للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرضا بقضاء الله تعالى وقدره

قد اضطربت في هذه المسألة الأفهام، وزَلَّت فيها أقلام وأقدام، وأوردوا فيه
أبياتًا ليهودي حقيقة أو حكاية يقول فيها: إذا قضى الله أن يكون يهوديًّا وأمَره أن
يرضى بقضائه فما حيلته في ذلك؟ وأوردوا له أجوبة لم يرها الكثيرون مقنعة.
ولذلك طلب الشعراني في بعض كتبه ممن ظفر بجواب أحسن مما أورده أن يلحقه
بما ذكره منها. ولم نر لأحد من العلماء تحريرًا لهذه المسألة كتحرير ابن القيم لها
في كتاب (مدارج السالكين) وأين نجد كابن القيم في المحققين المحررين؟ قال
قدّس الله روحه في شرح كلام الهروي من الجزء الثاني:
قوله: (وهو الرضاء عنه في كل ما قضى) هاهنا ثلاثة أمور: الرضاء بالله
ربًّا [١] ، والرضاء عن الله، والرضاء بقضاء الله. فالرضاء به فرض، والرضاء
عنه، وإن كان من أجَلّ الأمور وأشرف أنواع العبودية - فلم يطالب به العموم
لعجزهم ومشقته عليهم - وأوجبته طائفة كما أوجبوا الرضاء به، واحتجّوا بحجج
(منها) : أنه إذا لم يكن راضيًا عن ربه فهو ساخط عليه؛ إذ لا واسطة بين الرضاء
والسخط، وسخط العبد على ربّه منافٍ لرضائه به ربًّا. قالوا: وأيضًا فعدم رضائه
عنه يستلزم سوء ظنّه ومنازعته له في اختياره لعبده، وإن الربّ تبارك وتعالى
يختار شيئًا ويرضاه ولا يختاره العبد ولا يرضاه، وهذا منافٍ للعبودية. قالوا -
وفي بعض الآثار الإلهية (من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليتخذ
له [٢] ربًّا سواي) ولا حجّة في شيء مِن ذلك. أمّا قوله [٣] : (لم يتخلص من
السخط على ربه إلا بالرضاء عنه إذ لا واسطة بين الرضاء والسخط) فكلام
مدخول، لأن السخط بالمقضي لا يستلزم السخط على مَن قضاه، كما أن
كراهة المقضي وبغضه والنفرة عنه لا يستلزم تعلّق ذلك بالذي قضاه وقدّره،
فالمقضي قد يسخطه العبد وهو راضٍ عمن قضاه وقدّره؛ بل يجتمع تسخطه
والرضا بنفس القضا - كما سيأتي إن شاء الله - وأما قولكم [٤] : (إنه يستلزم سوء
ظن العبد بربه ومنازعته له في اختياره) فليس كذلك؛ بل هو حسن الظن بربه في
الحالتين، وإنه إنما يسخط المقدور وينازعه بمقدور آخر، كما ينازع القدر الذي
يكرهه ربه بالقدر الذي يحبه ويرضاه، فينازع قدر الله بالله لله [٥] ، كما
يستعيذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، ويستعيذ به منه.
فأما (كونه يختار لنفسه خلاف ما يختاره الرب) فهذا موضع تفصيل لا
يحسب عليه ذيل النفي والإثبات. فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان:
(أحدهما) : اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا
النوع غير ما اختاره له سيده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: ٣٦) ، فاختيار
العبد ذلك منافٍ لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولاً.
(النوع الثاني) : اختيار كونيّ قدريّ لا يسخطه الرب؛ كالمصائب التي يبتلي
الله بها عبده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ويدفعها ويكشفها،
وليس في ذلك منازعة للربوبية - وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر - فهذا يكون تارةً
واجبًا، وتارةً مستحبًّا، وتارةً يكون مباحًا مستوي الطرفين، وتارةً يكون مكروهًا،
وتارةً يكون حرامًا.
وأمّا القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه، مثل قدر المعايب والذنوب، فالعبد
مأمور بسخطها ومنهي عن الرضاء بها.
وهذا هو التفصيل الواجب في الرضاء بالقضاء، وقد اضطرب الناس في
ذلك اضطرابًا عظيمًا ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل، فإن لفظ الرضا بالقضاء
لفظ محمود مأمور به، وهو من مقامات الصديقين، فصارت له حرمة أوجبت
لطائفة قبوله من غير تفصيل، وظنوا أن كل ما كان مخلوقًا للرب تعالى فهو
مرضي له ينبغي الرضا به، ثُم انقسموا فرقتين، فقالت فرقة: إذا كان القضاء
والرضاء متلازمين فمعلوم أنّا مأمورون ببُغْضِ المعاصي والكفر والظلم، فلا تكون
مقضية مقدرة. وفرقة قالت: قد دل العقل والشرع على أنها واقعة بقضاء الله وقدره
فنحن نرضى بها. والطائفتان منحرفتان جائرتان عن قصد السبيل، أولئك
أخرجوها عن قضاء الرب وقدره، وهؤلاء رضوا بها ولم يسخطوها. هؤلاء
خالفوا الرب تعالى في رضائه وسخطه، وخرجوا عن شرعه ودينه، وأولئك
أنكروا تعلّق قضائه وقدره بها.
واختلفت طرق أهل الإثبات للقدر والشرع في جواب الطائفتين، فقالت طائفة:
لم يقم دليلٌ مِن الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على جواز الرضا بكل قضاء فضلاً
عن وجوبه واستحبابه، فأين أمر الله عباده أو رسوله أن يرضوا بكل ما قضاه الله
وقدّره؟ وهذه طريقة كثير مِن أصحابنا وغيرهم، وبه أجاب القاضي أبو يعلى
وابن الباقلاني قال: فإن قيل: أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قيل له: نرضى
بقضاء الله الذي هو خلقه الذي أمرنا أن نرضى به، ولا نرضى من ذلك ما نهانا
عنه أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله، ولا نعترض على حكمه.
وقالت طائفة أخرى: يطلق الرضا بالقضا في الجملة دون تفاصيل المقضي
المقدّر. فنقول: نرضى بقضاء الله جملة ولا نسخطه، ولا نطلق الرضا على كل
واحد من تفاصيل المقضي كما يقول المسلمون: كل شيء يبيد ويهلك، ولا يقولون:
حجج الله تبيد وتهلك، ويقولون: الله رب كل شيء، ولا يضيفون ربوبيته إلى
الأعيان المستخبثة المستقذرة بخصوصها.
وقالت طائفة أخرى: بل نرضى بالقضاء ونسخط المقضي، فالرضاء
والسخط لم يتعلقا بشيء واحد.
وهذه الأجوبة لا يتمشى شيءٌ منها على أصول مَن يجعل محبة الله ورضاءه
ومشيئته واحدة - كما هو أحد قولي الأشعري وأكثر أتباعه - فإن هؤلاء يقولون:
إن كل ما شاءه وقضاه فقد أحبه ورضيه، وإذا كان الكون محبوبًا له مرضيًّا فنحن
نحب ما أحبه ونرضى ما رضيه. وقولكم: إن الرضا بالقضاء يطلق جملةً ولا يطلق
تفصيلاً. فذلك لا يمنع دخوله في جملة المرضى به، فيعود الأشكال. وقولكم
نرضى به من جهة كونها خلقًا لله، ونسخطها من جهة كونها كسبًا للعبد، فكسب
العبد إن كان أمرًا وجوديًّا فهو خلق لله فيرضى به، وإن كان أمرًا عدميًّا فلا حقيقة
له ترضي ولا تسخط. وأمّا قولكم: ترضى بالقضاء دون المقضي. فهذا إنما
يصح على قول مَن جعل القضاء غير المقضي، والفعل غير المفعول، وأما مَن لم
يفرّق بينهما فكيف يصح هذا على أصله؟
وقد أورد القاضي أبو بكر على نفسه هذا السؤال فقال: فإن قيل: القضاء
عندكم هو المقضي أو غيره؟ قيل: هو على ضربين، فالقضاء بمعنى الخلق هو
المقضي، لأن الخلق هو المخلوق، والقضاء الذي هو الإلزام والإعلام والكتابة
غير المقضي؛ لأن الأمر غير المأمور والخبر غير المخبر عنه. وهو الجواب لا
يخلصه أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الإلزام والإعلام والكتابة، وإنما الكلام في نفس
الفعل المقدّر المُعلم به المكتوب: هل مقدره وكاتبه سبحانه راضٍ به أم لا؟ وهل
العبد مأمور بالرضاء به نفسه أم لا؟ هذا حرف المسألة.
وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على مَن جعل مشيئته وقضاءه مستلزمًا لمحبته
ورضائه، فيكف بمن جعل ذلك شيئًا واحدًا؟ قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ
أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١٤٨) ، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ
كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النحل: ٣٥) ، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم
مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْم} (الزخرف: ٢٠) ، فهم استدلوا على محبته ورضاه
لشركهم بمشيئته؛ لذلك عارضوا بهذا الدليل أمره ونهيه. وفيه أبين الرد لقول مَن
جعل مشيئته غير محبته ورضاه، فالإشكال إنما نشأ مِن جعْلهم المشيئة نفس المحبة،
ثُم زادوه بجعلهم الفعل نفس المفعول، والقضاء عين المقضي، فنشأ من ذلك
إلزامهم بكونه تعالى راضيًا محبًّا لذلك، والتزام رضائهم به.
والذي يكشف هذه الغمة، ويبصر من هذه العماية، وينجي من هذه الورطة
التفريق بين ما فرّق الله بينه، وهو المشيئة والمحبة، فإنهما ليسا واحدًا ولا هما
متلازمين؛ بل قد يشاء ما لا يحبه ويحب ما لا يشاء كونه (فالأول) : كمشيئه
لوجود إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه،
(والثاني) : كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين وتوبة الفاسقين،
ولو شاء ذلك لوجد كله وكان جميعه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فإذا تقرّر هذا الأصل، وأن الفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي،
وأن الله سبحانه لم يأمر عباده بالرضاء بكل ما خلقه وشاءه - زالت الشبهات،
وانحلت الإشكالات، ولله الحمد، ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض بحيث
يظن إبطال أحدهما للآخر؛ بل القدر ينصر الشرع والشرع يصدق القدر، وكل
منهما يحقق الآخر.
إذا عرف هذا فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب وهو أساس الإسلام
وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيًا به بلا حرج ولا منازعة ولا
معارضة لا اعتراض، قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:
٦٥) . فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، ويرتفع الحرج من نفوسهم من
حكمه، ويسلّموا الحكم تسليمًا. وهذا حقيقة الرضاء بحكمه، فالتحكيم في مقام
الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان [٦] ، والتسليم في مقام الإحسان. ومتى خالط
القلب بشاشة الإيمان، واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين، وحيي بروح
الوحي، وتمهدت طبيعته، وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة، وتلقّى
أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلّم، فقد رضي كل الرضا بهذا القضاء
الديني المحبوب لله ورسوله.
والرضاء بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من
الصحة والغنى والعافية واللذّة أمرٌ لازم بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد،
محبوب له، فليس في الرضاء به عبودية؛ بل العبودية في مقابلته بالشكر
والاعتراف بالمنّة، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها، وأن لا
يعصى المنعم بها، ويرى التقصير في جميع ذلك.
والرضاء بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العباد ومحبته مما
لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي
وجوبه قولان، وهذا كالمرض والفقر وأذى الخلق له، والحر والبرد والآلام ونحو
ذلك.
والرضاء بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه،
كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه وهو مخالفة لربه تعالى، فإن
الله لا يرضى بذلك ولا يحبه، فكيف تتفق المحبة ورضاء ما يسخطه الحبيب
ويبغضه؟ ! فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضا.
فإن قلت: كيف يريد الله سبحانه أمرًا لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه
ويكونه؟ وكيف تجتمع إرادة الله وبغضه وكراهيته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي
افترق الناس لأجله فرقًا، وتباينت عنه طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان:
مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير،
فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد، والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصودًا
للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده
فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده،
فيجتمع فيه الأمران بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء
المتناهي في الكراهة إذا علم متناوله أن فيه شفاءه، وكقطع العضو المتآكل إذا علم
أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة جدًّا إذا علم أنها توصله إلى مراده
ومحبوبه؛ بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت
عنه عاقبته وطويت عنه مغبته، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب؟ فهو سبحانه
وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره [٧] وكونه سببًا
إلى ما هو أحب إليه من فوته.
مثال ذلك أنه سبحانه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال
والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يُغضب الرب تبارك
وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة؛
فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى مسخوط له، لعنه الله ومقته وغضب عليه،
ومع هذا فهو وسيلة إلى محابّ كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب
إليه من عدمها.
(منها) : أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات،
فخلق هذه الذات التي هي من أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في
مقابلة ذات جبرائيل - صلى الله عليه وسلم - التي هي أشرف الذوات وأطهرها
وأزكاها، وهي مادة من كل خير، فتبارك الله خالق هذا وهذا. كما ظهرت لهم
قدرته التامة في خلق الليل والنهار، والضياء والظلام، والداء والدواء، والحياة
والموت، والحر والبرد، والحسن والقبيح، والأرض والسماء، والماء والنار،
والخير والشر، وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته وسلطانه وملكه،
فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض وسلّط بعضها على بعض، وجعلها
محال تصرفه وتدبيره وحكمته، فخلوّ الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته
وكمال تصرفه وتدبيره مملكته.
(ومنها) : ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل القهار والمنتقم والعدل والضار،
وشديد العقاب، وسريع الحساب، وذي البطش الشديد والخافض والمذل، فإن
هذه الأسماء والأفعال كمال فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على
طبيعة الملك لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
(ومنها) : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره
وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب
المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي -
صلى الله عليه وسلم - إلى هذا بقوله: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم
يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) .
(ومنها) : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير
الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير
موضعه، ولا ينزله غير منزلته، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فلا
يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع
الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب ولا العقاب موضع الثواب، ولا
الخفض موضع الرفع ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل، ولا الذل
مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عن ما ينبغي الأمر به. فهو
أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على إنهائها إليه
ووصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله، وأحكم من أن يمنعها أهلها
ويضعها عند غير أهلها، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه
الآثار ولم تظهر لخلقه، ولفاتت الحكمة والمصالح المرتبة عليها وفواتها شر من
حصول تلك الأسباب، فلو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي
هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها
من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر، فلو قدر
تعطيلها لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك
الشر بما لا نسبة بينه وبينه.
***
فصل
(ومنها) : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لَمَا حصلت،
ولكان الحاصل بعضها لا كلها، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه
سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة فيه
سبحانه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه. وبذل النفس له في محاربة عدوّه،
وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى،
وإيثار محابّ الرب على محابّ النفس.
(ومنها) : عبودية التوبة والرجوع إليه واستغفاره، فإنه سبحانه يحب
التوابين ويحب توبتهم، فلو عطّلت الأسباب التي يثاب منها لتعطلت عبودية التوبة
والاستغفار منها.
(ومنها) : عبودية مخالفة عدوه ومراغمته في الله وإغاظته فيه، وهي من
أحب أنواع العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه
ويسوءه، وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس.
(ومنها) : أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوّه وسؤاله أن يجيره منه ويعصمه
من كيده وأذاه.
(ومنها) : أن عبيده يشتدُّ خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حلّ بعدوه بمخالفته
وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية، فلا يخلدون إلى غرور الأمل
بعد ذلك.
(ومنها) : أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته الذي حصوله مشروط
بالمعاداة والمخالفة، فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتبة على مخالفته.
(ومنها) : أن نفس اتخاذه عدوًّا من أكبر أنواع العبودية وأجلها، قال الله
تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (فاطر: ٦) ، فاتخاذه عدوًّا أنفع
شيء للعبد وهو محبوب للرب.
(ومنها) : أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب
والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد، فخُلِقَ الشيطان مستخرجًا ما في
طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل، وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل
الخير من القوة إلى الفعل، فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير
الكامل فيها ليترتب عليه آثاره، وما في أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره،
وتظهر حكمته في الفريقين وينفذ حكمته فيهما، ويظهر ما كان معلومًا له مطابقًا
لعلمه السابق. وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٣٠) فظنت الملائكة أن وجود من يسبّح بحمده ويطيعه ويعبده أولى
من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح
والغايات المحمودة في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة.
(ومنها) : أن ظهور كثير من آياته وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع
الكفر والشر من النفوس الكافرة والظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية
إهلاك ثمود وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردًا وسلامًا، والآيات التي
أجراها الله تعالى على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر
كل آية منها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ
الرَّحِيمُ} (الشعراء: ٨-٩) ، فلولا كُفر الكافرين وعناد الجاحدين، لَمَا ظهرت
هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلاً بعد جيل إلى الأبد.
(ومنها) : أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضًا، ويكسر
بعضها بعضًا، هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والحكمة التامة،
والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم يخلق هذه الأسباب؛
لكن خَلْقها من لوازم كماله وملكه، وقدرته وحكمته، فظهور تأثيرها وأحكامها في
عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال، وموجب من موجباته، فتعمير مراتب الغيب
والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه
وغايته.
وبالجملة: فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا
يرضاه وتقديره ومشيئته، أحب إلى الله سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل
أسبابها.
فإن قلت: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ فهذا سؤال
باطل؛ إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب
والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
فإن قلت: فإذا كانت هذه الأسباب مراده لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون
مرضية محبوبة من هذا الوجه؟ أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قلت هذا
السؤال يورد على وجهين:
(أحدهما) : من جهة الرب سبحانه وتعالى. وهل يكون محبًّا لها من جهة
إفضائها إلى محبوبه وإن كان بغضها لذاتها؟
(والثاني) : من جهة العبد، وهو أنه له يسوغ هل الرضاء بها من تلك
الجهة أيضًا؟ فهذا سؤال له شأن.
فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه،
وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شرَّ فيه؛ مثاله أن النفس
الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة إنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير
عنها، فإنها به [٨] خلقت في الأصل متحركة لا تسكن، فإن أعينت بالعلم وإلهام
الخير تحركت [٩] وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي
حركة خير، وإنما تكون شرًّا بالإضافة؛ لا من حيث هي حركة. والشر كله
ظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو وضع في موضعه لم يكن شرًّا،
فعلم أن جهة الشر فيه بنسبته بمشيئته [١٠] إضافية، ولهذا كانت العقوبات الموضوعات
في محالها خيرًا في نفسها وإن كانت شرًّا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به، لِمَا أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة، مستعدة له،
فصار ذلك الألم شرًّا بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل، حيث وضعه
موضعه، فإنه سبحانه لا يخلق شرًّا محضًا من جميع الوجوه والاعتبارات [١١] فإن حكمته تأبى ذلك؛ بل قد يكون ذلك المخلوق شرًّا ومفسدةً ببعض الاعتبارات،
وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده؛ بل الواقع
منحصر في ذلك، فلا يمكن في جناب الحق جلَّ جلاله أن يريد شيئًا يكون فسادًا من
كل وجه بكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجهٍ ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه
بيده الخير والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه
الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرًّا، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو
الذي صيّره شرًّا.
فإن قلت: لم تقطع نسبته إليه خلقًا ومشيئةً. قلت: هو من هذه الجهة ليس
بشرّ، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي
فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء [١٢] حتى ينسب إلى مَن بيده
الخير.
فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد،
والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات وأسبابها، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى
الله، وإعداده خير وهو إليه أيضًا، وإمداده خير وهو إليه، فإذا لم يحدث فيه
إعدادًا ولا إمدادًا حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه
ضده.
فإن قلت: فهلاّ أَمَدَّهُ إِذْ أَوْجَدَهُ؟ قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه
سبحانه يوجده ويمده، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم
يمده بحكمته، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده.
فإن قلت: فهلاّ أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن
التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة، وهذا عين الجهل؛ بل الحكمة كل الحكمة
في هذا التفاوت العظيم الواقع بينهما، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت فكل نوع
منها ليس في خلقه من تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق،
وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم
فراجع قول القائل:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
كما ذكر أن الأصمعي اجتمع بالخليل بن أحمد وحرص على فهم العَرُوض
وأعياه ذلك، فقال له الخليل يومًا: قطّع لي هذا البيت، وأنشده (إذا لم تستطع)
البيت، ففهم ما أراد فأمسك عنه ولم يشتغل به.
وسر المسألة أن الرضاء بالله يستلزم الرضاء بصفاته وأفعاله وأسمائه وأحكامه،
ولا يستلزم الرضاء بمفعولاته كلها؛ بل حقيقة العبودية أن يوافقه عبده في رضاه
وسخطه، فيرضى منها بما يرضى به ويسخط منها [١٣] ما سخطه. فإن قيل: فهو
سبحانه يرضى عقوبة مَن يستحق العقوبة. فكيف يمكن العبد أن يرضى بعقوبته له؟
قيل: لو وافقه في رضاه بعقوبته لانقلبت لذةً وسرورًا، ولكن لا يقع ذلك [١٤] فإنه لم
يوافقه في محبته وطاعته التي هي سرور النفس وقُرَّة العين وحياة القلب، فكيف
يوافقه في محبته للعقوبة التي هي أكره شيء إليه، وأشق شيء عليه؟ بل كان
كارهًا لِمَا يحبه من طاعته وتوحيده، فلا يكون راضيًا مما يختاره من عقوبته، ولو
فعل ذلك لارتفعت عنه العقوبة.
فإن قلت: فكيف يجتمع الرضا بالقضا الذي يكرهه العبد من المرض والفقر
والألم مع كراهته؟ قلت: لا تنافي في ذلك فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما
يحب، ويكرهه من جهة تأمله به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه
يجتمع فيه رضاؤه به وكراهته له.
فإن قلت: كيف يرضى لعبده شيئًا ولا يعينه عليه؟ قلت: لأن إعانته عليه قد
تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون
وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة،
بحيث يكون وقوعها منه مستلزمًا لمفسدةٍ راجحةٍ، ومفوتًا لمصلحة راجحة، وقد
أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ
انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً
وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التوبة
: ٤٦-٤٧) فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم مع رسول الله للغزو وهو طاعة
وقربة، وقد أمرهم به، فلما كرهه منهم ثَبَّطَهُم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد
التي كانت تترتب على خروجهم لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} (التوبة: ٤٧) أي فسادًا
{وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} (التوبة: ٤٧) أي سعوا فيما بينكم بالفساد والشر يبغونكم
الفتنة وفيكم سمّاعون لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من بين سعي
هؤلاء بالفساد وقبول أولئك منهم من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم،
فاقتضت الحكمة والرحمة أن منعهم من الخروج وأقعدهم عنه، فاجعل هذا المثال
أصلاً لهذا الباب وقِسْ عليه.
فإن قلت: قد تصوّر لي هذا في رضاء الرب تعالى لبعض ما يخلقه من وجهٍ
وكراهته من وجه، فكيف لي بأن يجتمع الأمران في حقي بالنسبة إلى المعاصي
والفسوق؟ قلت: هو متصوّر ممكن؛ بل واقع، فإن العبد يسخط ذلك ويبغضه
ويكرهه من حيث هو فعل له واقع بسببه وإراداته واختياره، ويرضى بعلم الله
وكتابته ومشيئته وإذنه الكوني فيه، فيرضى بما من الله، ويسخط ما هو منه. فهذا
مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى رأوا كراهية ذلك مطلقًا، وعدم
الرضاء من كل وجه، وهؤلاء في الحقيقة لا يخالفون أولئك، فإن العبد إذا كرهها
مطلقًا فإن الكراهة إنما تنفع على الاستياء من المكروه منها، وهؤلاء لم يكرهوا علم
الرب وكتابته ومشيئته وإلزامه حكمه [١٥] الكوني، وأولئك لم يرضوا بها من الوجه
الذي سخطها الرب وأبغضها لأجله.
وسر المسألة أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد منها هو
المكروه والمسخوط، فإن قلت: ليس إلى العبد شيء منها. قلت: هذا هو الجبر
الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المكان الضيق، والقدري أقرب إلى
التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية هم أسعد
بالتخلص منه من الفريقين.
فإن قلت: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود
القومية والمشيئة النافذة؟ قلت: هذا الذي أوقع مَن عميت بصيرته في شهود الأمر
على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر،
وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته في ذلك. قيل:
أصبحت منفعلاً لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية؛ فإن
الطاعة هي موافقة الأمر لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله
لكان إبليس مِن أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم
فرعون كلهم مطيعين له، فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم
لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فإن قلت: ومع ذلك فاجمع لي بين الندم والتوبة وبين مشهد القيومية والحكمة.
قلت: العبد إذا شهد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم
استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين؛ كان [١٦] بالله في هذه الحال لا بنفسه،
فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة، فإن عليه حصنًا حصينًا مِن: (فبي
يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) فلا يتصوّر منه الذنب في هذه الحال،
فإذا حجب عن هذا المشهد وسقط إلى وجوده الطبيعي وبقي بنفسه استولى عليه
حكم النفس والطبع والهوى، وهذا الوجود الطبيعي قد نصبت فيه الشباك والأشراك،
وأرسلت عليه الصيادون، فلا بد أن يقع في شبكة من تلك الشباك، وشرك من
تلك الأشراك، وهذا الوجود وهو حجاب بينه وبين ربه، فعند ذلك يقع الحجاب
ويقوى المقتضي، ويضعف المانع، وتشتد الظلمة، وتضعف القوى، فأنى له
بالخلاص من تلك الأشراك والشباك؟ فإذا انقشع ضباب ذلك الوجود الطبيعي
وانجاب ظلامه، زال قتامه، وصرت بربك ذاهبًا عن نفسك وطبعك:
بدا لك سر طال عنك اكتتامه ... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فإن غبت عنه حل فيه وطنبت ... على منكب الكشف المصون خيامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ... ولولاك لم يطبع عليه ختامه
وجاء حديث لا يمل سماعه ... شهي إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها ... وزال عن القلب المُعَنَّى قتامه
فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية [١٧] بنفسه،
محجوبًا فيها عن ربه وعن طاعته، فلما فارق ذلك الوجود وصار في وجود آخر
بقي بربه لا بنفسه، وإذا عرف هذا فالتوبة والندم يكونان في هذا الوجود الذي هو
فيه بربه، وذلك لا ينافي مشهد الحكمة والقيومية؛ بل يجامعه ويستمدّ منه. وبالله
التوفيق.