعمال العسكرية التي لا توكل عادة إلى المجرمين المستحقين للسجون، ولم يؤخذ
بالتهمة المبهمة إلا بعد استقالته من الخدمة، ولم يكن له بعدها عمل صالح ولا سيئ.
وإنما أخذ بسعاية واشٍ مفسدٍ، فلنفرض أنه مذنبٌ، وأن ذلك الواشي الخبيث
صادق.
أنتم تعلمون أن الأمم لا تعز ولا ترتقي إلا بالرجال القادرين على الخدمة
العامة للأمة القائمين بها، وهؤلاء الرجال قليلون، لذلك يجب أن يضن بهم وتقال
عثراتُهم، وعزيز المصري مِن هؤلاء الرجال؛ بدليل ما قام به مِن الخدمة العامة
للدولة والأمة، فإذا صدق ذلك الواشي النَّمَّام الخبيث وما كان إلا كذوبًا في زعمه أنه
قد أتى ذنبًا يحاكم عليه، أليس له من حسناته وخدمته العامة شفيعٌ يقتضي أن تغفر
الدولة ذنبه وتقيل عثرته؟ وهل كان الذين يريدون الانتقام منه بُرآء من الذنوب
والعثرات؟ أم نقول لهم كما قال المسيح - عليه الصلاة والسلام - حين جيء
بالمرأة الزانية لأجل رجمها؟
كلا؛ إن لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوةً حسنةً، ولنا في
سيرة أصحابه وأئمة العدل مِن خلفائه ما نهتدي به في مثل حادثة عزيز المصري.
كان أبو محجن الثقفي مدمن خمر في الجاهلية وقد أسلم ولقي النبي صلى الله
عليه وسلم وروى عنه حديثًا.
وكانت الخمرة قد أحدثت له مرض الخمار فكان لا يستطيع تركها، وكانوا
يجلدونه إذا شرب، فيرى ألم الجَلد دون ألم الخمار. وقد حضر حرب القادسية مع
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ فحبسه سعد وقيّده بتهمة الشرب، وقد التحم
المسلمون مع المجوس في معركة شديدة، وكان سعد مجروحًا لم يحضر المعركة؛
بل قعد على سطح بيته ينظر ما يفعل المقاتلون، فلمّا رأى أبو محجن رحى الحرب
دائرة وخاف على المسلمين أن يغلبوا، رغب إلى امرأة القائد العام أن تحلّه من قيده
ليحضر المعركة، وعاهدها بأن يعود إلى قيده إذا هو سلم، ففعلت، فوثب على
فرسٍ لسعد يقال لها: البلقاء، وحمل برمحه على جيش الأعداء، فكان لا يحمل حملةً
إلا انهزم الأعداء أمامه.
وكان سعد - رضي الله عنه - يرى ذلك ويتعجب ويقول: الكرُّ كرُّ البلقاء،
والحمل حمل أبي محجن [١] وأبو محجن في القيد!!
ولمّا انهزم العدو رجع أبو محجن إلى قيده كما وعد امرأة سعد. وأخبرت هي
سعدًا بما كان، فأطلقه من قيده، وقال: لا أحد اليوم رجلاً نصر الله المسلمين على
يديه.
فقال أبو محجن: لقد كنت أشربها إذ يقام عليَّ الحد فيطهرني، وإذ قد
حابيتني [٢] فوَالله لا أشربها أبدًا. وتاب من ذلك اليوم.
ولدينا شاهد آخر من وقائع القادسية: زُهرة بن حوية هو الذي قتل الجالينوس،
قائد جيش المجوس، وقد أخذ سلبه بدون إذن القائد العام سعد بن أبي وقاص،
فانتزعه سعد منه وأراد أن يؤاخذه، ولكنه كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
يستأمره في ذلك. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: تعمد إلى مثل زُهرة وقد صلى
بما صلى به، وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه؟ [٣]
أنكر سيدنا عمر علي سعد عمله، وأمضى لزهرة سلبه، لأنه رأى أن عمله
الماضي والحاجة إلى عمله في المستقبل أرجح من هذه المخالفة، وأن المصلحة
تقتضي ذلك.
إن لنا فوق هذا كله أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خبر
حاطب بن أبي بلتعة: نقض مشركو قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن
يزحف عليهم لفتح مكة، وكان لحاطب أهل ومال بمكة خاف عليهم لأنه ليس لهم
أحد يحميهم، فكتب إلى أهل مكة يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم
النبي صلى الله عليه وسلم بما كان، وأرسل مَن أخذ الكتاب مِن امرأة كانت تحمله
في عقاص شعرها، وسأل حاطبًا عن ذلك فاعترف واعتذر بالخوف على أهله
وولده وأنه عمل ما لا يضر الله ولا رسوله؛ فقبل عذره، وأراد عمر بن الخطاب
الذي تضرب الأمم بعدله المثل أن يقتله؛ لأن إفشاء سر الحرب من أكبر الذنوب
العسكرية فجعله عمر دليل النفاق، واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله
فلم يأذن له، وقال (إنه شهد بدرًا) .
عدّ النبي صلى الله عليه وسلم شهود غزوة بدر مِن أقوى آيات الإيمان،
والصدق والإخلاص في الإسلام، لأن المسلمين كانوا وقتئِذٍ في قلة عدد، وقلة مال،
وقلة طعام، وقلة ركائب؛ كانوا في أشد الضعف، وكان المشركون في أَوَجِّ
قوتهم، فمَن بذل نفسه في سبيل الله في مثل تلك الحال لا يبذلها إلا بباعث الإيمان
وحافز الإخلاص، وتلك الحسنة تتضاءل بإزائها أي سيئة من السيئات.
فلنفرض أن عبد العزيز المصري قد اجترح ذنبًا عسكريًّا كبيرًا (كذنب
حاطب أو ماليًّا كذنب زُهرَة بن حوية، أو شخصيًّا كذنب أبي محجن رضي الله
عنهم) وأن ذلك الواشي الخبيث صادق فيما رماه به - وما كان الواشي النمّام
الخبيث إلا كذوبًا فاسقًا - أليس له مِن الجهاد في سبيل الحكومة الدستورية عند
تكوينها، ومِن الدفاع عنها أيام كان الخطر محدقًا بها، ما يشبه حسنة حاطب في
شهود غزوة بدر؟ وما كان حاطب ممتازًا فيها بشيء انفرد به دون سائر مَن
حضرها، ولا كان في مقدمة الذين أبْلَوا فيها وأثخنوا؟ وأما عبد العزيز المصري
فكان في مقدمة الضباط الذين أَبْلوا في فتح الآستانة، وفي غيرها من الأعمال
العسكرية التي أيدت الحكومة الحاضرة. فهو جدير بأن يكتفى منه بالأعذار، إذا
فرضنا أنه ارتكب بعض الأوزار، دع خدمته للدولة في عقد الصلح بينها وبين إمام
اليمن، بعد حرب استمرت عدة أجيال، سفكت فيها دماء مئات الألوف مِن الرجال،
وضاع بها القناطير المقنطرة من الأموال، ولم تستفد الدولة مِن ذلك فائدةً ما،
فكان ذلك الصلح من أفضل الأعمال وأنفعها للدولة ولأهل اليمن، ثُم دع خدمته في
قتال الجيش الإيطالي في برقة.
وإذا كان هذا الاجتماع العظيم قد عُقِد لأجل التشاور في إنصاف هذا الرجل،
أو إنقاذه من الخطر، قد جعل تحت رياسة الأستاذ الأكبر شيخ جامع الأزهر،
وشهده طائفة من أكبر علمائه، مع هذا الجمع العظيم من خواص البلاد؛ فالذي أراه
وأقترحه هو أن ترسل برقية بإمضاء الأستاذ الرئيس إلى مولانا السلطان المُعَظم
يخاطبه فيها بعنوان الخلافة، ويفتتحها بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: ٢١) ، ويطلب منه بأن لا يؤاخذ عبد العزيز بك
المصري بما عسَاه ينسبه إليه ديوان الحرب من ذنبٍ أو تقصيرٍ؛ لإخلاصه وسابق
خدمته للدولة، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسألة حاطب،
وبأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في إمضاء سلب الجالينوس
لزُهرَة بن حَويِة، وبسعد بن أبي وقاص في مسألة أبي محجن (رضي الله عنهم
أجمعين) ، ويظهر له رغبته ورغبة هذا الجمع الكبير مِن علماء مصر وفضلائها
في ذلك. وأكبر ظني أن هذا هو أرجى ما يرجى نفعه في الآستانة.
هذا وإنني أختم كلمتي بالشكر لكم أيها الفضلاء الذين قصدتم هذا المكان
للسعي في إنقاذ أخٍ لكم من الهلاك، فإن هذا خدمةٌ للإنسانية، ومحافظةٌ على حقوق
البشر في الحياة والحرية. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعاً} (المائدة: ٣٢) ، قال بعض مفسري السلف: إحياؤها السعي في إنقاذها من
الموت والسلام.
هذا وإن لجنة الاجتماع لم تعمل بهذا الاقتراح لأنها كانت قد وضعت صورة
برقية باسم الصدر الأعظم تتضمن معنى شفاعة الأمة المصرية بالرجل، فجاءها
جواب أنور باشا ناظر الحربية، ملخصه أن المجلس الحربي مستقل تمام الاستقلال
لا يطرأ عليه أقل تأثير! !