للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار

في يوم السبت في ٢١ جمادى الآخرة دعانا بالمسرّة (التلفون) رئيس النظار
حسين رشدي باشا إلى داره؛ فوافيناه فيها فإذا هو في سرير النوم لانحراف صحته،
وإذا بجانبه جريدة مصر القبطية، فأطلعنا عليها، وسألنا عما تنسبه إلى المنار
من الطعن المعلم عليه بالحبر الأحمر فيها، وملخصه أنه يجعل النصارى كلهم
وثنيين، وأن طعنه يكاد يضرم نار الثورة في البلاد؟ ؟ فلما قرأت ما فيها قلت
للرئيس: يا عطوفة الرئيس! أنت قاضٍ قبل كل شيء، وقد اشتهرت في حياتك
القضائية بالاستقلال، ومن مقتضى ذلك أن تقرأ الطعن الذي تشير إليه جريدة مصر،
قبل أن تحكم في المسألة بشيء. هذه العبارة التي تشير إليها جريدة مصر أوردها
المنار كعنوان لموضوع كتاب في سياق تقريظه له. هذا الكتاب اسمه (نشوء فكرة
الله) مؤلفه إنكليزي، ولخصه بالعربية سلامة أفندي موسى القبطي، وطبعه
بمطبعة يوسف أفندي الخازن الماروني السوري، محرر جريدة الوطن القبطية،
وقرظته الجرائد والمجلات السورية القبطية والإسلامية، ولم يعب المترجم والناشر
أحد منها بأنه عاب النصرانية وكاد يضرم نار الثورة في البلاد! ولكن لما قرظته
مجلة المنار الإسلامية وذكرت أن ملخصه إثبات كون الديانة النصرانية وثنية
الأصل - وقيدتها بالحاضرة تبرئة للمسيحية الصحيحة التي كان عليها المسيح عليه
السلام وحواريه رضي الله عنهم - صار ذلك أكبر الجرائم المحركة للثورات والفتن،
واستحق صاحب المنار النفي من مصر، واستحقت الحكومة هذا الإنذار من
جريدة مصر - إذ فيها: أن من أنذر فقد أعذر بعد الاقتراح على الحكومة بأن
تعاقب صاحب المنار بمثل ما عاقبت به عبد العزيز شاويش عدو القبط من سجن
ونفي.
ثم أعطيت للرئيس نسخة المنار فلما قرأ التقريظ فيها ضحك مستغربًا كتابة
جريدة مصر. ثم ذكرت له أن المنار لما كان هو المجلة الإسلامية الوحيدة التي
أخذت على نفسها الدفاع عن الإسلام في هذه البلاد الحرة التي ينشر المبشرون فيها
الصحف والرسائل الكثيرة في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه
وسلم وجب علينا شرعًا أن نرد عليها اعتداءها ولو بما هو دونه؛ إذ لا يسمح لنا
ديننا أن نطعن في سيدنا عيسى ولا في أصل دينه وكتابه. فأنا لا أترك مدافعة
المبشرين إلا إذا كانت الحكومة تريد منع حرية المسلمين في دينهم وتجعل الحرية
للنصارى وحدهم. فقال الرئيس: كلا إن الحكومة لا تسلبك حرية الدفاع عن الإسلام
ولكن توصيك بالاعتدال والتزام خطة الدفاع. قلت: إنني أعني بالدفاع أنهم البادئون
وأننا نجزيهم بما دون عملهم، وأنهم إذا تركوا الكلام في ديننا تركنا الكلام في دينهم،
وأنني مستعد لتقديم جدول للحكومة بالشواهد من كتب المبشرين ورسائلهم على ما
فيها من الطعن الفاحش في الإسلام ... إلخ.
كان ما أطلعني عليه الرئيس أول ما اطلعت عليه من المطاعن الكثيرة التي
وجهتها إلى المنار جريدة مصر، وكنت أسمع بها، ولا أحاول الاطلاع على شيء
منها. ثم جاءني أحد الأصدقاء بعددين منها؛ فإذا في أحدهما ما نصّه تحت عنوان
(صاحب المنار) :
(اتصل بنا أن ولاة الأمر قد اهتموا بما كتبناه عن الشيخ صاحب المنار
وطعنه الطعن الجارح في الدين المسيحي وأهله فاستدعاه عطوفة رئيس النظار إلى
منزله وحذره من الكتابة في مثل هذه المواضيع المهيجة وأنذره بتعطيل مجلته إن
عاد إلى تلك الكتابات. فعسى أن يكون هذا الإنذار مانعًا من الوقوع في المصائب
التي يريد صاحب المنار جلبها على البلاد وأهلها.
دع كذب جريدة مصر على رئيس الحكومة في هذا العدد وانظر ما كتبت في
الآخر: كنت كتبت مقالة في الرد على جريدة (دوكير) التي تصدر بمصر باللغة
الفرنسية؛ إذ نشرت مقالة تنكر فيها على المنار ما كتبه في النصرانية، يظهر أنها
لأحد السوريين، بينت فيها طريقة المنار في الجمع بين الإسلام والمدنية الصحيحة
والتأليف بين المسلمين وغيرهم، والصحف الفرنسية التي شهدت له بذلك، وكون
رده على دعاة النصرانية لا ينافي ذلك. وأرسلت المقالة إلى المؤيد فلم ينشرها إلا
بعد زهاء شهر من إرسالها إليه. وقد هاج نشرها جريدة مصر فكتبت مقالة في
اليوم التالي لنشر المقالة في المؤيد (وهو ٢٧ جمادى الآخرة) استفرغت فيها ما
في قلب صاحبها ومحررها من السباب والشتائم والحقد والضغينة على صاحب
المنار، فظهر من فحوى ذلك سر من الأسرار، وهو سبب حملة جريدة مصر علينا
في هذا الشهر، مع أن المنار يرد على المبشرين من بضع عشرة سنة وهاك ما
فضح السر منها:
(ولكن هذا الرجل المسكين لم يعد يعطف أحد عليه. فالوطنيون يكرهونه
لأنه يعاكس مبادئهم، والإنكليز يبغضونه لأنه عدو مدنيتهم وعلماء المسلمين
يكرهونه لأنه غير واقف على أسرار الدين. وقد أدركت الحكومة سوء طويته،
وستوقفه عند حده عن قريب.
(إننا إذا اغتفرنا لهذا الرجل كل سيئاته وتغاضينا عن مدرسته التي لا ندري
الغرض منها. فإنه لا يرضينا منه تداخله في ما لا يعنيه وشرحه للدين المسيحي
شرحًا يخالف ما يعتقد به أهله. وطعنه ذاك الطعن الأليم في المدنية الأوربية
ووضعه القناصل والمبشرين والمومسات والقوادين في مستوًى واحد.
لذلك كله نرى من واجباتنا الوطنية أن نلاحق هذا الرجل ونعمل جهد
استطاعتنا لمحاربته كما تحارب الحكومات الأمراض المعدية ولو تسلح برضا بعض
ولاة الأمر عنه وشدّ جريدة مثل المؤيد لأزره بقولها عنه: (إن صاحب المنار
مهضوم الجانب وفي حاجة إلى الدفاع عن نفسه ودينه) اهـ. بحروفه.
(المنار)
ظهر لنا من هذا التصريح الذي لا يحتمل التأويل أن سبب انفجار
بركان التعصب على صاحب المنار في جريدة مصر هو تشريف مولانا الأمير
عزيز مصر مدرسة دار الدعوة والإرشاد، وما تضمنته هذه الزيارة من إعلان ثقته
بالمدرسة وعطفه السامي على ناظرها صاحب المنار، ولذلك عرضت جريدة مصر
بذكر المدرسة وقالت إنها تغاضت عنها، على كونها لا تدري الغرض منها! ! كأنه
يجب على كل مسلم يعمل للإسلام عملاً أن يوقف جريدة مصر على غرضه من
علمه! !
تقول جريدة مصر في صاحب المنار: إن المصريين والإنكليز يبغضونه، وإن
الحكومة قد أدركت سوء طويته وستوقفه عند حده عن قريب. أثبتت جريدة مصر
كل هذا، فكان ينتظر من مديرها ومحررها أنصار الديانة المسيحية بزعمهم أن يجد
صاحب المنار من قلوبهم عطفة أو نفحة من الرحمة المسيحية المبني أساسها على
محبة الأعداء ومباركة اللاعنين! ! ولكنهم لم يزدادوا إلا قسوة وحقدًا عليه، فبعد
الجزم بجميع ما ذكر قالوا: إن الواجب عليهم أن يعملوا جهد استطاعتهم لمحاربته ولو
تسلح برضا بعض أولياء الأمور عنه؟ فإذا كان الإنكليز ورجال الحكومة غاضبين
عليه. فمن تعني ببعض أولياء الأمور المتسلح برضاهم عنه؟ ؟
ثم ماذا تريد جريدة مصر بالمحاربة الجديدة التي توعدتنا بها، بعدما كان من
تهييجها المبشرين وغيرهم من رجال النصرانية علينا، وبعد هذه السباب والشتائم
وبعد إنذار الحكومة بخطر الثورة إذا لم تنكل بصاحب المنار؟ وهل بعد هذا من
حرب تقدر عليه جريدة؟ نعم بلغني ممن يعاشر بعض محرري جريدة مصر أنهم
يعنون بهذه المحاربة الاستعانة بنفوذ المبشرين في إنكلترة على إقناع حكومة لندرة
نفسها بوجوب إلغاء المنار والتنكيل بصاحبه وإقفال مدرسة دار الدعوة والإرشاد، إلى
هذا الحد وصلت ثقة متعصبي القبط بكيدهم للمسلمين، فاعتبروا يا أولي الأبصار.