للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

(س٢٣و٢٤) من صاحب الإمضاء الرمزي في سمبس برنيو (جاوه)
حضرة العلامة الكبير، والإمام الجليل، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب
المنار الأغر نفعني الله والمسلمين بوجوده الشريف آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فيا سيدي الأستاذ نرجو من فضيلتكم
التكرم علي بأن تجيبوني عن الأسئلة الآتي ذكرها جوابًا مقنعًا، ولكم الفضل
والشكر وهي:
(أ) ما تقولون في قول الفقهاء: لا يجوز تحليف القاضي ولا الشهود وإن
كان ينفع الخصم تكذيبهما أنفسهما؛ لأن منصبهما يأبى ذلك؛ ولأن التحليف كالطعن
في الشهادة أو في الحكم. فإذا علم الشاهد أو القاضي أنه يحلف امتنع الأول من
الشهادة والثاني من الحكم فيؤدي ذلك إلى ضياع حقوق الناس، وهذا فساد عام،
فهل هذا القول صحيح؟ وقد جرت الحكومة الهولندية بتحليف الشهود قبل أن يؤدوا
الشهادة سواء كانوا صادقين أو كاذبين فرأى كثير من عمال الحكومة أن ذلك هو
الأحسن والأحوط والأوفق لهذا العصر. والمرجو من فضيلة سيدي الأستاذ إبداء
رأيه السديد في هذه المسألة بالحجة والبرهان.
(ب) هل من العقل والحكمة ومن مقاصد الشريعة الإسلامية ما اشترطه
الفقهاء في الهبة من أنها لا تصح إلا بإيجاب وقبول، ولا تلزم إلا بقبض الموهوب
له بإذن الواهب؟ قال في بداية المجتهد: وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول
عند الجميع، وأما الشروط فأشهرها القبض. أعني أن العلماء اختلفوا: هل
القبض شرط في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من
شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب، وقال مالك: ينعقد
بالقول ويجبر على القبض كالبيع. إلى قوله: فمالك، القبض عنده في الهبة من
شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط
الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها
أصلاً، لا من شروط تمام ولا من شروط صحة. اهـ
فأي الأصح من هذه الأقوال المختلفة فيها؟ القول باشتراط القبض؟ أم القول
بعدم اشتراطه؟ وهل يصح أن يحتج من اشترط القبض في الهبة بحديث أبي بكر
أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقًا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله
يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك. ولا أعز علي فقرًا بعدي منك.
وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقًا، فلو كنت جذذتيه واختزنتيه كان لك، وإنما
هو اليوم مال ورث؟ وهل صح ما استدلوا به على أن القبض شرط في صحة الهبة
من خبر أنه صلى الله عليه وسلم أهدى للنجاشي ثلاثين أوقية مسكًا فمات قبل أن
يصل إليه فقسمه صلى الله عليه وسلم بين نسائه؟
هذا وأرجو فضيلتكم بيان هذه المسائل على قاعدة: (درء المفاسد مقدم على
جلب المصالح) . ... ... ... ... ... (م. ب. ع) ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... تحليف القاضي والشهود
(ج) القول بأن تحليف القاضي والشهود لا يجوز شرعًا لما ذكر من العلل
لم يظهر لنا وجه صحته، فقولهم: إن ذلك ما يأباه منصبهما، لا نعرف له مستندًا
في الكتاب والسنة، وما يليق بالمنصب وما لا يليق به ليس أمرًا ثابتًا مطردًا دائمًا؛
بل هو مما يختلف باختلاف العرف والعادة ويتغير آنًا بعد آن، كما يعهد من الناس
في الأمكنة المختلفة والأزمان. مثال ذلك أن العرف والعادة في مصر والآستانة
والشام أن لا يخرج القاضي الشرعي والمفتي وكبار العلماء إلى زيارة أحد بغير
عمامة، وهذه عادة قديمة حتى عند بعض العلماء من أعذار ترك الجمعة والجماعة
فقد العمامة اللائقة بأمثال هؤلاء. ولكن هذه العادة لا تلتزم في الهند؛ فقد يخرج
كبار العلماء من بيوتهم إلى زيارة بعض الإخوان بغير عمائم، وإنما يضعون على
رؤوسهم نوعًا من الكُمات الرقيقة: (الكُمة - بالضم - شيء مستدير يوضع
على الرأس ومنه ما يسمى في مصر طاقية وفي غيرها عراقية) وقد ورد أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع بعض أصحابه لزيارة وليس على
رؤوسهم شيء.
وقولهم: إن التحليف كالطعن في الشهادة أو الحكم، فممنوع، وقد يقال: إنه
تأكيد لهما، وأما قولهم: إن القاضي والشاهد يمتنعان من القضاء والشهادة إذا علما
أنهما يحلفان، فهو من النظريات المنقوضة بما عليه عمل كثير من الأمم الآن.
فالحكومة العثمانية والحكومة المصرية قد جرتا على تحليف الشهود ولم يمتنعوا،
وعلى تحليف من تسند إليهم المناصب الكبيرة يمين الإخلاص لرئيس الحكومة
(السلطان) ولو قالوا: إن التحليف لمن ذكر لا يجب شرعًا، لَمَا وجدنا إلى
مخالفتهم سبيلاً؛ ولكن نفي الجواز لا يسلم إلا بدليل شرعي.
هذا وإن لتأكيد الشهود شهادتهما بالقسم أصلاً في القرآن كما ترى في شهادة
الوصية {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناًّ} (المائدة: ١٠٦)
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} (المائدة: ١٠٧) وقد قال تعالى بعد
بيان أحكام هذه الشهادة معللاً لها: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} (المائدة: ١٠٨) إلخ وسيأتي في التفسير قريبًا إن شاء الله تعالى.
***
الهبة وما يشترط فيها
معنى الهبة عند الجمهور: تمليك بلا عوض، ويرى بعضهم أنه يدخل
في عمومها الإبراء من الدين والهدية والصدقة، وإنما يخص بعض الأنواع باسم
لإفادة المعنى الخاص الذي انفرد به عن سائر الأنواع، فالصدقة هبة يراد بها
ثواب الآخرة والأصل فيها أن تكون للمحتاج. والهدية هبة يراد التودد بها إلى المُهدى
إليه، وتكون بين الأغنياء والفقراء؛ لأن التودد يكون بين جميع أصناف
الناس.
والعمدة فيها العرف؛ فما تعارف الناس عليه كان صحيحًا شرعًا ما لم يكن
مخالفًا للشرع. وتحصل بالإيجاب القولي من الواهب والقبول القولي من الموهوب
له كما تحصل بالتعاطي وهو إيجاب وقبول بالفعل. وهي تتحقق بالقبض قطعًا.
وعدم القبض قد يكون ردًّا وقد يكون توانيًا. فهو جدير بأن يختلف فيه. وليس في
الباب نصوص عن الشارع كلف الناس اتباعها في طرق التمليك والتملك. والحديث
في هدية النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي جارٍ على مسألة العرف وتحقق الهبة
بالفعل أو عدم تحققها، وهو في مسند أحمد من حديث أم كلثوم بنت أبي سليمة،
وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي اختلف في توثيقه وتضعيفه. وأم موسى بنت
عقبة، قال في مجمع الزوائد: لا أعرفها.
وأما أثر عائشة فقد رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن عروة
عنها، وروى البيهقي نحوه عن مالك وغيره. وظاهر الأثر أن عائشة لم تقبل نحلة
أبيها فبقيت في يده إلى أن أدركته الوفاة فذكر لها أنه يتركها إرثًا. وأن هذا ليس من
باب الاعتصار، وهو رجوع الوالد بما يهبه للولد في حياته، وهو جائز عند أكثر
الفقهاء.
وما قاله ابن رشد - من أن الهبة لا بد فيها من الإيجاب والقبول عند الجميع -
فهو غير صحيح إذا أراد بهما الصيغة باللسان أو الكتابة، فقد نقل العلماء الخلاف
في ذلك كالحافظ ابن حجر والإمام الشوكاني وغيره. وتجد تحرير هذه المسألة
بدلائلها في جميع العقود في المبحث النفيس الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في
مسألة العقود، فراجعه في المجلد الثالث من مجوعة فتاواه المطبوعة بمصر،
وخص بالتأمل الوجه الثالث في ص ٢٧٢ - ٢٧٤.