للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجنسيات
في المملكة العثمانية

الجنس في عُرف أهل السياسة كالصنف في عُرف علماء المنطق، فيُطلق
على الأجيال التي تفصل بينها الفصول العامة (كالنسب واللغة) وهما أقدم روابط
الجنسية، ويليها الدين والوطن الأرضي والسياسي. ولم يوجد دين من الأديان ألف
بين شعوب وقبائل مختلفة في جميع روابط الجنسية وجعلها أمة واحدة وجنسًا واحدًا
إلا الدين الإسلامي، وقد بيَّنَّا هذا مرارًا فلا نعيده الآن. ولما كان اتحاد الأمة لا يتم
إلا بوحدة لغتها كان من مقاصد الإسلام جعل لغة القرآن لغة لجميع المسلمين،
وعلى هذا جرى المسلمون في خير القرون بالعمل، فصارت العربية لغة المسلمين
في المشرق والمغرب من القرن الأول. وقد زال من نفوس المسلمين الشعور
بالغيرية الجنسية زمنًا طويلاً، حتى أحياه الفرس والترك كما بيّنّا من قبل.
إن العصبية الجنسية في هذا العصر قد دخلت في طور سياسي جديد، وكان
العرب آخر الأجناس شعورًا بها؛ لأن سوادهم الأعظم مسلمون لا يكادون يشعرون
بغير الجنسية الدينية؛ ولكن الآستانة بسياسة حكومتها وإدارتها بعد الدستور وسياسة
جرائدها قد كونت هذا الشعور وجعلته حيًّا ناميًا - فصدقت كلمتي المحفوظة: إن
العرب يعجزون بأنفسهم عن تكوين جنسية عربية سياسية لهم، ولا يقدر على ذلك
إلا الآستانة وحدها، ولما رأينا بوادر هذا الأمر وكنا نعلم أن التحولات الاجتماعية
السريعة تكون دائمًا محفوفة بالأخطار سعينا لتدارك الخطر في الآستانة نفسها،
ومقالاتنا الست التي نشرناها هنالك تحت عنوان (العرب والترك) لا تزال
محفوظة تشهد لنا بأننا سعينا إلى الوحدة بين العنصرين جد السعي، وبينا من
الحجج على ذلك ما لم يبينه أحد، ولكن ذلك كله لم يفد، ولماذا؟
إن من المقاصد الأساسية لجمعية الاتحاد والترقي إحياء الجنسية التركية
وتقويتها لتوجد منها أمة تركية كأمم أوربا في مدنيتها، ودولة تركية كدول أوربة في
عزتها وحضارتها. وكانوا يظنون أنهم يستطيعون بقوة الدولة أن يتركوا جميع
الأجناس العثمانية في البلاد الحضرية القابلة للعمران، ويجعلوا سائر البلاد
مستعمرات ليس لها من الحقوق ما لسائر العثمانيين. ولهذا كانوا يجدون في تقوية
الجنسية التركية ونشر اللغة التركية، ويعاقبون من يقتدي بهم في ذلك من غير
الترك أشد العقاب.
دار الفلك دورته، فثبت للاتحاديين ضرر هذه التجربة - محاولة تتريك
شعوب المملكة -، وكان من نتائجها المشؤومة الفتنة الألبانية، فالحرب البلقانية
العثمانية، فرجعوا عن فكرة تعميم تتريك الشعوب كلها إلى الاكتفاء بتتريك
الضعيف منها، إما بقلة العدد كاللاز والشركس، وإما بقلة العلم وعدم تدوين اللغة
كالأكراد، وإما بالخضرمة في اللغة كالعرب المتصلين بالترك بالقرب من
الأناضول، ثم بتقوية اللغة التركية في جميع البلاد العثمانية، وجعل الارتقاء في
الحكومة والعلوم والمدينة موقوفًا عليها. وترتب على هذا ترك الضغط السابق
على المستيقظين من الشعوب الكبيرة؛ إذ كانت الجرائد تحاكم وتقفل إذا ذكرت
اسم جنسها، والاعتصام بحبل لغتها، والتذكير بمجد سلفها، حتى إن المجلس
العسكري العرفي في بيروت حاكم مدير جريدة المفيد، وعدّه مجرمًا، وحكم بمنع
صدور الجريدة بذنب غريب جدًّا في هذا الباب، وهو كلمة (يا قوم) وردت في
قصيدة، نشرت في تلك الجريدة! ! قرر رئيس المجلس وأعضاؤه من الترك أن
كلمة (يا قوم) معناها عنصر العرب، فذكرها تفريق بين العناصر العثمانية، وهو
من أعظم الجنايات! ! (كما مر) ذلك بأن الترك يستعملون كلمة (قوم) بمعنى
الجنس والجيل من الناس الذي يعبرون عنه بالعنصر. ولم يلتفت
المجلس لاحتجاج المتهم بأن القصيدة المنشورة في جريدته عربية ولفظ القوم في
اللغة العربية معناه الجماعة من الناس، كما هو منصوص في المعاجم، قيل: يشمل
الرجال والنساء، وقيل: هو خاص بالرجال. وإن الشعراء يستعملونه الآن بمعنى
(يا ناس) . كانت جمعية الاتحاد والترقي قد صرَّحت تصريحًا نشرته جريدتها
(طنين) بالرجوع عن فكرة (تتريك العناصر) وكان ذلك مداراة لم يصدقه العمل،
ولكنها في العهد الأخير عقدت اتفاقًا مع (جمعية الشبيبة العربية) التي يمثلها
(المنتدى الأدبي) في الآستانة، وأشهروا هذا الاتفاق بالاحتفالات والمآدب،
وجعلوه وسيلة وذريعة للاتفاق بين جمعية الاتحاد والترقي والمؤتمر العربي الذي
انعقد في باريس. وصار زعماء الجمعية من وزراء الحكومة يزورون المنتدى
الأدبي ويحضرون بعض احتفالاته، وتمثيل القصة العربية التي يمثلها أعضاؤه كل
سنة. وقد احتفل أعضاء المنتدى في هذا العالم بذكرى المولد النبوي الشريف
فحضر احتفالهم فيه طلعت بك ناظر الداخلية وجمال باشا ناظر البحرية (الآن) ،
وخطب طلعت بك بالتركية باستمساك الترك بالعرب، وأنهم إذا فرّوا منهم
يتبعونهم ويلتزمونهم، فاهتزت لهذه الخطبة أسلاك البرق في العالم، ووعد الزعيم
الكبير في خطبته هذه بأن يخطب في احتفال مولد العام القابل بالعربية، هذا بعد أن
كان أعضاء المنتدى الأدبي لا يسمون أنفسهم جمعية خوفًا من إقفال الحكومة
الاتحادية لناديهم، ومحاكمتهم على ذلك في المجلس العسكري العرفي. فأين هذا
من تسقط هذا المجلس لبعض أعضاء المنتدى بتسميتهم جمعية ليعترف بعضهم بذلك
فيحكم المجلس فيهم حكمه؟ وقع هذا التسقط في تحقيق المجلس مع المتهمين في
حادثة الاعتداء على صاحب جريدة (إقدام) التركية الشهيرة، عقب نشر مقالة أهين
بها العرب، وكان المنتدى الأدبي لم يتجاوز السنة الأولى من عمره.
علم من هذا أن السياسة الجديدة التي ظهر بها الاتحاديون في العاصمة هي أن
العصبية الجنسية نافعة أو ضرورية لترقي كل جنس، وأنه يمكن الجمع بينها وبين
الوحدة العثمانية، ولا سيما الوحدة بين العرب والترك من العثمانيين، وأنه يجب
على كل جنس أن يرقي نفسه من غير أن يضر غيره أو يحول دون الوحدة
العثمانية.
وقد سر جمهور المتعلمين من العرب بهذه السياسة الجديدة، وهم لا يشترطون
لاعتقاد إخلاص الاتحاديين للعرب فيها إلا إطلاق الحرية لجرائدهم وجماعاتهم
وأفرادهم كما أطلقوها للترك، ومساواة الحكومة بينهما في التربية والتعليم
والمساعدة على الأعمال. ولكن الترك في هذا الطور الجديد قد ألفوا عدة جمعيات
تركية محضة، وقاموا بعدة مشروعات تركية خالصة، وألفوا عدة كتب ورسائل في
النهضة التركية والرابطة الجنسية البحتة، وصار شغل جرائدهم الشاغل وجوب
إنشاء أمة تركية محضة ودولة تركية محضة وكان كلام بعضهم في هذا أن الدولة
تركية لا عثمانية.
وإن العثمانية وهم من الأوهام. ولم يفعل العرب شيئًا يذكر من ذلك. نعم إن
بعضهم يتكلم أو يكتب في الجرائد كتابة تعد ضئيلة نحيلة إذا قيست بما يكتبه الترك.
ولم أر لأحد منهم مصنفًا خاصًّا في هذا الموضوع إلا رسالة لأحد أدباء بيروت من
آل الفاخوري. ونشر بعض الغلاة منشورات تهييج وثورة، وقالوا فيها: إن لهم
جمعية، وأنا لا أصدق ذلك.
* * *
الجنسية والإسلام وحزب اللامركزية:
بعد هذا كله قام من كتّاب العرب كاتب من طائفة لها دين لا يتفق مع دين
الإسلام في أصوله ولا فروعه [١] فكتب كتابًا جعل نفسه فيه أشد إسلامًا من جميع
علماء الإسلام. وأشد عصبية تركية من غلاة الترك أنفسهم، وأشد اتحادية من
زعماء جمعية الاتحاد والترقي ووزرائها؛ إذ قام يجاهد فيه الجنسية العربية وحدها،
ويجعلها هادمة للإسلام الذي يغار عليه - بزعمه - ما لا يغار عليه الذين أفنوا
أعمارهم في القيام به علمًا وعملاً ودعوة ودفاعًا، ويلصق تهمة هذه الجناية على
الإسلام بحزب اللامركزية وحده. على أن حزب اللامركزية عثماني محض ليس في
برنامجه ولا في بياناته كلمة واحدة تدعو إلى الجنسية العربية، أو تنفر من
الجنسية التركية؛ وإنما هو يدعو جميع العثمانيين إلى مطالبة الحكومة بالإدارة
اللامركزية، بالطرق المشروعة القانونية. نعم إن فكرته قد انتشرت في العرب؛ لأن
المؤسسين له من العرب، ولم يقدروا على نشر دعوتهم في غير الشعب العربي.
وذلك الكاتب المنحي عليهم يقول: إن دعوتهم لم يحفل بها أحد يذكر.
ولم يستجب لها إلا عدد لا يقدم ولا يؤخر. فلماذا عني إذًا بتأليف كتاب خاص
في التشنيع عليهم؟
ما رأيت مثالاً لإطالة هذا الكاتب القدح في حزب اللامركزية - بدعوى الجناية
على الإسلام بتقوية الجنسية العربية وجعلها هي واللامركزية التي تراد لأجلها أسرع
ما يمحو الإسلام ويوقع المملكة في أيدي الأجانب! ! إلا ما أطال به كاتب أمريكانى
في التشنيع على جمعية إبطال المسكرات في أمريكا. ذلك بأن هذه الجمعية سلكت
أخيرًا السبيل القانوني الموصل إلى غرضها الشريف؛ وهو السعي لانتخاب
أعضائها ومشايعيها لمجلس النواب. وقد فازوا في بعض الولايات فوزًا عظيمًا،
فانبرى لمحاربتهم تجار المسكرات، الذين يربحون الملايين من الريالات، وكان
أغرب حربهم القلمية، مقالات لأحد الكتاب عنوانها (الحرية الشخصية) ما ترك
هذا الكاتب شيئًا اهتدى إليه باطلاعه وذكائه في مدح الحرية الشخصية إلا وقاله،
وجعل إبطال المسكرات مزيلاً له، كأنه الذي يهدم الحكومات الدستورية،
ويوقع العالم في الفوضى والهمجية! ! فكثير من كلامه حق أريد به باطل، ومنه
ما هو باطل أريد به باطل، وهكذا فعل كاتبنا العربي، ونقول في كل منهما: إنه
يمكن تفنيد مقالاته، ودحض شبهاته، بمقالات أصح منها دليلاً، وأقوم قيلاً،
وأوسع تفصيلاً. ولكن الرد على ما يكتب اتباعًا للهوى، وارتيادًا للمناصب إضاعة
للوقت، وسبب للتمادي في الباطل واللغو.
قد يظن هذا الكاتب ويظن من تقرب إليهم بما كتب - ممن لا يحبون أن تقوم
للعرب قائمة، ولا تستيقظ لهم عين نائمة - أن مثل هذه الكتابة تقنع السواد الأعظم
من مسلمي العرب بأن يجيبوا دعوة لمن يدعونهم إلى إحياء لغتهم، وإلى قيامهم
بعمران بلادهم، والاستئثار بخيراتها دون الصهيونيين والأجانب الذين تقذفهم بهم
الحكومة المركزية من كل جانب، بما تعطيهم من امتياز، وما تمكن لهم من امتلاك
البلاد، وأن ينبذوا هؤلاء الدعاة إلى الإصلاح نبذ النوى، اعتقادًا بصدق ذلك
الكاتب في زعمه أن هذا يميت الإسلام ويزيل هداية السنة والقرآن! وإن هذا هو
الذي يرمي إليه زعماء اللامركزية، بدعوتهم إلى إحياء الجنسية العربية. وسيعلم
الظانون كذب ظنهم، وإن هذه الكتابة لا تخدع عامة العرب فضلاً عن خاصتهم؛
بل تكون سببًا لقوة نهضة العرب، وإساءة الظن بمصادر هذه الخدع.
كنا عزمنا على ترك الكتابة في هذه المسائل، ثم بدا لنا بعد هذه الخلابة
والخديعة أن نبين للأمة والتاريخ لباب الحقيقة، وأن ننشر نموذجًا من كلام دعاة
الجنسيتين التركية والعربية؛ لأجل المقارنة بينهما، وليعرف اعتدال حزب
اللامركزية بين غلاتهما، ومنه يظهر أن تخصيصه باللوم والتعنيف، ليس نصرًا
للدين الحنيف؛ إذ الدين لا يحيا إلا بحياة لغته، وارتقاء أمته، وإننا نبدأ بنموذج
من كتاب (قوم جديد) ؛ لأنه جاء الدعوة إلى الجنسية التركية من طريق الدين،
بما فيه أكبر عبرة للمعتبرين، من التحريف والتبديل، والتحريم والتكفير بمحض
الرأي والهوى. وجعل الدين كالمحصور في بذل المال والنفس لحكومة الآستانة
الاتحادية.
* * *
نموذج من كتاب
(قوم جديد)
(مترجم عن النسخة التركية المطبوعة في الآستانة)
جاء في الصفحة ١٤ من هذا الكتاب:
يجب تعطيل المساجد والتكايا الموجودة في الآستانة ما عدا الجوامع التي بناها
السلاطين، وتخصيص نفقاتها إلى الشؤون الحربية والعسكرية كما ورد في الآيات
الكريمة والأعمال النبوية.
وفي الصفحة ١٥:
ورد منذ مدة في إحدى الجرائد السياسية أنه من الضروري الاهتمام بتعميم
تعليم اللغة العربية لتفهم الأمة على الأقل الخطب التي تلقى أيام الجمع في المساجد
وهذا الكلام يدل على البلاهة، إذ بدلاً من تعلم جميع الأتراك اللغة العربية تلقى
الخطبة باللغة التركية، وهل هناك أمر أسهل من هذا؟ لا سيما أن ترجمة الحديث
والخطب والقرآن جائز في مذهب الإمام الأعظم [٢] . إن النبي لم يبعث إلى العرب
فقط لذلك أصبحت ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى فرضًا من الفروض [٣]
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) .
نعم إن القرآن الذي نزل على سيدنا محمد المأمور بدعوة العالم جميعًا إلى
الإسلام نزل باللغة العربية؛ ولكن لا يستدل من هذا أن كل قوم دعوا إلى الإسلام
يكونون مضطرين إلى تعليم اللغة العربية.
وفي الصفحة ٢٥:
وهنا أكرر ما قلته آنفًا من أن أكثر الناس يستثنى منهم الفقير المعدوم
والأعرج والأعور ومنهم المشايخ الذين يدّعون أنهم ورثة الأنبياء والمدرسون
والمفتون والقضاة مشايخ الطرق والدراويش والتجار والصناع، والحاصل جميع
الناس أصبحوا في حكم القرآن المجيد مرتدين ومن زمرة المنافقين؛ ومن ثَمَّ وجب
قتلهم؛ لأنهم تعمدوا ترك الجهاد بالمال والنفس الثابت بوجود آلاف من الآيات
البينات، وأورد هنا اثنين منها: الأولى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (التوبة: ٧٣) ، والثانية: {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ} (التوبة: ٨١) .
قال: ويتوقف تجديد إيمان هؤلاء أولاً على الاشتراك بدنًا بالحرب، وثانيًا
على إعطاء نصف ما يمتلكونه إلى دار الخلافة الإسلامية إذا كانوا من أصحاب
الغنى والأموال ليتسنى لرجال الإسلام الانتقام من الكفار الفجار، ونزع البلاد التي
انتزعوها من أيديهم، وإعادة ذكر كلمة الله في مساجدنا وجوامعنا، وإذا لم يفعلوا
هكذا (أي إذا لم يدفعوا نصف ما يمتلكونه للدولة) فلا يقبل منهم تجديد الإيمان
فيحشرون وهم مرتدون وكفرة، ويلحقون بأهل جهنم، وهذا لا بد منه ولو قرؤوا
في اليوم مئة ألف مرة: (آمنت بالله ... ) ولو صلوا الليل والنهار ولو كانو من الذين
صلوا وراء النبي، ولو حجُّوا إلى بيت الله الحرام مئة ألف مرَّة، ولو كان بدرجة
الإمام الأعظم من العلم أو بدرجة الغوث عبد القادر الكيلاني من القطبية.
وفي (ص ٢٧) :
إن بعض المشايخ والحفاظ والحجاج في الآستانة وكثيرين ممن يتبعونهم وكلهم
من الذين يجرؤن على ارتكاب أنواع المنكرات اشتغلوا بالكتب كالحمير التي تحمل
التوراة فتركوا الجهاد، البعض منهم فسروا الآيات والأحاديث حسب ما تقتضيه
منافعهم، وللحصول على غرض دنيوي، فلعنة الله على أمثال هؤلاء الحفاظ الذين
يقرؤن القرآن بالدراهم وعلى المنافقين الذين تسلطوا بالاشتراك مع أعداء الدين
على فرقة الاتحاد والترقي التي هي في الحقيقة الفرقة المحاربة والساعية لاتحاد
الإسلام، والمجاهدة في سبيل تشييد قوى الإسلام، وبالنتيجة لعنة الله على الذين
كانوا سببًا لدروس الملايين من المسلمين تحت أقدام أعداء الإسلام، وعلى أولئك
الذين سلكوا طرق الدسائس والتغفيل والتزوير لمنع الذين كانوا يريدون أن يجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لعنة الله عليهم وعلى آلهم وأقوالهم وعلى تأليفاتهم
ومصنفاتهم واعتقاداتهم أجمعين.
وفي (ص ٣١) :
يفسر آية {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} (التوبة: ٨١) بما
يأتي: إن الذين ثبتوا في الصوم والصلاة والحج أعرضوا اليوم عن الجهاد المفروض
مالاً وبدنًا وأصبحوا خلاف رسول الله، فهؤلاء من المنافقين.
إن البروغرام القديم البالي الفاسد يعرف به بقاء الدين بالصوم والصلاة والحج،
والحقيقة ليست كذلك؛ بل هو حسب البروغرام الجديد بالجهاد مالاً وبدنًا وهذا
ثابت أيضًا بهذه الآية: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى} (البقرة:
١٢٠) فيفهم من هذه الآية صراحة أن المسلمين الموجودين تحت حماية ملوك
النصارى ليسوا مسلمين بحق؛ لأن ملوكهم النصارى راضون عنهم ويضعونهم في
صف أمتهم، على أن الملل النصرانية لا ترضى عنهم إلا بعد أن يرتدّوا إلى دينهم
الباطل.
وفي (ص ٣٢) :
إذا رضي الكافر يغضب الرحمن، وكذلك إذا غضب الرحمن رضي الكافر،
يعني إذا رضي كافر تمام الرضا عن مسلم فهذا المسلم يكون على كل حال موضوع
قهر الرحمن وغضبه مثل المسلمين الساكنين في البلاد المسيحية. وبالعكس كل
كافر يغاضب ويعادي مسلمًا يكون موضوع رضاء الرحمن وحبه مثل خلفاء
المسلمين من الأتراك.
وفي (ص٣٣) :
يفسر هذه الآية {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة
: ١٩٣) بما يأتي:
فيفهم من هذه الآية الجليلة أن دين المسلمين الموجودين تحت التابعية أو
الحماية الروسية والإنكليزية والفرنسوية لا يتم ولا يعدون من المسلمين ما داموا لا
يشتركون في الجهاد المفروض ما داموا محرومين من إعانة الآستانة مالاً وبدنًا.
وفي (ص ٣٦) :
إن من لا يشترك من رعايا الدولة الإسلامية العثمانية الثابتة خلافتها بالنص
القاطع [٤] من العرب أو التتار أو الألبان أو أبناء مكة واليمن، والحاصل جميع
الأقوام المختلفة إذا لم يشتركوا مالاً وبدنًا ونقدًا بالجهاد الذي هو أعظم العبادات في
صفوف حضرات عبد الرحيم وجمال ورضا وشكري وبكر وجاويد ورؤوف وأنور
وعزت وطلعت وأمثالهم من أبناء الترك الذين هم أولياء الله صلى الله تعالى عليهم
وعلى آلهم وأصحابهم وقدّس الله أسرارهم، يكونون في صف المرتدين عن الدين
والمعتنقين طوعاً لدين الصليب الباطل. ومن هذا القبيل الأرناؤد، فإنهم ارتدوا
عن الإسلام - إما لاستعمالهم السلاح ضد الجنود الإسلامية مشتركين مع الكفار
الفجار في ذلك، أو إضعاف قوة الجيش الإسلامي بفرارهم من ساحات القتال،
فسببوا بذلك انهزام الإسلام وأصبحوا من الكفرة الفجرة، ومن هذا القبيل أيضًا
المصريون والهنود والبخاريون والتتار الروسيون وسكان فاس وتونس والجزائر
وأهل الحجاز واليمن فإنهم لم يمدوا الخلافة الإسلامية بالنقد، ولم يكتف قسم من
العثمانيين الأتراك بذلك؛ بل إنهم اتفقوا مع قوزيمدي وبوشو والبطركخانة الرومية
وأعانوا دين الصليب، وأعلنوا العصيان سمعًا وطوعًا على الإسلام، وأقاموا الدنيا
على أهل الإيمان.
وفي (ص٣٩) :
إن القوم العتيق (أي القدماء الذين لا يتبعون كتابه هذا) يتركون الأوامر
الإلهية الأصلية التي تعد بالألوف ويتمسكون بالصوم والصلاة والحج والزكاة وكلمة
الشهادة فقط، ويتخذون كتب البركوي والحلبي والشافعي والكنز ومنية المصلي
والمالكي والحنبلي دستور العمل في أعمالهم وحركاتهم، مع أن هذه الكتب مملوءة
بالنفاق والشقاق والمنافرة (كذا) والاختلافات الكثيرة، فالعمل بما فيها غير جائز.
وفي (ص ٥٢) :
أما القوم الجديد (ويريد بهم: من مدحهم في كتابه من الترك الاتحاديين ومن
يسير على طريقتهم وطريقه) فإنهم لا يبالون بمثل هذه الخرافات القديمة؛ بل إنهم
استخرجوا من الأحكام القرآنية والحديثية الأركان الدينية الآتية: [٥]
١- العقل.
٢- كلمة الشهادة.
٣- الأخلاق الحسنة.
٤- الجهاد مالاً وبدنًا والحرب.
٥- السعي لإعداد لوازم الحرب بالاتحاد والاتفاق تحت راية الخلافة المعظمة
العثمانية.
وفي (ص ٥٦-٥٧) :
يجب أن تقرأ الخطب أيام الجمع والأعياد باللغة التركية ثم تقرر خطبة كل
جمعة بتلقين من الحكومة تتضمن الأحوال السياسية. ويجب أيضًا أن تفضل الأمور
السياسية في بعض الأحوال على الأمور الشرعية حتى ولو لم تكن منطبقة على
الأحكام الشرعية! !
فتعطل مؤقتًا الأمور الشرعية. ويوجد جواز شرعي للعمل هكذا بدليل وضع
النبي توقيعه على عهدة الصلح في وقعة الحديبية مجردًا من ألقاب ونعوت النبوة
حسب طلب كفار قريش، وكما تقتضيه الأحوال ويوجبه الزمان. وكذلك الآيات
الناسخة والمنسوخة هي من متقضيات السياسة.
وفي (ص٦٠) :
وعليه فإن الهنود الذين هم تحت حماية النصارى من الإنكليز لو كانوا من
أصحاب الأخلاق الحسنة فإنهم لا ريب محرومون من العقل، ولو كانوا عقلاء لما
رضوا بالذلة تحت حكم دولة ظالمة شريرة تسلك دين الصليب.
(وفي ص ٦٣) :
وبهذه الصورة سيخرج المسلمون المحكومون بالنصارى من دينهم بالتدريج
ويندمجون بدين حكامهم وسبب ذلك عدم ارتباط هؤلاء المسلمين مالاً وبدنًا بالخلافة
الإسلامية.
(وفي ص ٧٠-٧١) :
كثير من المسلمين - حتى من علمائهم ومشايخهم - أثبتوا في الحرب البلقانية
الحاضرة أنهم ارتدوا عن دينهم؛ لأنهم ائتلفوا (عبر بلفظ الائتلاف في الأصل)
مع البطركخانة لأجل الدراهم والمنافع، ومن هذا القبيل أيضًا الضباط والجنود
والمعممون الذين فرّوا من ساحات القتال، فهؤلاء ليسوا مسلمين؛ بل هم منافقون
ومرتدون عن دينهم. أما المسلمون الحقيقيون فهم الذين حاربوا في حرب طرابلس
الغرب وحرب البلقان تحت إمرة أنور ورضا وأسعد وجاويد ورؤوف صلى الله
تعالى عليهم، وبقية رجال جمعية الاتحاد والترقي المقدسة، الذين لم يولوا ظهورهم
إلى العدو؛ بل داوموا في جهادهم في سبيل الله، فهؤلاء هم المسلمون الحقيقيون.
وقد كان عدد الذين ينتمون إلى جمعية الاتحاد والترقي في هذه الحرب لا يتجاوز
مئة ألف. أما الباقون فإنهم كانوا من المرتدين المنتمين إلى الائتلاف (أي حزب
الائتلاف) والبطركخانات.
وفي ص ٧٦:
يفسر آية {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف: ١١٠) : الحرب بيننا وبينهم
سجال ينالون منا وننال منهم - أفئن مات.... إلخ. فيقول: أنا بشر مثلكم فلا
تستبعدوا موتي، إن الانتصار في الحرب يتوقف على التجهيزات العسكرية....
وفي ص ٨٩:
ما هذا الجهل؟ وما هذه الغفلة التي استولت عليكم أيها الناس؟ تعلقون أسماء
خلفاء العرب على جدران جوامعكم [٦] وتتركون أسماء خلفاء الترك الذين قدستهم
الأحاديث النبوية، ولا تكتفون بذلك؛ بل ينزل الخطيب قدمه واحدة عندما يذكر
أسماء الخلفاء الترك تنزيلاً لمقامهم وتذليلاً، ثم تزيدون ركعتين يوم الجمعة باسم
(آخر ظهر) فكل هذا مبتدع ومحدث للحط بشأنكم سياسة.
إنكم أيها الأتراك قوم مقدسون ومبجلون، ومع ذلك تقدسون عبد القادر الكيلاني
والشيخ البدوي والشيخ الفلاني وتدّعون أن الله وملائكته - حتى الموكلين منهم بعذاب
القبر منكر ونكير - يتكلمون باللغة العربية، وتقولون دائمًا: (أوله شام وآخره شام)
وتسعون دائمًا لتغفيل أبناء الترك بأنه سيخرج من العرب مهدي. والحاصل تشتغلون
منذ سبعمائة سنة بمثل هذا الخرافات، فتغشون العالم وتحتقرون بذلك أبناء العثمانية
النجباء الذين ما فتئوا يجاهدون في سبيل الله للدفاع عن الإسلام ويدفعون عنه
تعرض الكفار الفجار له، فكل ما ذكرته موضوع بصورة خصوصية ومقصودة
بالذات لتحقيركم والحط من منزلتكم.
أما سمعتم الآية: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} (العاديات: ١) فإن الله قدّس
بهذه الآية الجيوش التركية، فخيل هذه الجيوش هي أشرف وأقدس أضعاف مضاعفة
من شرافة وقداسة رؤساء وأشراف الشعوب الأخرى الذين تقدمونهم وتحترمونهم [٧] .
* * *
(المنار)
هذا نموذج من كتاب (قوم جديد) الذي صنف لإقناع الترك بما يجب أن
يكونوا عليه في هذا العصر. ولا شك في كون جميع علماء الدين من الترك كغيرهم
ينكرون هذه الضلالات المودعة في هذا الكتاب، ويعلمون أن هذه الجرأة على
تحريف القرآن واتخاذ الإسلام هزؤًا ولعبًا، وهدم أركانه، وتكفير أهله والكذب
على الله ورسوله المراد به تقوية الجنسية التركية - كله كفر وضلال؛ ولكن الملاحدة
الذين ليس لهم من الإسلام إلا اللقب الرسمي أو الجغرافي يرضون بهذا ويغشون به
جهلة العامة من الترك، فما للمنكر على حزب اللامركزية تقوية الجنسية العربية باسم
الإسلام، لا يؤلف كتابًا في الرد على هؤلاء الغلاة المحرفين للقرآن. الهادمين
للإسلام؟ ؟
((يتبع بمقال تالٍ))