للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


نموذج آخر من مدارج السالكين

من بحث تغير الأخلاق وعدمه في ضرب مثل للانتفاع بكل خلق وكل غريزة
وعدم محاولة تغييرها
فصل
نافع جدًّا عظيم النفع للسالك يوصله عن قريب، ويسير بأخلاقه التي لا يمكنه
إزالتها، فإن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت عليها،
وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم
يظفر أكثرهم بتبديلها، لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها،
فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز كسر جيوش الرياضة وشتتها واستولى على
مملكة الطبع. وهذا فصل يصل به السالك مع تلك الأخلاق ولا يحتاج إلى علاجها
وإزالتها، ويكون سيره أقوى وأجل وأسرع من سير العامل على إزالتها.
ونقدم قبل هذا مثلاً نضربه مطابقًا لما نريده وهو: نهر جارٍ في صببه
ومنحدره، ومُنْتَهٍ إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي
حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم وأموالهم، فانقسموا ثلاث فرق: فرقة صرفت
قواها وقوى أعمالها إلى سكره وحبسه وإيقافه فلم تصنع هذه الفرقة كبير أمر، فإنه
يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر فيكون إفساده وتخريبه أعظم. وفرقة رأت
هذه الحالة وعلمت أنه لا يغني عنها شيئًا فقالت: لا خلاص من محذوره إلا بقطعه
من أصل الينبوع، فرامت قطعه من أصله فتعذر عليها ذلك غاية التعذر، وأبت
الطبيعة النهرية ذلك أشد الإباء، فهم دائمًا في قطع الينبوع، وكلما سدوه من موضع
نبع من موضع، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس
الأشجار. فجاءت فرقة ثالثة خالفت رأي الفرقتين وعلموا أنهم قد ضاعت عليهم
كثير من مصالحهم فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى خراب
العمران، وصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون به، فصرفوه
إلى أرض قابلة النبات وسقوها به، فأنبتت أنواع العشب والكلإ والثمار المختلفة
الأصناف، فكانت هذه الفرقة هم أصوب الفرق في شأن هذا النهر.
فإذا تبين هذا المثل، فالله سبحانه اقتضت حكمته أن ركّب الإنسان - بل سائر
الحيوان - على طبيعة محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية؛ وهي الإرادية،
وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جِبِلَّة كل
حيوان، فبقوة الشهوة والإرادة يجذب المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضارَّ
عنها، فإذا استعمل الشهوة في طلب ما تحتاج إليه تولد منها الحرص، وإذا استعمل
الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والعزة، فإذا عجز عن ذلك
الضار أورثه قوة الحقد، وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدًّا به
أورثه الحسد. فإن ظفر به أورثته شدة شهوته وإرادته خلق البخل والشح، وإن
اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها
فيه أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبر والفخر والخيلاء، فإنها
أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب، وتزوج أحدهما بصاحبه.
فإذا تبين هذا فالنهر مثال هاتين القوتين، وهو منصبٌّ في جدول الطبيعة
ومجراها إلى دُور القلب وعمرانه وحواصله يذهبها ويتلفها ولا بد، فالنفوس
الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه، وأنبت
موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم، وهو الذي يأكله أهل
النار يوم القيامة يوم المعاد، وأما النفوس الزكية الفاضلة فإنها رأت ما يؤول إليه
أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق:
فأصحاب الرياضات والمجاهدات والخلوات والتمرنات راموا قطعه من ينبوعه
فأبت ذلك حكمة الله تعالى وما طبع عليه الجبلة البشرية، ولم تنقد لهم الطبيعة،
فاشتد القتال ودام الحرب وحمي الوطيس وصارت الحرب دولاً وسجالاً، وهؤلاء
صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات.
وفرقة أعرضوا عنها وشغلوا نفوسهم بالأعمال ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات
مع تخليتهم إياها على مجراها، لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم بل اشتغلوا
بتحصين العمران وإحكام بنائه وأساسه، ورأوا أن ذلك النهر لا بد أن يصل إليه،
فإذا وصل إلى بناء محكم لم يهدمه بل يأخذ عنه يمينًا وشمالاً، فهؤلاء صرفوا قوة
عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وأحكام البناء، وأولئك صرفوها في قطع المادة
الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء. وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وتنظيفها، فقال لي
جملة كلامه: النفس مثل الباطوس (وهو جب القذر) كلما نبشته ظهر وخرج
ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه فإنك لن
تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره. فقلت: سألت عن هذه المسألة
بعض الشيوخ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق
المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السفر
قط. ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها. فإذا عرض
لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام
ذلك جدًّا، وأثنى على قائله.
إذا تبين هذا فهذه الفرقة الثالثة رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدًى ولا عبثًا،
وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك والثمار والحطب، وأنها صوان
وأصداف لجواهر منطوية عليها دومًا، فما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح
والظفر، فرأوا أن الكبر نهر يسقى به العلو والفخر والبطر والظلم والعدوان،
ويسقى به علو الهمة والأنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم،
وهذه درة في صدفته، فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس واستخرجوا هذه الدرة من
صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع،
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة يتبختر بين الصفين فقال: (إنها لمشية
يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع) فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا
الخلق يجري في أحسن مواضعه، وفي الحديث الآخر - وأظنه في المسند: (إن
من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله، فالخيلاء التي يحبها الله اختيال
الرجل في الحرب وعند الصدقة) فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية،
وكيف استحال القاطع موصلاً. فصاحب الرياضات والعامل بطريق الرياضات
والمجاهدات والخلوات، هيهات هيهات، إنما يوقع ذلك في الآفات والشبهات
والضلالات، فإن تزكية النفوس مسلم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية
وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليمًا وبيانًا وإرشادًا، لا خلقًا ولا إلهامًا،
فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: ٢) وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو
عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ *
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة: ١٥١-١٥٢) ، وتزكية
النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة
والخلوة التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين رأيه
من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من
طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم، والله المستعان.
((يتبع بمقال تالٍ))