للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي


فصل [*]

إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر:
وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغير وإلى ما هو كبير - حسبما
تبين في علم الأصول الدينية - فكذلك يقال في البدع المحرمة إنها تنقسم إلى
الصغيرة والكبيرة اعتبارًا بتفاوت درجاتها - كما تقدم - وهذا على القول بأن
المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة. ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه،
وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال. فلنترك التفريع عليه.
وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر
منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة، وهي الدين والنفس
والنسل والعقل المال. وكل ما نص عليه راجع إليها، وما لم ينص عليه جرى في
الاعتبار والنظر مجراها، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه
مما هو في معناه.
فكذلك نقول في كبائر البدع: ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو
كبيرة، وما لا فهي صغيرة. وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب. فكما انحصرت
كبائر المعاصي أحسن انحصار - حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب - كذلك تنحصر
كبائر البدع أيضًا، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع
يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها. وذلك أن جميع البدع راجعة إلى
الإخلال بالدين إما أصلاً وإما فرعًا؛ لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو
نقصانًا منه أو تغييرًا لقوافيه، أو ما يرجع إلى ذلك؛ وليس ذلك بمختص بالعبادات
دون العادات، إن قلنا بدخولها في العادات؛ بل تعم الجميع.
وإذا كانت بكليتها إخلالاً بالدين فهي إذًا إخلال بأول الضروريات وهو الدين، وقد
أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة، وقال في الفِرَق: (كلها في النار إلا
واحدة) وهذا وعيد أيضًا للجميع على التفصيل.
هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن
تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب، فليس
الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا
الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها مع الإخلال؛ فكل منها كبيرة.
وفقد النظر إلى أن كل بدعة كبيرة.
ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره، ففي النظر ما يدل من جهة
أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه:
(أحدها) أنَّا نقول: الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال؛ ولكنها على
مراتب؛ أدناها لا يسمى كبيرة، فالقتل كبيرة وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة
دونها، وقطع عضو واحد كبيرة دونها، وهلم جرّا إلى أن تنتهي إلى اللطمة؛ ثم
إلى أقل خدش يتصور، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة، كما قال العلماء في
السرقة: إنها كبيرة؛ لأنها إخلال بضرورة المال. فإن كانت السرقة في لقمة أو
تطفيف بحبة فقد عدُّوه من الصغائر. وهذا في ضرورة الدين أيضًا.
(فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: أول ما
تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإيمان عروة
عروة، وليصلين نساء وهن حيض - ثم قال - حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة
تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضل مَن كان قبلنا، إنما قال الله
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود: ١١٤) لا تصلُّنَّ إلا ثلاثًا.
وتقول أخرى: إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة، ما فينا كافر. حق على الله أن
يحشرهما مع الدجال) وهذا الأثر - وإن لم تلتزم عهدة صحته - مثال من أمثلة
المسألة.
فقد نبّه على أن في آخر الزمان مَن يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا
خمس، وبيّن أن من النساء من يصلين وهن حيض، كأنه يعني بسبب التعمق
وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة. فهذه مرتبة دون الأولى.
وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات.
ثم وقع في العتبية: قال ابن القاسم: وسمعت مالكًا يقول: أول من أحدث
الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن
أذكره، وقد كان مُساءً (أي يساء الثناء عليه) ، قال: قد عيب ذلك عليه، وهذا
مكروه من الفعل. قالوا: (ومساء) أي يساء الثناء عليه. قال ابن رشد: جائز عند
مالك أن يروّح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة. وإنما كره أن يقرنهما
حتى لا يعتمد على أحدها دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة؛ إذ لم
يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة
المرضيين، وهو من محدثات الأمور. انتهى.
فمثل هذا - إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر - فيقال
في مثله: إنه من كبائر البدع. كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها؛
بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به
التنزيه، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين، فمثله يتصور في سائر
البدع المختلفة المراتب، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة.
(والثاني) : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية،
ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليًّا في الشريعة، كبدعة التحسين
والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السُّنِّية اقتصارًا على القرآن، وبدعة
الخوارج في قولهم: لا حكم إلا الله. وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعًا
من فروع الشريعة دون فرع؛ بل تجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية،
أو يكون الخلل الواقع جزئيًّا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض، كبدعة
التثويب بالصلاة - الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال. - وبدعة الأذان والإقامة
في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين، وما أشبه ذلك. فهذا
القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها.
فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن ان يكون منحصرًا داخلاً
تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة
مخصوصًا به لا عامًّا فيه وفي غيره، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه
العفو، الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد، فلا قطع على أن جميعها من قبيل واحد،
وقد ظهر وجه انقسامها.
(والثالث) : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر، ولا شك
أن البدع من جملة المعاصي - على مقتضى الأدلة المتقدمة - ونوع من أنواعها،
فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضًا، ولا يخصص وجوهًا (؟) بتعميم
الدخول في الكبائر؛ لأن ذلك تخصيص من غير مخصص، ولو كان ذلك معتبرًا
لاستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع، فكانوا ينصون على أن
المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء
وأطلقوا القول بالانقسام، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها.
فإن قيل: إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقًا؛ وإنما يدل
ذلك على أنها تتفاضل، فمنها ثقيل وأثقل، ومنها خفيف وأخف؛ والخفة هل تنتهي
إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم؟ هذا فيه نظر، وقد ظهر معنى الكبيرة
والصغيرة في المعاصي غير البدع:
وأما في البدع فثبت لها أمران: أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له،
حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة، لا نصب المكتفي بما حدّ
له.
والثاني: أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل
الصحيح؛ وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقًا بما هو مشروع،
فيكون قادحًا في المشروع. ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدًا لكفر؛ إذ
الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر.
فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع، إذا لم
نكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر؛ لأن الجميع جناية لا تحملها
الشريعة بقليل ولا بكثير.
ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء، فالفرق بين
بدعة جزئية وبدعة كلية، وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني.
وأما الثالث فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة) وما تقدم من كلام
السلف يدل على عموم الذم فيها. وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام؛ بل
إنما ينقسم ما سواها من المعاصي. واعتبر بما تقدم ذكره في الباب
الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها. وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير؛ أن يقال:
كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن
عظمت لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار
وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقابًا من بعض، فالأشد عقابًا أكبر مما دونه،
وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة، فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى
الفاضل والأفضل، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل، انقسمت البدع لانقسام
مفاسدها إلى الرذل والأرذل، والصغر والكبر، من باب النسب والإضافات؛ فقد
يكون لا شيء كبيرًا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه.
وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقسام المعاصي إلى الكبائر
والصغائر فقال: المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله،
ولذلك يقال: معصية الله أكبر من معصية العباد قولاً مطلقًا، إلا أنها وإن عظمت
لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها. ثم ذكر معنى ما تقدم؛ ولم
يوافقه غيره على ما قال، وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب
الموافقات. ولكن الظاهر يأبى ذلك - حسبما ذكره غيره من العلماء - والظواهر في
البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها - حسبما تقدم - فصار اعتقاد الصغائر فيها
يكاد يكون من المتشابهات، كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من
الواضحات.
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه، ولا ينظر إلى خفة
الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت؛ بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة
ورميها لها بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها، بخلاف
سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها؛ بل
صاحب المعصية متنصل منها مقر لله بمخالفته لحكمها.
وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة؛
والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة، ولذلك قال مالك بن أنس: من
أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) إلى
آخر الحكاية. وقد تقدمت.
ومثلها جوابه لمن أراد أن يُحْرِم من المدينة وقال: أي فتنة فيها؟ إنما هي
أميال أزيدها. فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلاً قصر عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ ! إلى آخر الحكاية، وقد تقدمت أيضًا. فإذًا يصح أن
يكون في البدع ما هو صغيرة.
فالجواب أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه
المسألة.
وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالمًا بكونها بدعة وأن يكون غير
عالم بذلك. وغير العالم بكونها بدعة على ضربين: وهما المجتهد في استنباطها
وتشريعها والمقلد له فيها. وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا
حكمنا له بحكم أهل الإسلام؛ لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو
النقصان منه أو التحريف له؛ فلا بد له من تأويل كقوله: (هي بدعة ولكنها
مستحسنة) ، أو يقول: (إنها بدعة ولكني رأيت فلانًا الفاضل يعمل بها) ، أو يقر
بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل، كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفًا على حظه،
أو فرارًا من خوف على حظه، أو فرارًا من الاعتراض عليه في اتباع السنة، كما
هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه، وما أشبه ذلك.
وأما غير العالم وهو الواضع لها، فإنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة؛ بل هي
عنده ما يلحق بالمشروعات، كقول من جعل يوم الإثنين يصام؛ لأنه يوم مولد
النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقًا بأيام الأعياد؛
لأنه عليه السلام ولد فيه، وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على
أنه يجلب الأحوال السنية، أو رغب في الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات
دائمًا بناءً على ما جاء في ذلك حالة الوحدة، أو زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة
لينصر في زعمه سنة محمد صلى الله عليه وسلم. فلما قيل له: إنك تكذب عليه.
وقد قال: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، قال: لم أكذب عليه
وإنما كذبت له. أو نقص منها تأويلاً عليها لقوله تعالى في ذم الكفار: {إِن يَتَّبِعُونَ
إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: ٢٨) ، فأسقط اعتبار
الأحاديث المنقولة بالآحاد لذلك ولما أشبه؛ لأن خبر الواحد ظني؛ فهذا كله من
قبيل التأويل.
وأما المقلد: فكذلك أيضًا؛ لأنه يقول: فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل
ويتني (؟) كاتخاذ الغناء جزءًا من أجزاء طريقة التصوف بناء منهم على أن
شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه، ومنهم من مات بسببه، وكتمزيق الثياب
عند التواجد بالرقص وسواه؛ لأنهم قد فعلوه، وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء
المنتمين إلى التصوف.
وربما احتجوا على بدعهم بالجنيد والبسطامي والشبلي وغيرهم فيما صح
عندهم أو لم يصح، ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها
إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها. ولكنهم مع ذلك لا
يقرون بالخلاف للسنة بحتًا؛ بل يدخلون تحت أذيال التأويل؛ إذ لا يرضى منتم
إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلاً.
وإذا كان كذلك فقول مالك: (من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها
فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خان الرسالة) . وقوله لمن أراد أن يحرم من
المدينة: (أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟) إلى آخر الحكاية - أنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر،
كأنه يقول: يلزمك في هذا القول كذا، لا أنه يقول قصدت إليه قصدًا؛ لأنه لا
يقصد إلى ذلك مسلم، ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف
فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون
أنه رأي المحققين أيضًا: أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر على
الخصم أنكره غاية الإنكار [١] فإذًا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض، وعند
ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر، فكذلك البدع.
ثُمَّ إن البدع على ضربين: كلية وجزئية، فأما الكلية فهي السارية فيما لا
ينحصر من فروع الشريعة، ومثالها بدع الفِرَق الثلاث والسبعين فإنها مختصة
بالكليات منها دون الجزئيات، حسبما يتعين [٢] بعد إن شاء الله.
وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية؛ ولا يتحقق دخول هذا الضرب
من البدع تحت الوعيد بالنار، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال، كما لا يتحقق
ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة، وإن كان داخلاً تحت وصف السرقة؛ بل
المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة؛ فلا تكون تلك الأدلة
واضحة الشمول لها، ألا ترى أن خواص البدع غير ظاهرة في أهل البدع الجزئية
غالبًا كالفرقة والخروج عن الجماعة؟ وإنما تقع الجزئيات في الغالب كالزلة
والفلتة، ولذلك لا يكون اتباع الهوى فيها مع حصول التأويل في فرد من أفراد
الفروع، ولا المفسدة الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية؛ فعلى هذا: إذا
اجتمع في البدعة وصفان - كونها جزئية وكونها بالتأويل - صح أن تكون صغيرة،
والله أعلم.
ومثاله مسألة من نذر أن يصوم قائمًا لا يجلس، وضاحيًا لا يستظل، ومن
حرم على نفسه شيئًا ممّا أحل الله من النوم أو لذيذ الطعام، أو النساء أو الأكل
بالنهار، وما أشبه ذلك ما تقدم ذكره أو يأتي، غير أن الكلية والجزئية قد تكون
ظاهرة وقد تكون خفية، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد، فيقع الإشكال في
كثير من أمثلة هذا الفصل، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر وبالعكس، فيوكل النظر
فيه إلى الاجتهاد، اهـ.
***
فصل
وإذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة. فذلك بشروط، (أحدها) : أن لا
يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه؛ لأن
ذلك ناشئ عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يُصَيِّرُهَا كبيرة، ولذلك
قالوا: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار. فكذلك البدعة من غير فرق؛
إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها. وقد لا يصر عليها،
وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطة الشاهد بها أوعدمه، بخلاف البدعة فإن
شأنها في الواقع المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها، وأن تقوم على
تاركها القيامة، وتنطلق عليه ألسنة الملامة، ويرمى بالتسفيه والتجهيل، وينبز
بالتبديع والتضليل، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة، والمقتدى بهم من الأئمة،
والدليل على ذلك الاعتبار والنقل، فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على
أهل السنة إن كان لهم عصبة، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ
أوامره في الأقطار. ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى.
وأما النقل فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيًّا،
وليست كذلك المعاصي، فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله؛ بل قد جاء ما يشد ذلك
في حديث الفرق، حيث جاء في بعض الروايات: (تتجارى بهم تلك الأهواء كما
يتجارى الكَلَب بصاحبه) ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها -
حسبما تقدم.
(والشرط الثاني) أن لا يدعو إليها، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة،
ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه،
فإنه الذي أثارها، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها، فإن الحديث الصحيح قد أثبت
أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من
أوزارهم شيئًا؛ والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته، فربما
تساوي الصغيرة من هذا الوجه الكبيرة أو تربي عليها.
فمن حق المبتدع إذا ابتلي بالبدعة أن يقتصر على نفسه، ولا يحمل مع وزره
وزر غيره، وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج، فإن المعصية فيما بين العبد وربه
يرجو فيها من التوبة والغفران وما يتعذر عليه مع الدعاء إليها، وقد مر في باب ذم
البدع. وباقي الكلام في المسألة سيأتي إن شاء الله.
(والشرط الثالث) : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو
المواضع التي تقام فيها السنن، وتظهر فيها أعلام الشريعة. فأما إظهارها في
المجتمعات ممن يقتدى به أو ممن به [٣] الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة
الإسلام، فإنها لا تعدو أمرين: إما أن يقتدى بصاحبها فيها، فإن العوام أتباع كل
ناعق، لاسيّما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس، والتي للنفوس في
تحسينها هوى، وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه؛ لأن كل
من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، فعلى حسب كثرة الأتباع
يعظم عليه الوزر.
وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي، فإن العالم مثلاً إذا أظهر المعصية -
وإن صغرت - سهل على الناس ارتكابها، فإن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما
قال من أنه ذنب لم يرتكبه، وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا. فكذلك البدعة إذا
أظهرها العالم المقتدى فيها لا محالة، فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل؛ لأن
العالم يفعلها على ذلك الوجه؛ بل البدعة أشد في هذا المعنى، إذ الذنب قد لا يتبع
عليه، بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن أتباعه إلا من كان عالمًا بأنها بدعة
مذمومة، فحينئذٍ يصير في درجة الذنب، فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك،
فإن كان داعيًا إليها فهو أشد، وإن كان الإظهار باعثًا على اتباع، فبالدعاء يصير
أدعى إليه.
وقد روي عن الحسن أن رجلاً من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها
فاتُّبع، وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها
سلسلة ثم أوثقها في شجرة فجعل يبكي ويعج إلى ربه، فأوحى الله إلى نبي تلك
الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب. فكيف بمن ضل فصار من أهل النار؟
وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح؛
لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية [٤] توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر،
فكأن المظهر لها يقول: هذه سنة فاتبعوها.
قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف،
فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا - وكان قد صلّى خلف الإمام -
فلما سلم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان. فقال: خذا صاحب هذا
الثوب فاحبساه. فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي، فوجه إليه وقال له: ما خفت
الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف، وشغلت المصلين بالنظر إليه،
وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من
أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي
وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في
غيره. وفي رواية عن ابن مهدي قال: فقلت للحرسيين: تذهبان بي إلى أبي
عبد الله؟ قالا: إن شئت؛ فذهبنا إليه. فقال: يا عبد الرحمن تصلي مستلبًا؟ فقلت
يا أبا عبد الله إنه كان يومًا حارًّا - كما رأيت - فثقل ردائي عليَّ. فقال: الله ما
أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه، قلت: الله [٥] . قال:
خلياه.
وحكى ابن وضاح قال: ثوَّب المؤذن بالمدينة في زمان مالك، فأرسل إليه مالك
فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع
الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئًا لم يكن فيه، قد
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر
وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه؛ فكف المؤذن عن ذلك
وأقام زمانًا، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له:
ما الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له: ألم أنهك أن
لا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال: إنما نهيتني عن التثويب. فقال له لا تفعل،
فكفَّ زمانًا. ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا الذي تفعل؟
فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث
في بلدنا ما لم يكن فيه.
قال ابن وضَّاح: وكان مالك يكره التثويب - قال - وإنما أحدث هذا بالعراق.
قيل لابن وضّاح: فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من
الأمصار؟ فقال: ما سمعت إلا عند بعض الكوفيين والأباضيين.
فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادي الرأي
وجعله أمرًا محدثًا، وقد قال في التثويب: إنه ضلال. وهو بين؛ لأن كل محدثة
بدعة وكل بدعة ضلالة، ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب؛
لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي
خوف أن يكون حدثًا أحدثه.
وقد أحدث بالمغرب المتسمي بالمهدي تثويبًا عند طلوع الفجر؛ وهو قولهم:
(أصبح ولله الحمد) إشعارًا بأن الفجر قد طلع، لإلزام الطاعة، ولحضور الجماعة،
وللغدو لكل ما يؤمرون به فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبًا بالصلاة كالأذان. ونقل
أيضًا إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية، وهو المعتاد في جوامع
الأندلس وغيرها، فصار ذلك كله سنة في المساجد إلى الآن، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
وقد فسّر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس
قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح.
وهذا نظير قولهم عندنا: الصلاة - رحمكم الله.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه دخل مسجدًا أراد أن يصلي فيه،
فثوب المؤذن، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد، وقال: اخرج بنا [٦] من عند
هذا المبتدع. ولم يصل فيه. قال ابن رشد: وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع
قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله: حي على
الصلاة. ثم ترك - قال - وقيل: إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه: حي على
خير العمل. لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة. ووقع في
المجموعة أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه كفعل ابن عمر رضي
الله عنهما.
وفي المسألة كلام المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك: إنه
ضلال. والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة أو
في المواطن التي تقام فيها السنن، والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة؛ لأنها
إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها، فكان وزر ذلك عائدًا على الفاعل أولاً،
فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته.
(والشرط الرابع) : أن لا يستصغرها ولا يستحقرها - وإن فرضناها
صغيرة - فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب: فكان ذلك سببًا
لعظم ما هو صغير. وذلك أن الذنب له نظران:
(نظر) من جهة رتبته في الشرط، ونظر من جهة مخالفة الرب العظيم به.
فأما النظر الأول فمن ذلك الوجه يعد صغيرًا إذا فهمنا من الشرع أنه صغير؛ لأنّا
نضعه حيث وضعه الشرع؛ وأما الآخر فهو راجع إلى اعتقادنا في العمل به بحيث
نستحرم جهة الرب سبحانه بالمخالفة، والذي كان يجب في حقنا أن نستعظم ذلك
جدًّا؛ إذ لا فرق في التحقيق بين المواجهتين - المواجهة بالكبيرة والمواجهة
بالصغيرة.
والمعصية من حيث هي معصية لا يفارقها النظران في الواقع أصلاً؛ لأن
تصورها موقوف عليهما، فالاستعظام لوقوعها مع كونها يعتقد فيها أنها صغيرة لا
يتنافيان؛ لأنهما اعتباران من جهتين: فالعاصي وإن تعمد المعصية لم يقصد بتعمده
الاستهانة بالجانب العلي الرباني؛ وإنما قصد اتباع شهوته مثلاً فيما جعله الشارع
صغيرًا أو كبيرًا، فيقع الإثم على حسبه، كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها
منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع، وإنما قصد الجري على مقتضاه، لكن بتأويل
زاده ورجحه على غيره، بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع، فإنه إنما
تهاون بمخالفة الملك الحق؛ لأن النهي حاصل ومخالفته حاصلة، والتهاون بها
عظيم، ولذلك يقال: لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظمة من واجهته بها.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (أي
يوم هذا؟ قالوا: يوم الحج الأكبر. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم
حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني
جان على ولده ولا مولود على والده، ألا وإن الشيطان قد يئس ألا يعبد في بلدكم
هذا أبدًا، ولا تكون له طاعة فيما يحتقرون من أعمالكم فسيرضى به) [٧] فقوله
عليه السلام (فسيرضى به) دليل على عظم الخطب فيما يستحقر.
وهذا الشرط مما اعتبره الغزالي في هذا المقام، فإنه ذكر في الإحياء أن مما
تعظم به الصغيرة أن يستصغرها - قال - فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه
صغر عند الله، وكلما استصغره كبر عند الله. ثم بين ذلك وبسطه.
فإذا تحصلت هذه الشروط، فإذ ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة، فإن
تخلف بشرط منها أو أكثر صارت كبيرة، أو خيف أن تصير كبيرة، كما أن
المعاصي كذلك، والله أعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))