للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: الذهبي


أقوال علماء السلف الأثبات
في عقيدة السلف وإثبات الصفات
(٢)
(أحمد بن محمد بن حنبل شيخ الإسلام)
رحمه الله ثراه [١] وجعل الجنة مثواه
المنقول عن هذا الإمام في هذا الباب طيب كثير مبارك فيه، فهو حامل لواء
السنة، والصابر في المحنة، والمشهود بأنه من أهل الجنة، فقد تواتر عنه تكفير
مَن قال بخلق القرآن العظيم جل منزله، وإثبات الرؤية والصفات والعلو والقدر،
وتقديم الشيخين، وأن الإيمان يزيد وينقص، إلى غير ذلك من عقود الديانة مما
يطول شرحه، فقال يوسف بن موسى القطان شيخ أبي بكر الخلال: قيل لأبي عبد
الله: الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟
قال: نعم هو على عرشه ولا يخلو شيء من علمه.
وقال أبو طالب أحمد بن حميد: سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال: الله
معنا وتلا {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: ٧) فقال: قد
تَجَهَّمَ هذا، يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، قرأت عليه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (المجادلة: ٧) فعلمه معهم. وقال في سورة ق: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: ١٦) فعلمه معهم.
قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلاً قال: أقول كما قال الله: {وَنَعْلَمُ مَا
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: ١٦) أقول هذا ولا
أجاوزه إلى غيره. فقال: هذا كلام الجهمية بل علمه معهم، فأول الآية يدل على أنه
علمه. رواه ابن بطة في كتاب الإبانة عن عمر بن محمد عن رجاء عن محمد بن
داود عن المروذي.
وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى] وَهُوَ مَعَكُمْ [؟ قال: علمه
محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة.
قال ابن أبي حاتم في كتاب مناقب الإمام أحمد: ثنا محمد بن مسلم ثنا سلمة
ابن شديد قال: كنت عند أحمد بن حنبل، فدخل عليه رجل عليه أثر السفر فقال: مَن
فيكم أحمد بن حنبل؟ فأشاروا إلى أحمد بن حنبل، فقال: إني ضربت البر والبحر
من أربع مائة فرسخ، أتاني الخضر عليه السلام فقال: ائت أحمد بن حنبل فقل له: إن
ساكن السماء راض عنك لما بذلت نفسك في هذا الأمر.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حدث محدث وأنا عنده بحديث: (يضع الرحمن
فيها قدمه) وعنده غلام، فأقبل على الغلام فقال: إن لهذا تفسيرًا. فقال أبو عبد الله:
انظر إليه كما تقول الجهمية سواء.
قال ابن أبي حاتم: ثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يحتج بأن
القرآن غير مخلوق، يقول: قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن:
١-٢) فأخبر تعالى أن القرآن من علمه، قال يعقوب الدورقي: قال لي أحمد:
اللفظية إنما يدورون على كلام جهم يزعمون أن جبريل إنما جاء بشيء مخلوق.
* * *
(إسحاق بن راهويه عالم خراسان)
قال حرب بن إسماعيل الكرماني قلت لإسحاق بن راهويه قوله تعالى:
{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: ٧) كيف تقول فيه؟ قال
حيثما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه. ثم ذكر عن ابن
المبارك قوله: هو على عرشه، بائن من خلقه. ثم قال أعلى شيء في ذلك وأبينه
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) رواه الخلال في السنة
عن حرب.
* * *
(الحافظ أبو عوانة صاحب الصحيح)
كان من كبار الحفاظ، حمل عن أصحاب سفيان بن عيينة ووكيع. قال
الحاكم في ترجمته: سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول: سمعت أبا عوانة
رحمه الله يقول: دخلت على إبراهيم المزني في مرضه الذي مات فيه فقلت له: ما
قولك في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق. فقلت هلاّ قلت قبل هذا؟ قال:
لم يزل هذا قولي وكرهت الكلام فيه لأن الشافعي كان ينهى عن الكلام فيه، يعني
البحث والجدال في ذلك.
* * *
(أبو الحسن الأشعري صاحب التصانيف)
قال الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري
المتكلم في كتابه الذي سماه (اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين) فذكر فرق
الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم؛ إلى أن قال: (ذكر مقالة أهل السنة
وأصحاب الحديث جملة) قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن
الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئًا،
وأن الله على عرشه كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) وأن
له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: ٧٥) وأن أسماء الله لا
يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقرّوا أن لله علمًا كما قال:
{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: ١٦٦) {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيماً حَكِيماً} (الإِنسان: ٣٠) وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله
كما نفته المعتزلة، وقالوا: لا يكون في الأرض من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن
الأشياء تكون بمشيئته كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان:
٣٠) إلى أن قال: ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. ويصدقون
بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى
السماء الدنيا فيقول: هل مستغفر) كما جاء الحديث، ويقرون أن الله يجيء يوم
القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: ٢٢) وأن الله
يقرب من خلقه كيف يشاء قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق:
١٦) إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا
من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله.
وذكر الأشعري في هذا الكتاب المذكور في باب (هل الباري تعالى في مكان
دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان) فقال اختلفوا في ذلك على سبع عشرة
مقالة: منها مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث إنه ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه
على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) ولا نتقدم
بين يدي الله بالقول؛ بل نقول استوى بلا كيف، وإن له يدين كما قال: (خلقت
بيدي) وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث.
ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى، وتأولوا اليد
بمعنى النعمة، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: ١٤) أي بعلمنا.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب (جمل المقالات) له - رأيته بخط
المحدث أبي علي بن شاذان - فسرد نحوًا من هذا الكلام في مقالة أصحاب الحديث
تركت إيراد ألفاظه خوف الإطالة والمعنى واحد.
وقال الأشعري في كتاب (الإبانة في أصول الديانة) له، في باب الاستواء:
فإن قال قائل: ما تقولن في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله مستوٍ على عرشه كما
قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) وقال: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّيِّبُ} (فاطر: ١٠) وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} (النساء: ١٥٨) وقال
حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ *
أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: ٣٦-٣٧)
كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي
السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (الملك: ١٦) فالسموات فوقها العرش، فلما
كان العرش فوق السموات وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك:
١٦) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، فلولا
أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش. وقد قال قائلون من المعتزلة
والجمهية والحرورية: إن معنى استوى: استولى وملك وقهر، وأنه تعالى في
كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء
إلى القدرة. فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة؛ لأنه
قادر على كل شيء، والأرض (شيء) فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وكذا لو
كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال هو مستو على الأشياء كلها،
ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الأخيلة والحشوش،
فبطل أن يكون الاستواء الاستيلاء. وذكر من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك.
وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شَهَرَه الحافظ ابن عساكر
واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النواوي، ونقل الإمام أبو بكر بن
فورك المقالة المذكورة عن أصحاب الحديث عن أبى الحسن الأشعري في كتاب
(المقالات والخلاف بين الأشعري وبين أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب
البصري) تأليف ابن فورك فقال: الفصل الأول في ذكر ما حكى أبو الحسن -
رضي الله عنه - في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وما
أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك. ثم سرد ابن فورك المقالة بهيئتها ثم قال في
آخرها: فهذا تحقيق لك من ألفاظه أنه معتقد لهذه الأصول التي هي قواعد
أصحاب الحديث وأساس توحيدهم.
قال الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي: قرأت كتاب أبي الحسن
الأشعري الموسوم (بالإبانة) أدلة على إثبات الاستواء. قال في جملة ذلك: ومن
دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله أن يقولوا: يا ساكن العرش. ومن حلفهم:
لا والذي احتجب بسبع.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله في شكاية أهل السنة: ما نقموا من
أبي الحسن الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر، وإثبات صفات الجلال لله من قدرته
وعلمه وحياته وسمعه وبصره ووجهه ويده، وأن القرآن كلامه غير مخلوق.
سمعت أبا علي الدقاق يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات
الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئًا في حال نزعه: لعن الله
المعتزلة موهوا ومخرقوا.
قال الحافظ الحجة أبو القاسم ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري،
فيما نسب إلى الأشعري) فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر عنه من حسن
الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب
عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح
في مذهبه غير أهل الجهل والعناد - فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة،
ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في كتاب الإبانة، فإنه قال:
(الحمد لله الواحد، العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا
تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد) فرد في خطبته على المعتزلة
والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم [٢] الذي
تقولون وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها
ندين، التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة
والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل
نضر الله وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس
الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به
المبتدعين، فرحمه الله من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته ورسله وما جاء من عند الله. ورواه الثقات عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا نرد من ذلك شيئًا، وأن الله إله واحد فرد صمد لا
إله غيره، وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة والنار حق. وأن الساعة آتية لا
ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله تعالى مستوٍ على عرشه كما قال:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) وأن له وجهًا كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ} (الرحمن: ٢٧) وأنه له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة
: ٦٤) وأن له عينين بلا كيف كما قال {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: ١٤) وأن
من زعم أن اسم الله غيره كان ضالاًّ، وندين أن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة كما
يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون. إلى أن قال: وندين بأنه يُقَلِّب القلوب وأن
القلوب بين إصبعين من أصابعه. وأنه يضع السموات والأرض على إصبع كما جاء
في الحديث. إلى أن قال: وأنه يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: ١٦) وكما قال {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ
أَوْ أَدْنَى} (النجم: ٨-٩) ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة. ومجانبة أهل
الأهواء. وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي بابًا بابًا وشيئًا شيئًا.
ثم قال ابن عساكر: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه!
واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه. وقال الحافظ ابن عساكر: وقال
الإمام أبو الحسن في كتابه الذي سماه (العمد في الرؤية) : ألفنا كتابًا كبيرًا في
الصفات تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية، فيه فنون كثيرة من الصفات
في إثبات الوجه واليدين وفي استوائه على العرش.
كان أبو الحسن أولاً معتزليًّا أخذ عن أبي علي الجبائي، ثم نابذه ورد عليه
وصار متكلمًا للسنة. ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه، وهو ما سقناه
عنه من أنه نقل إجماعهم على ذلك وأنه موافقهم. وكان يتوقد ذكاء. أخذ علم الأثر
عن الحافظ زكريا الساجي وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وله أربع وستون
سنة، رحمه الله تعالى.
فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن هذه ولزموها لأحسنوا؛
ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء ومشوا خلف المنطق، فلا قوة إلا
بالله.
* * *
(ابن أبي زيد)
قال الإمام أبو محمد بن أبي زيد المغربي شيخ المالكية، في أول رسالته
المشهورة في مذهب مالك الإمام: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل
مكان بعلمه. وقد تقدم مثل هذه العبارة عن أبي جعفر ابن أبي شيبة وعثمان بن سعيد
الدارمي. وكذلك أطلقها يحيى بن عمار واعظ سجستان في رسالته، والحافظ أبو
نصر الوائلي السجزي في كتاب الإبانة له. فإنه قال: وأئمتنا كالثوري ومالك
والحمَّادان وابن عيينة وابن المبارك والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله
فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. وكذلك أطلقها ابن عبد البر كما سيأتي.
كذا عبارة شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري، فإنه قال: وفي أخبار شتى أن
الله في السماء السابعة على العرش بنفسه، وكذا قال أبو الحسن الكرجي
الشافعي في تلك القصيدة:
عقائدهم أن الإله بذاته ... على عرشه مع علمه بالغوائب
وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقيّ الدين ابن الصلاح: هذه
عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث.
وكذا أطلق هذه اللفظة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ والشيخ عبد القادر
الجيلي، والمفتي عبد العزيز القحيطي وطائفة. والله تعالى خالق كل شيء بذاته،
ومدبر الخلائق بذاته، بلا معين ولا كوازر. وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة
بين كونه تعالى معنا وبين كونه تعالى فوق العرش، فهو كما قال. ومعنا بالعلم وأنه
على العرش كما أعلمنا حيث يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥)
وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء كما قدمناه. وبلا ريب أن فضول
الكلام، تركه من حسن الإسلام.
وكان ابن أبي زيد من العلماء العاملين بالمغرب، وكان يلقب بمالك الصغير،
وكان غاية في علم الأصول وقد ذكره الحافظ ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب
المفتري فيما نسب إلى الأشعري) ، ولم يذكر له وفاة. توفي سنة ست وثمانين
وثلاثمائة، وقيل سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وقد نقموا عليه في قوله (بذاته) فليته
تركها [٣] .