للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: الذهبي


أقوال علماء القرن الثالث الأثبات
في عقيدة السلف وإثبات الصفات
(١)
لما ظهرت بدعة الجهمية في إنكار صفات الله عز وجل، وتأويل ما ورد منها
في الكتاب والسنة - هَبَّ حفظة الدين وحملته من التابعين ومن بعدهم للرد عليهم،
وتفنيد تأويلاتهم، والاستمساك بعروة النقل، حذرًا من تحريفها بنظريات العقل،
التي ينخدع بها بعض القاصرين، توهمًا أنها من قطعيات البراهين، وإننا ننقل من
كتاب العلو للذهبي (الذي يطبع في مطبعة المنار) بعض أقوال الأئمة المتبوعين،
الذين جهل أقوالهم من يجلهم من المعاصرين، ولكن الذهبي ينقل في هذا الكتاب ما
صح وما لم يصح، ويشير إلى ضعف الرواية الضعيفة أو نكارتها غالبًا على أن
من غلاة الأثريين من يقبل كل ما روي في ذلك، قال:
... ... طبقة الشافعي وأحمد رضي الله عنهما
روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري والحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهم
إلى أبي ثور وأبي شعيب، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ناصر
الحديث - رحمه الله - قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين
رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما: إقرار بشهادة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى
السماء الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد.
وبإسناد لا أعرفه عن الحسين بن هشام البلدي قال: هذه وصية الشافعي،
أنه يشهد أن لا إله إلا الله. فذكر الوصية بطولها، وفيها: القرآن غير مخلوق،
وأن الله يُرى في الآخرة عيانًا ويسمعون كلامه، وأنه تعالى فوق العرش.
إسنادهما واهٍ.
قال الحاكم: سمعت الأصم يقول، سمعت الربيع، سمعت الشافعي وقد روى
حديثًا فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: إذا رويت حديثًا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
***
ابن خزيمة وعدة
سمعت يونس يقول قال الشافعي: لا يقال للأصل لم ولا كيف.
أبو ثور وغيره قالا: سمعنا الشافعي يقول: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث
الضغائن. وعن يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء
وصفات لا يسع أحدًا قامت عليه الحجة ردها. قال ابن أبي حاتم: سمعت الربيع بن
سليمان، يقول: سمعت الشافعي يقول: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه
الكفارة؛ لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة وبالصفا والمروة فليس عليه
كفارة لأنها مخلوقة.
(قلت) : تواتر عن الشافعي ذم الكلام وأهله، وكان شديد الاتباع للآثار في
الأصول والفروع. مات في رجب سنة أربع ومائتين بمصر كهلاً، عاش أربعًا
وخمسين سنة.
***
القعنبي ذاك الإمام
قال بنان بن أحمد: كنا عند القعنبي - رحمه الله - فسمع رجلاً من
الجهمية يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) فقال القعنبي: من
لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما يقر في قلوب العامة فهو جهمي.
أخرجها عبد العزيز القحيطي في تصانيفه. والمراد بالعامة عامة أهل العلم، كما بيناه
في ترجمة يزيد بن هارون إمام أهل واسط. ولقد كان القعنبي من أئمة الهدى، حتى
لقد تغالى فيه بعض الحفاظ وفضله على مالك الإمام، توفي سنة إحدى وعشرين
ومائتين عن بضع وثمانين سنة، وهو أكبر شيخ لمسلم مطلقًا.
***
عفان أحد أعلام السنة
قال ابن أبي حاتم: ثنا يحيى بن زكريا بن عيسى: حدثني يحيى بن أبي بكر
السمسار، سمعت عفان بن مسلم بعد ما جاء من دار إسحاق بن إبراهيم لما امتحنه
في القرآن فقال: إنه كتب إليّ أن أدرّ أرزاقك إن أجبت إلى خلق القرآن. فقلت:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ} (الفتح: ١٥) {لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: ٢٥٦) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: ١)
أمخلوق هذا؟ أدركت شعبة وحماد بن سلمة وأصحاب الحسن يقولون: القرآن كلام
الله ليس مخلوقًا. قال: إذًا تقطع أرزاقك. قلت: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون َ} (الذاريات: ٢٢) قيل: كان رزقه في الشهر ألف درهم فترك ذلك لله عز وجل،
توفي سنة تسع عشرة ومائتين.
***
عاصم بن علي شيخ البخاري
روينا عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي قال: ناظرت جهمًا فتبين من
كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا. قلت: كان عاصم حافظًا من أوعية العلم
صادقًا، حمل عن شعبة وابن أبي ذئب وخَلق. ذكر الخطيب في ترجمته أن
المعتصم وجه من يحزر مجلس عاصم هذا في رحبة جامع الرصافة، وكان يجلس
على سطح الرحبة ويجلس الخلق في الرحبة وما يليها، فعظم الجمع مرة حتى قل
أربع عشرة مرة. ثنا الليث بن سعد، والناس لا يسمعون لكثرتهم وكان
المستملي هارون يركب نخلة يستملي عليها، فحزروا الجمع فكان عشرين ومائة
ألف. وقال يحيى بن معين: عاصم بن علي سيد المسلمين. قلت: مات مع القعنبي
في سنة (أي سنة ٢٢١) .
***
الحميدي
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المعدل أنبأ عبد الله بن أحمد الفقيه سنة سبع
عشرة وستمائة أنبأ سعد الله بن نصر أنبأ أبو منصور الخياط أنبأ عبد الغفار بن
محمد أنبأ أبو علي الصواف أنبأ بشر بن موسي الحميدي قال: أصول السنة عندنا ...
فذكر أشياء، ثم قال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ
اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (المائدة: ٦٤) ومثل قوله {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ} (الزمر: ٦٧) وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نزيد فيه ولا
نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ
اسْتَوَى} (طه: ٥) ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي.
كان العلامة أبو بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي الحميدي مفتي أهل
مكة وعالمهم بعد شيخه سفيان بن عيينة، حدث عنه البخاري والكبار. مات سنة
تسع عشرة ومائتين.
***
عالم المشرق يحيى بن يحيى النيسابوري
قال ابن منده: أنبأ محمد بن يعقوب الشيباني ثنا محمد بن عمرو بن النضر
ثنا يحيى بن يحيى قال: كنت عند مالك فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ
عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) فأطرق ثم قال: الاستواء غير مجهول،
والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال ابن أبي حاتم:
سمعت مسلم بن الحجاج: سمعت يحيى بن يحيى يقول: من زعم أن من القرآن من
أوله إلى آخره آية منه مخلوقة فهو كافر. كان يحيى بن يحيى إليه المنتهى في الإتقان
والورع والجلالة بنيسابور، قل أن ترى العيون مثله، حمل عن مالك وخارجة بن
مصعب والكبار، ومات سنة ست وعشرين ومائتين.
***
عالم الري هشام بن عبيد الله الرازي
قال ابن أبي حاتم: ثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي سمعت أبي يقول:
سمعت هشام بن عبيد الله الرازي - وحبس رجلاً في التجهم فجيء به إليه ليمتحنه -
فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: لا أدري ما بائن من
خلقه، فقال: ردوه فإنه لم يتب بعد.
كان هشام بن عبد الله من أئمة الفقه على مذهب أبي حنيفة، تفقه على محمد
ابن الحسن، كان ذا جلالة عجيبة وحرمة عظيمة ببلده، توفي سنة إحدى وعشرين
ومائتين.
ابن أبي حاتم: حدثنا أبو هارون محمد بن خلف الجزار: سمعت هشام بن
عبيد الله يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق: قال له رجل: أليس الله تعالى يقول:
{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: ٢) ؟ فقال: محدث إلينا وليس
عند الله بمحدث.
قلت:لأنه من علمه وعلمه قديم فعلم عباده منه. قال تعالى:
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: ١-٢) فالمقري يلقن الختمة مائة نفس
ومائتين فيحفظونه وهو لا ينفصل عنه منه شيء، كسراج أوقدت منه سرجًا ولم
يتغير.
***
فقيه المدينة عبد الملك بن الماجشون
قال ابن أبي حاتم: ثنا يحيى بن زكريا بن عيسى ثنا هرون بن موسى الفروي
قال: ما سمعت الكلام في القرآن إلا سنة تسع ومائتين، جاء نفر إلى عبد الملك بن
الماجشون وكلموه فأنكر ذلك عليهم، فكان في بعض ما كلمهم به أن قال: {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: ١) أهذا مخلوق؟ ثم قال: لو أخذت بشرًا المريسي
لضربت عنقه.
كان عبد الملك من أَجَلِّ تلامذة مالك، وكان أبوه عبد العزيز بن الماجشون
يفتي مع مالك في دولة المهدي، توفي عبد الملك في سنة أربع عشرة ومائتين.
(المنار)
سننشر طائفة أخرى من نقول هذا الكتاب، ونبين أن مذهب
السلف هو الموافق للعقل السليم دون مذهب الجهمية.
((يتبع بمقال تالٍ))