للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المراسلة والمناظرة

... ... ... ... ... (تمثيل القصص)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى فضيلة الرشيد المرشد، شائد منار السنة، مولانا السيد محمد رشيد رضا،
أيَّدَهُ اللهُ وأَيَّدَ ثَمَرَاتِ مَسْعَاهُ آمين.
السلام عليكم ورحمة الله. إني أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللهَ الآمرَ بالتواصي بالحقِّ،
وأصلي وأسلمُ على صفوةِ الخَلْقِ وآله وصحبه أَلْسِنَةِ الصِّدْقِ.
أما بعد؛ فقد رأيت لفضيلتكم في الجزء السابع من المجلد السابع عشر من
مناركم الأغر فتوى في حل التمثيل وحضوره عُلّل فيها الحل بأنه لا نص على
حرمته وليس ذريعة لفساد حتى يحرم سدًّا للذرائع، فلا يحرم إلا على مَن يغريه
بمحرم، ما لم يكن موضوعه منكرًا بحيث يكون موضوع القصة الممثلة عملاً
محظورًا فيحرم إذًا، ولا عبرة بوجود نساء في موضعه كاشفات الرؤوس والسواعد؛
إذ الغالب أن يكن كافرات غير مخاطبات بالفروع، وأن يكون الناظر لمقصود
التمثيل فقط، على أنهن كثيرًا ما يرين في الطرق على تلك الصفة فلا فرق بين
رؤيتهن كذلك فيها ونظرهن بهذه الصفة في موضع التمثيل. هذا معنى ما جاء في
جوابكم. وفيه أن كون التمثيل لا نص على حرمته يرد بأن حضور النساء كاشفات
على ما مر مبديات زينتهن المبالغ في التأنق فيها جزء من التمثيل الغرامي وذلك
محرم بنص {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: ٣٠) {وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ} (النور: ٣١) الآية.
والنصوص المانعة من حضور المنكر والتسبب فيه، وعدم كونه ذريعة فساد
يرد بأنا نعلم بالسير أن الأكثر يتهافتون جدًّا على التمثيل الغرامي لا لشيء سوى
وجود أولئك النساء؛ بدليل أنهم لا يعتنون كذلك بما لا يحضرونه، ونسمع الكثير
يسألون عن حال الممثلات من حيث نحو الجمال قبل السعي إلى التمثيل، حتى لقد
اتخذ هذا الضرب من التمثيل وسيلة لمحض التكسب به كثير من فاسدي الأخلاق
الذين لا يعقل أن يقصدوا تهذيب غيرهم، وسمعنا كثيرًا غب مفارقة التمثيل يلهجون
بوصف جمال الممثلات ورونق زينتهن ورخامة أصواتهن، وأنبأنا بعض مَن
حضروا ذلك التمثيل ثم تابوا لما رأوا من سيئ أثره بأن من الحضور مَن كان
مستصحبًا نظارة تجعل الممثلة كأنها إلى جنبه، وهذا مما يؤكد سوء آثار حضور
التمثيل المذكور وأنه لا يكاد يسلم من ذلك أحد مهما كان ورعًا، على أنه يحضره
كثير ممن لا عناية لهم بالأخلاق، ولا وازع يزعهم عن الاسترسال في مطلق
الشهوات، فيخرجون وقد استفحل الداء في نفوسهم، واستولت الاضطرابات على
قلوبهم، وكون الكفار غير مخاطبين بالفروع مختلف فيه ومعتمد الشافعية
والمالكية الخطاب لدخولهم في عموم الوعيد، والآية: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ
نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ} (المدثر: ٤٢-٤٣) إلخ، ولئن سلم جواز السفور للكافرات
لم يسلم جواز حضور مكانهن حال السفور مع نظرهن، للأمر بغض البصر
وتحريم النظر لغير الوجه والكف بالسنة دون فرق بين مؤمنة وكافرة.
وهو مقتضى حكمة تحريم النظر، وهو كونه بريد الزنا - كما ورد - بلى
سُمِّيَ في الصحيح زنا العين، وقد أطلتم في بعض أبحاث المنار القول في مفاسد
النظر بما يُعلم به أن مفسدته تغلب مصلحة التمثيل الغرامي، إن كانت.
أما كون الناظر إنما يلاحظ مقصود التمثيل، فخلاف ما عهدنا في كثير. نعم
من الناس من هو كذلك ولكن قليل ما هم. وأما التسوية بين نظر السافرات في
مواضع التمثيل ونظرهن في الطرق فقد يرد بأن الماشي في الطريق غير مستقر في
موضع فتصادفه منهن من تصادفه بدون قصد أو به، مع شدة الحاجة إلى الشيء
فيه، ومع كون اللاتي فيه لا يتأنقن في الزينة تأنق الممثلاث اللاتي يُختارون من
أجمل الطبقات، ويعددن من الزينة ما تجلب به الرجال للتمثيل ويبالغن في ترخيم
أصواتهن عند قراءة الأشعار الغرامية التي قد تحدث وحدها في النفس أثرًا سيئًا،
فما الظن إذا حدث من نسوة على هذه الصفات بهذا الترخيم على مرأى من الرجال
الذين جبلوا على شدة الميل إلى مثل ذلك، فهذا كله يقتضي أن مفسدة مثل هذا
التمثيل غالبة، على أن لنا عما يقصد منه من الاعتبار والتهذيب غنى بآداب ديننا
التي جاء بها القرآن والآثار وحكم العارفين، فما بالنا نفزع في طلب العظة إلى هذا
الأمر الذي ضُره أضعاف نفعه؟ إني لأعتقد أن لتمثيل القصص الغرامية الحظ
الأوفر في إفساد أخلاق المصريين والمصريات، والذين عُرف بالاستقراء فرط
شغفهم بالشهوات وتكالبهم على الزخارف وإن كانت محظورات، وعدم مبالاتهم
بالتهتك، ولذا كنت أود أن تفسحوا في مناركم الأغر مكانًا لانتقاد ذلك التمثيل
والتنفير منه جدًّا مادام على غير صفة شرعية. والآن أرجو إبانة رأيكم بعد ما
ذكرت لكم ما عندي ليستنبين الحق أتم استبانة، لازلتم عضدًا للحق والحقيقة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (محمد زهران)
(المنار)
إن ما ذكره أخونا الكاتب من وصف التمثيل خاص بتمثيل القصص الغرامية
المعهود بمصر، وهو مبني على السماع والمبالغة في دعوى براعة جمال الممثلات
ورخامة أصواتهن وافتتان الرجال بهن. وكلام المنار السابق في التمثيل المطلق،
ومنه ما يقوم به الرجال وحدهم وما يقوم به نساء لسن من مظنة الفتنة في شيء.
وإذا ثبت أن التمثيل الذائع هنا مصدر للفتنة، وذريعة للمفسدة، فهو مما جزمنا
بتحريمه في كلامنا السباق، ومن الغريب جعله آية نهي المؤمنات عن إبداء زينتهن
نصًّا على وجوب ذلك على الكوافر بمعنى مطالبتهن به كالمسلمات، وجعل هذا
مذهبًا للشافعية! وإنما المذهب أن الكفار يعاقبون على ترك فروع الشريعة في
الآخرة بدليل آية المدثر التي ذكرها، بل قال (لعموم الخطاب) وإنما الخطاب في
الآية للمؤمنات، وفي الرسالة مسائل أخرى قابلة للبحث والنقد ولا حاجة إلى ذلك.
وحسبنا أن نقول: إن حكم هذا التمثيل منوط بمافيه من المصلحة أو المفسدة، والثاني
هو الذي يحظر دون الأول.
* * *
المعازف - آلات اللهو
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الأستاذ الأوحد رافع منار الدين، وحامي حوزته السيد محمد رشيد
رضا الحسيني أنجح الله تعالى مساعيه وأكثر في المسلمين من أمثاله.
السلام عليكم ورحمة الله؛ إني أحمد إليكم الله الذي وفقكم لأجل الخدمات
الإسلامية، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسائر القائمين بنصرة
الشريعة المحمدية.
أما بعد فقد كنت منذ بدء اشتغالي بالعلم شديد العطش إلى معرفة الحق في
مسألة آلات الملاهي فكنت أراجعها في كل كتاب تيسر لي من كتب المقلدين
والمستقلين فلا يُشفى لي غليل، حتى أتيح لي مراجعتها في نيل الأوطار مرارًا فكاد
يثلج صدري بتحقيق ذلك العالم الرباني، وكنت أقرأ في المنار الأسمى أجوبة أسئلة
في هذا الشأن تحيل استيفاء البحث على أول أجزاء المجلد التاسع وتاليه فيشتد
شغفي لاقتنائهما حتى تيسر ذلك، فأمتعت الفكر بمطالعة المبحث فيها فإذا حاصل ما
زدتموه على الشوكاني في نيل الأوطار أن رجحتم أدلة الإباحة على أدلة الحظر
بموافقتها للبراءة الأصلية ومقتضى الفطرة وسماحة الدين وكونها صحيحة دون أدلة
الحظر. وقولكم: إن أدلة الحظر تحظر المعازف - والدف منها قطعًا - أي فتكون
معارضة لأحاديث جواز الدف. فتُقَدَّم هذه لما مر - وقولكم: إن غناء النساء الثابت
جوازه في الصحيح أشد الملاهي تأثيرًا في النفس. أي فغيره أولى بالجواز -
وقولكم عقب نقل كلام الشوكاني: ومعلوم أن نذر الحرام أو المكروه لا ينعقد، وهذا
يبطل دعوى الشوكاني نهوض أدلة المانعين شبهة على المنع - وقولكم في حاشيتي
صفحتي ٤٦و٤٧ من الجزء الأول بعد نقل كلام الشوكاني في رد الحافظ ابن حجر
على ابن حزم في دعواه انقطاع حديث المعازف الذي في الصحيحين ما نصه:
ومنه تعلم أن الحافظ ابن حجر والشوكاني يعترفان بأنه لم يصح من الأحاديث
الواردة في حظر آلات اللهو إلا الحديث الأول مما أوردنا، وزيادات أخرى
أوردتموها في بحث القياس الفقهي في السماع وفي خلاصة البحث، أما ترجيح أدلة
الجواز لموافقتها لأصل الإباحة ولمقتضى الفطرة ويسر الشريعة فإنما يصح لو
تعارضت أدلة الجواز وأدلة المنع، ولا تعارض؛ إذ القاعدة الأصولية تقتضي
تخصيص أحاديث تحريم المعازف بغير ما صح في الأحاديث جوازه من الدف
والغناء كما هو الشأن في تخالف العام والخاص، ولذا لم يحرم الشافعية ما ذُكر من
الدف والغناء حيث أُمنتْ الفتنة بالثاني، وخص المالكية جواز الدف في النكاح أو
لكل سرور وقوفًا مع ظاهر الوارد. وأرى هذا قريبًا وأحوط.
وأما الترجيح بصحة أدلة الجواز وضعف مقابلها ففيه أنكم اعترفتم تبعًا
للحافظين بصحة حديث البخاري في المعازف، وهو كافٍ في إثبات المنع غير أنه
يخص بأحاديث الدف والغناء كما مر، وبذا علم ما في قولكم أن أدلة المنع تحظر
المعازف والدف منها.
وأما كون غناء النساء أشد الملاهي تأثيرًا في النفس فغير مُسلّم على العموم؛
إذ ليس غناء كل امرأة أشد تأثيرًا من كل لهو آخر؛ بل كثيرًا ما يكون صوت العود
مثلاً أشد تأثيرًا من غناء بعض النساء.
على أنه بعد صحة الحديث بتحريم المعازف المراد بها غير الغناء والدف
بدليل الأحاديث الأخرى - لا مساغ لهذا؛ إذ لا يجوز إلغاء حديث صحيح لمجرد
توهم مخالفته لمقتضى القياس الأولوي على ما في حديث آخر؛ لأنه لا وثوق لنا
بأن عليَّة جوازها في هذا الحديث هي ما فهمناه؛ إذ لا مانع من كون العلة شيئًا آخر
لم يبلغه إدراكنا، فلماذا لا نجمع بين الأدلة ما أمكن ونعمل بجميعها امتثالاً لما أُمرنا به
من الأخذ بكل ما أتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وأما كون الأمر بضرب الدف لمن نذره يدل دلالة واضحة على جواز الملاهي
لعدم انعقاد نذر المنهي عنه - ففيه أن ذا إنما يدل جليًّا على جواز ضرب الدف فقط
فيخصص بذلك وبأحاديث الغناء - حديث منع المعازف كما سبق - فيبقى باقيها
على المنع، فكيف يقال: إن الأمر المذكور قد منع نهوض أدلة المنع شبهة.
وأما كون اقتصار الحافظ على رد تضعيف حديث البخاري في المعازف يدل
على أنه يرى ضعف سائر الباب - ففيه أنه قد يكون سكوته عن بيان حالها لعدم علمه
به لا لعمله بضعفها.
وبعدُ فإني أرى أن ما استنتجه الشوكاني من كلامه الطويل من أن المقام مقام
شبهة فقط لا يصلح نتيجة لبحثه فإنه نقل أجوبة المجوزين عن حديث البخاري
المعلق وردها، فعلم منه أن الحديث حجة للمانعين، وقد قال في خلال البحث: إن
الأحاديث ينهض مجموعها حجة لتعاضدها، فقد نصر المانعين بحجتين سلمهما.
وما احتج به للمجوزين من نحو عموم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (الأعراف:
١٥٧) يرد بتخصيصه بتينك الحجتين. وبعد دلالة السنة على المنع لا مساغ لمقاس
فقهي ولا غيره إلا قياس مع وجود دليل من كتاب أو سنة. فصفوة بحث الشوكاني
نُصرة المانعين وترجيح التحريم، لا مجرد أن المقام مقام شبهة.
نعم قد يقال: إن لفظ المعازف جمع محلى بال وهو للعموم، فمعنى
استحلال المعازف استحلال جميعها حتى نحو الغناء المهيج على محرم، فيكفي في
تحقق معنى الحديث تحريم مثل ذلك ويكون هذا جمعًا مقبولاً بين الأدلة يتفق مع
القياس الفقهي ومع الأمور التي رجحتم بها أدلة الجواز.
وقد يرد كون مجموع أحاديث الحظر غير الأول ينهض حجة بأن تعدد
الأحاديث الضعيفة إنما يقتضي بلوغ درجة الحسن إذا كان الضعف لنحو سوء حفظ
الراوي لا لفسقه أو اتهامه بكذب، والأول غير متحقق هنا فلا جزم بالحسن. ولو
أن الشوكاني ذكر هذين النقضين لأنتج بحثه ما ذكره من أن الموضوع موضوع
شبهة. فخلاصة بحث الفقير هو ما رآه الشوكاني أخيرًا من الاشتباه لا ما رأيتموه.
وقد أطلعت فضيلتكم عليه كي تروه أو تردوه. ولي وطيد الأمل أن تعيروا ذلك
عناية تامة إحقاقًا للحق، وإزالة للثام الشبهة عن وجهه، لا برحتم عَلَمًا للمهتدين،
ونبراسًا للمستضيئين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد زهران
خادم العلم الشريف ببندر المحمودية (بحيرة)
... ... ... ... ... ... ... وأحد مشتركي المنار الأغر
(المنار)
يؤخذ من لسان العرب وغيره من المعاجم أن العزف يطلق في اللغة
على اللهو وعلى اللعب وعلى بعض الأصوات كالغناء والنواح والرعد والريح،
وصوت الرمل إذا هبت بها الريح، وقيل إن هذا هو الذي كانت العرب تطلق كلمة
(عزيف الجن) على ما يسمع منه في الليل. ويطلق بكثرة على الدف أو صوته،
والعزيف: الصوت. قال في اللسان: عزف يعزف عزفًا: لَهَا، والمعازف:
الملاهي، واحدها معزف ومعزفة. وعزف الرجل يعزف إذا أقام في الأكل
والشرب. وقيل واحد المعازف: عزفة، على غير قياس، ونظيره ملامح ومشابه
في جمع شبهة ولمحة، والملاعب التي يضرب بها يقولون للواحد والجمع: معازف،
رواية عن العرب. فإذا أفرد المعزف ضرب من الطنابير ويتخذه أهل اليمن.
وغيرهم يجعل العود معزفًا، وعزف الدف: صوته وفي حديث عمر أنه مر بعزف
دف فقال ما هذا؟ قالوا ختان، فسكت. العزف: اللعب بالمعازف، وهي
الدفوف وغيرها مما يضرب به. وكل لعب عزف. اهـ المراد.
فمن تأمل هذه المعاني يعلم أنها هي التي كانت تراد من العزف والمعازف في
عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح نص بتحريم شيء منها، وكان أشهر
آلات الملاهي في ذلك العصر الدف وقد ثبت في السنن العملية والقولية إباحته
واستحبابه في بعض الأوقات كالعرس. وسائر آلات اللهو التي لم تكن في ذلك
العصر معروفة أو مشهورة يصح إطلاق لفظ المعازف عليها كما يصح إطلاق لفظ
الخمر على المسكرات التي حدثت بعد عصر الوحي وإن لم تكن تخطر هذه ولا تلك
في بال من يطلق اللفظ قبل وجودها. ولو جاء في الكتاب أو السنة نص صريح في
تحريم المعازف لكان أول ما يتبادر إلى فهم الصحابة منه تحريم ما كان ذائعًا في
عصرهم منه كالدف. ثم يلحق به غير الذائع وغير المعروف عندهم بعموم اللفظ
إذا كان الوضع اللغوي يساعد على ذلك، أو بطريق القياس إذا اتحدت العلة.
وقد علمنا من عبارة لسان العرب أن تسمية العود معزفًا ليس متفقًا عليها.
ولو كان المشهور من المعازف التي كانت في عصره صلى الله عليه وسلم محرمًا
لورد النص عليه في الكتاب أو السنة المشهورة لتوفر الدواعي على نقل ذلك
واشتهاره، ولم يصح حديث مشهور ولا دون المشهور في التنصيص على تحريم
شئ منها؛ بل صح ما يدل على الإباحة كما يعلم أخونا الباحث المنتقد. واشتهر
عن بعض كبار الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كرواة الصحيحين والسنن أنهم
كانوا يبيحون الغناء والأوتار لا الدفوف فقط! وكان جمهور هؤلاء من أهل المدينة
الذين هم أجدر الناس بمعرفة السنن المتبعة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث الذي هو موضوع البحث والسؤال فليس نصًّا ولا ظاهرًا في إنشاء
حكم تحريم المعازف ولا خبرًا بمعنى إنشاء ذلك. وإنما هو حديث آحادي في
الإخبار عن شيء يقع في المستقبل كالأحاديث في أشراط الساعة وأماراتها الواردة
في سياق الكلام عن الساعة. أو في مناسبات أخرى: كحديث أبي هريرة عند أحمد
ومسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر
يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، على رؤوسهن
كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا
وكذا) فهذا الحديث ليس إنشاء لتحريم حمل السياط التي تشبه أذناب البقر (وهي
التي نسميها الكرابيج) وضرب الناس بها، ولا لتحريم كل وصف من أوصاف
النساء التي فيه؛ ولكنه يدل ضمنًا على أن كلاًّ من الصنفين يتلبس بمحرم يستحق
به عذاب الله تعالى. إن لم يكن في جزئيات ما وصف به ففي جملتها ومجموعها.
ولا بد أن يكون لتلك المحرمات أدلة تدل عليها من شرع الله تعالى في غير هذا
الحديث.
فأنا أفهم حديث المعازف الذي نتكلم فيه كما أفهم هذا الحديث: أفهم أن
حديث أبي هريرة يبين حال رجال من الظلمة يحملون نوعًا من السياط يضربون
بها الناس بغير حق، لأنهم أنشأوا لأنفسهم شريعة في عقاب المذنبين إليهم بذلك.
فحمل السياط التي تشبه أذناب البقر ليس محرمًا؛ إذ لا دليل على تحريمه،
وضرب الناس بها إذا كان في إقامة حد الله تعالى على الوجه المشروع ليس محرمًا
أيضًا.
ولكن ضرب الكرابيج الذي كان معهودًا بمصر محرم شرعًا لأنه من الظلم
المبين، وحرمته معلومة من الدين بالضرورة. وكذلك النساء الكاسيات العاريات
بما يلبسن من الشفوف التي تحكي ما تحتها من البدن، لا دليل في الشريعة على
تحريم هذا منه إذا فعلنه أمام أزواجهن فقط، ولك أن تقول مثل هذا في سائر
أوصافهن في الحديث، ولكن وجد في هذا العصر نساء يبرزن بهذه الصفات مع
الأجانب، وقد فسدن وأفسدن بذلك كثيرًا من الناس، فكل أفعالهن هذه محرمة بلا
ريب.
وعلى هذا النحو ومثل هذا الفهم أفهم حديث أبي عامر أو أبي مالك: (ليكونن
من أمتي قوم يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف) ، معناه: سيوجد من
أمتي قوم يغلب عليهم الجهل بالدين أو التأويل للنصوص حتى توافق أهوائهم،
فيقعون في الحرام معتقدين بالجهل بالدين أو التأويل للنصوص حتى توافق أهواءهم،
فيقعون في الحرام معتقدين بالجهل أو بالتأويل أنه حلال، كاستحلالهم الفروج
بالمحلل من الطلاق الثلاث، وبالتسري بالحرائر اللواتي يبيعهن آباؤهن أو يُختطفن
من بلادهن، وكذلك يستحلون لبس الحرير الذي هو منتهى الزينة التي لا تليق إلا
بالنساء باعتقاد أن المحرم منه ما كان حريرًا خالصًا، وما يلبسونه مشوبًا بقطن أو
كتان - مثلاً - ويستحلون الخمر التي يستحدثونها بدعوى أن المحرم لذاته منها ما
كان من عصير العنب، ولا يحرم من غيره إلا القدر المسكر الذي لا يميز شاربه
السماء من الأرض - مثلاً - ويستحلون المعازف المستحدثة على الوجه الذي بُين في
رواية الحديث الأخرى: (يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات) والمراد
بالمغنيات هنا القيان المشار إليهن في حديث علي وأبي هريرة عند الترمذي في
الخصال الخمس عشرة التي يترتب عليها نزول البلاء بهذه الأمة قبل الساعة ومنها:
(وظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور) فالمراد من ذلك شيء لم يكن في
زمنه صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن كل هذه المفردات كانت موجودة، وهو ما
استحدثه بعض الفساق مع الجمع بين العزف والغناء وشرب الخمر، ويدل عليه
قول بعض علماء اللغة في تفسير القينة؛ وهو أن المراد بها الجارية البيضاء التي
تغني للرجال في مجلس الشرب. فاقتران المعازف بالقيان وشرب الخمر هو
المخبر عنه بأنه من أسباب حلول البلاء وإن لم يذكر ذلك في كل رواية للحديث -
وهو حديث واحد لا يعرف المراد منه إلا بعد معرفته كله - وكثيرًا ما يكون
الاقتصار على بعض ألفاظ الحديث سببًا لجهل المراد منه. ومثله في هذا الحديث:
(وأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَعَقَّ أمَّهُ وأَدْنَى صَدِيقَهُ وأَقْصَى أَبَاهُ) فإطاعة المرأة
وإدناء الصديق ليس منكرًا في الدين؛ وإنما كان أنكر باعتبار اقترانه بعقوق الأم
وإقصاء الأب. أو فهم منه أن إطاعة المرأة وإدناء الصديق في اتباع الهوى
والمنكرات.
وجملة القول أنني أفهم الحديث الذي نحن بصدد البحث فيه كما أفهم أمثاله مما
ورد في أنباء المستقبل التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فأجزم بأنها ليست
تشريعًا، وإنما هي إخبار بأشياء ستحدث بعده فما دل منها على تحريم شيء لا
يعرف فيه دليل على تحريمه فلا بد أن يكون ما أخبر به صلى الله عليه وسلم سيقع
على وجه محرّم، وأن يكون عنى به وقوعه على ذلك الوجه، كحديث الرجال
الذين بأيديهم سياط كأذناب البقر إلخ وغيره.
فهذه الأحاديث لا يقع التعارض والترجيح بينها وبين نصوص الكتاب والسنة
في التحليل والتحريم كما فعل الباحث؛ إذ جعل السنن العملية والقولية التي صحت
في إباحة المعازف والغناء مخصصة لعموم لفظ المعازف في حديث: (ليكونن
أناس من أمتي) كأنه هو الأصل في تحريم ما ذكر، وكأن النبي صلى الله عليه
وسلم أراد بما سمعه وما أجازه وأقره أو ندب إليه من سماع الدفوف والغناء في
الوقائع المختلفة تخصيص ذلك العموم، وجعل ما كان يقع في عصره من عزف
الناس وسماعهم بسائق الفطرة استثناء من ذلك الأصل التشريعي العام ولا يفهم هذا
الفهم ويقول هذا القول ذو ملكة عربية إلا إذا حصر نظره في تحكيم قواعد أصول
الفقه في أمرين أحدهما: لفظ يدل على حرمة المعازف مطلقًا، وثانيهما: لفظ أو
عمل يدل على إباحة بعضها، فهو يعد الأول بمعنى: (حرمت عليكم المعازف)
أو (اجتنبوا المعازف) أما إذا نظر في أسلوب الحديث وسياقه الذي بيَّناه وقارنه
بأمثاله من الأحاديث، فإنه يجزم بما جزمنا به. ويعلم أن تحريم الشيئ ابتداء وجعله
حكمًا شرعيًّا لا يكون بمثل تلك العبارة، وناهيك بشيء من مقتضى الفطرة عهد من
الناس في كل زمان ومكان.
فلو أراد الشارع تحريم مثله لحرمه بنص صريح يبلغه جمهور الأمة، وتتوفر
الدواعي على نقله بالتواتر أو الاستفاضة.
فعُلم مما شرحنا أن هذا الحديث لم يقصد به تحريم ما ذكر؛ وإنما قصارى ما
يدل عليه أنه سيوجد قوم يسرفون في ذلك إسرافًا مقترنًا بالفساد، وبمنكرات قبيحة
محرمة بنص الكتاب، كشرب الخمر وتهتك القيان، وأنهم يستحلون ذلك بِعدِّ
معازفهم الإفسادية من قبيل المعازف التي أباحها الشرع لترويح النفس في بعض
الأحايين، أو السرور بنعمة الله في أيام الأعياد والأعراس وقدوم المسافرين، من
غير أن يقترن بها منكر من المنكرات المحرمة في الدين، كما يستحلون بعض
الخمور بعدها من قبيل النبيذ المباح الذي هو نقيع نحو التمر والزبيب في الماء الذي
لم يختمر فيصير مسكرًا. وما شدد من شدد من الفقهاء في إطلاق تحريم السماع إلا
لمثل هذه المفاسد التي فتن بها المغرمون به حتى صارت من لوازمه عندهم. وما
أنكر عليهم مَن أنكر من المحدثين والفقهاء والصوفية إلا تعميم التحريم، وتكلف
الاستدلال عليه بالآيات والأحاديث، ولم يسلم لهم دليل مما استدلوا به. كما يعلم من
الكتب المؤلفة في إباحته، ومن مثل نيل الأوطار والإحياء وشرحه.
والقول الفصل أن الأصل في العزف والمعازف (ومنه الغناء واللعب)
الحل. وأنه ورد في السنة ما يؤيد هذا الأصل كلعب الحبشة في المسجد وغناء
الجواري وسماع الدف والإذن به، وإن الحرمة تعرض لبعض ذلك، كما يعرض
لبعضها الاستحباب، ولا يبعد أن تصل معازف الحرب إلى درجة الوجوب إذا
كانت الحرب شرعية، فقد ثبت بالتجارب المتعددة المفيدة للقطع أن معازف الحرب
التي يسمونها (موسيقى) تنشط المقاتلين وتحفز هممهم وتزيد في ثباتهم وإقدامهم
وجرأتهم، وتزيل الشعور بالتعب والمشقة أو تخففه عنهم، كما يفعل الحداء
بالإبل. فإذا كان الثبات والإقدام من الواجبات بنص قوله تعالى: {فَاثْبُتُوا} (الأنفال: ٤٥) وبعموم الأدلة الأخرى فقد تكون المعازف في بعض الأحيان
داخلة في قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
هذا وإن أصول دين الفطرة والشريعة السمحة، الثابتة بالنصوص القطعية،
والمعلومة من الدين بالضرورة، أصل اليسر ونفي الحرج، وعدم تحريم شيء على
الناس إلا لضرره، ورفع الإصر والأغلال عن الأمم التي كانت قبله، حتى إن
النبي صلى الله عليه وسلم علل أمره للحبشة باللعب في مسجده بإظهار هذه المزية
في الإسلام.
أفنهدم هذه الأصول الثابتة والقواعد الراسخة، ونستنبط من حديث آحادي
روي بالمعنى في سياق الإخبار عن المستقبل، وذكر بعض الرواة من ألفاظه وقيوده
ما لم يذكره غيره - أن الأصل في آلات اللهو أن تكون محرمة في الإسلام وإن
وجدت بباعث الفطرة عند جميع الأمم، ولم تحرمها قبله الأديان الإلهية في ملة من
الملل، ثم نفرع عن هذا الأصل أن إباحة كل آلة منها تحتاج إلى نص من الشارع
يخصص ذلك الأصل العام، إن لم يمكن تأويله وتطبيقه عليه كما فعل المشددون؟
كلا إن الأمر بالعكس كما تقدم، ولا سبيل إلى تحريم شيء من ذلك بخصوصه،
وإنما نجزم بحرمة ما فيه مفسدة ظاهرة من سماع الفُسّاق وعزفهم الذي نراه في
عصرنا مصداقًا للحديث، وبهذا الشرح نستغني عن بيان رأينا في سائر مباحث هذه
الرسالة.