للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين
منزلة المحبة

فصل [١]
وهي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى
عَلَمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وَبِرَوْحِ نسيمها تروّح العابدون،
فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو
من جملة الأموات، والنور الذي مَن فقده ففي بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن
عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام،
وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي
كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس
بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوئهم من مقاعد
الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم في
ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من
قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفر
نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء
مع من أحب، فيالها نعمة على المحبين سابغة! تالله لقد سبق القوم السعادةَ وهم
على ظهور الفرش نائمون. ولقد تقدموا الركب بمراحل، وهم في سيرهم واقفون.
مَن لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدًا وتجي في الأول
أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم: حي على الفلاح! وبذلوا نفوسهم في طلب
الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضا والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج
والغدو بالرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم، وشكروا مولاهم على ما
أعطاهم، وإنما يحمد القوم السرى عن الصباح.
فحيهلا إن كنت ذا همةٍ فقدْ ... حدا بك حادي الشوقِ فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... إذا ما دعا (لبيك) ألفاً كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ... نظرتَ إلى الأطلال عُدْنَ حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ... ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادًا إليهم وسِرْ على ... طريق الهدى والفقر تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سرا إذا ونت ... ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها ... أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبسًا من نورهم ثُم سَرْ به ... فنورهم يهديك ليس المشاعلا [٢]
وحي على وادِ الأراك فقل به ... عساك تراهم فيه إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عند معرَف الـ ... أحبة فاطلبهم إذا كانت سائلا
وإلا ففي جمعٍ [٣] بليته فإن ... تفت فمتى؟ يا ويح مَن كان غافلا
وحي على جناتِ عدن بقربهم ... منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سَبَاكَ الكاشحون لأجل ذا ... وقفت على الأطلال تبكي المُنازلا
فدعها رسومًا دارسات فما بها ... مقيل فجازوها فليست منازلا
رسوم عفت تفنى بها الخلق كم بها ... فقيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا [٤]
وخذ يُمنةً عنها على المنهج الذي ... عليه سرى وفد المحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح، فما للمفلس الجبان البخيل وسومها؟
بدم المحب يباع وصلهم ... فمَن الذي يبتاع بالثمن
تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة [٥] المعسرون،
لقد أقيمت للعرض في سوق مَن يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس،
فتأخر البطّالون، وقام المحبون ينظرون، أيهم يصلح أن يكون ثمناً، فدارت السلعة
بينهم ووقعت في يد {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ} (المائدة: ٥٤) .
لما كثُر المدّعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى
الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا
تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل
عمران: ٣١) فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه،
فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: ٥٤) فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين
وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم
بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: ١١١) فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة
من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأنًا، فرَأَوْا مِن أعظم
الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير
ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك. فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل
لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها
معها {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (آل عمران: ١٦٩-١٧٠) .
إذا غرست شجرة المحبة في القلب وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب
أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب،
وفرعها متصل بسدرة المنتهى، لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه لا يحجبه
دونه شيء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: ١٠) .
***
فصل
لا تُحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها
وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في
أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم
دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات بحسب إدراك
الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة. وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة
أشياء:
(أحدها) : الصفاء والبياض. ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها:
حَبَب الأسنان.
(الثاني) : العلو والظهور، ومنه: حَبَبُ الماء وحُبابه، وهو ما يعلوه عند
المطر الشديد، وحبب الكأس منه.
(الثالث) : اللزوم والثبات، ومنه: حَبّ البعير وأحب: إذا برك ولم
يقم [٦] قال الشاعر:
حلت عليه بالفلاة ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبا
(الرابع) : اللب ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة لواحدة الحبوب [٧]
إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.
(الخامس) : الحفظ والإمساك. ومنه: حب الماء، للوعاء الذي يحفظ فيه
ويمسكه، وفيه معنى الثبوت أيضًا.
ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة، فإنها صفاء المودة وهيجان إرادات
القلب للمحبوب، وعُلوّها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة
القلب للمحبوب ولزومها لزومًا لا تفارق [٨] ولإعطاء المحب محبوبه لبَّه
وأشرف ما عنده وهو قلبه، ولاجتماع عزماته وإراداته وهمومه على محبوبه.
فاجتمعت فيها المعاني الخمسة ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية
المناسبة، الحاء التي هي من أقصي الحلق، والباء الشفهية التي هي نهايته،
فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن
ابتداءها منه وانتهاءها إليه. وقالوا في فعلها [٩] حبَّه وأحبَّه قال الشاعر:
أحب أبا ثروان من حب تمرة ... ولم تعلم أن الرفق بالجار أرفق [١٠]
فوالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدني من عبيد ومِشرق
ثم اقتصروا على اسم الفاعل من (أحب) فقالوا: مُحِب، ولم يقولوا حاب،
واقتصروا على اسم المفعول من (حب) فقالوا: محبوب، ولم يقولوا: مُحَب،
إلا قليلاً كما قال الشاعر:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المُحَب المكرَم
وأعطوا الحب حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة
حركة مسماه وقوتها، وأعطوا الحِب - وهو المحبوب - حركة الكسر لخفتها عن
الضمة وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم، مع إعطائه حكم نظائره كنِهب
بمعنى منهوب، وذِبح بمعنى مذبوح وحِمل للمحمول - بخلاف الحمل الذي هو
مصدر - لخفته، ثم ألحقوا به حملاً لا يشق على حامله حمله كحمل الشجرة والولد،
فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العحيبة بين الألفاظ والمعاني، تُطلعك على
قدر هذه اللغة وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات.
***
فصل
في ذكر رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام
على ما يُحتاج إليه منها [١١] .
(الأول) : قيل: المحبة: الميل الدائم، بالقلب الهائم، وهذا الحد لا تمييز
فيه بين المحبة الخاصة والمشتركة والصحيحة والمعلولة.
(الثاني) : إيثار المحبوب، على جميع المصحوب، وهذا حكم من أحكام
المحبة وأثر من آثارها.
(الثالث) : موافقة الحبيب، في المشهد والمغيب، وهذا أيضًا موجبها
ومقتضاها، وهو أكمل من الحدين قبله، فإنه يتناول المحبة الصادقة الصحيحة
خاصة، بخلاف مجرد الميل والإيثار بالإرادة؛ فإنه إن لم تصحبه موافقة فمحبته
معلولة.
(الرابع) : مَحْو المحب لصفاته، وإثبات المحبوب لذاته، وهذا أيضًا من
أحكام الفناء في المحبة، أن تنمحي صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته،
وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه، وأخذه منه.
(الخامس) : مواطأة القلب لمرادات المحبوب، وهذا أيضًاً من موجباتها
وأحكامها، والمواطأة: الموافقة لمرادات المحبوب وأوامره ومراضيه.
(السادس) : خوف ترك الحرمة، مع إقامة الخدمة، وهذا أيضًا من
أعلامها وشواهدها وآثارها، أن يقوم بالخدمة كما ينبغي مع خوفه مِن ترك الحرمة
والتعظيم.
(السابع) : استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك. وهذا
قول أبي يزيد، وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها وشواهدها، والمحب الصادق لو
بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيا منه، ولو ناله من محبوبه
أيسر شيء لاستكثره واستعظمه.
(الثامن) : استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك، وهو
قريب من الذي قبله؛ لكنه مخصوص بما هو من المحب.
(التاسع) : معانقة الطاعة، ومباينة المخالفة. وهو لسهل بن عبد الله،
وهو أيضًا حكم المحبة وموجبها.
(العاشر) : دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب. وهو
للجنيد. وفيه غموض، ومراده استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب
المحب؛ حتى لا يكون الغالب عليه إلا ذلك، ولا يكون شعوره وإحساسه في الغالب
إلا بها، فيصير شعوره وإحساسه به بدلاً من شعوره وإحساسه بصفات نفسه، وقد
يحتمل معنى أشرف من هذا، وهو تبدل صفات المحب الذميمة التي لا توافق
صفات المحبوب بالصفات الجميلة التي توافق صفاته والله أعلم.
(الحادي عشر) : أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء، وهو
لأبي عبد الله القرشي. وهو أيضًا من موجبات المحبة وأحكامها، والمراد أن تهب
إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسًا في
مرضاته ومحابه، فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك فتأخذه منه له.
(الثاني عشر) : أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب. وهو للشبلي،
وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه مادامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة
مدخولة.
(الثالث عشر) : إقامة العتاب على الدوام. وهو لابن عطاء. وفيه
غموض؛ ومراده أن لا تزال عاتبًا على نفسك في مرضاة المحبوب، وأن لا
ترضى له فيها [١٢] عملاً ولا حالة.
(الرابع عشر) : أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك. وهو للشبلي أيضًا،
وفيه كلام سنذكره إن شاء الله في منزلة الغيرة، ومراده: احتقارك لنفسك أو
استصغارها أن يكون مثلك من محبيه.
(الخامس عشر) : إرادة غرست أغصانها في القلب فأثمرت الموافقة
والطاعة.
(السادس عشر) : أن ينسى المحب حظَّه في محبوبه، وينسى حوائجه
إليه. وهو لأبي يعقوب السوسي، ومراده أن استيلاء سلطانها على قلبه غيب عن
حظوظه وعن حوائجه، واندرجت كلها في حكم المحبة.
(السابع عشر) : مجانبة السلو على كل حال. وهو للنصرأبازي، وهو
أيضًا من لوازمها وثمراتها كما قيل:
مرت بأرجاء الخيال طيوفه ... فبكت على رسم السلو الدارس
(الثامن عشر) : توحيد المحبوب بخالص الإرادة وصدق الطلب.
(التاسع عشر) : سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب، وهو لمحمد
ابن الفضل، ومراده: توحيد المحبوب بالمحبة.
(العشرون) : غض طرف القلب [١٣] عما سوى المحبوب غيرة، وعن
المحبوب هيبة. وهذا يحتاج إلى تبيين: أما الأول فظاهر. وأما الثاني فإن غض
طرف القلب عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء الهيبة
يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم، وقد قيل: إن
هذا تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك للشيء يعمي ويصم) أي يعميه
عمَّا سواه غيرة، وعنه هيبة. وليس هذا مراد الحديث، ولكن المراد به أن حبك
للشيء يعمي ويصم عن تأمل قبائحه ومساويه، فلا تراها ولا تسمعها وإن كانت فيه،
وليس المراد به ذكر المحبة المطلوبة المعلقة بالرب، ولا يقال في حب الرب
تبارك وتعالى: حبك الشيء، ولا يوصف صاحبها بالعمى والصمم. ونحن لا ننكر
المرتبتين المذكورتين، فإن المحب قد يعمى ويصم عنه بالهيبة [١٤] والإجلال ولكن
لا توصف محبة العبد لربه تعالى بذلك، وليس أهلها من أهل العمى والصمم؛ بل
هم أهل الأسماع والأبصار على الحقيقة، ومَن سواهم هم الصم البكم العمي الذين لا
يعقلون.
(الحادي والعشرون) : ميلك للشي بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك
وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه. قال
الجنيد: سمعت الحارث المحاسبي رحمه الله يقول ذلك.
(الثاني والعشرون) : المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: لُمْتُ بعضَ المباحية فقال لي
ذلك، ثم قال: والكون كله مراده، فأي شيء أُبْغِضُ منه؟ فقال الشيخ: قلت له: إذا
كان المحبوب قد أبغض أفعالاً وأقوالاً وأقوامًا وعاداهم فطردهم ولعنهم فأحببتهم أنت،
أكنت مواليًا للمحبوب أو معاديًا له - قال: فكأنما أُلْقِمَ حجرًا، وافتضح بين أصحابه،
وكان مقدمًا فيهم مشارًا إليه.
وهذا الحد صحيح، وقائله إنما أراد أنها تحرق من القلب ما سوى مراد
المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه، لا المراد الذي قدّره وقضاه؛ لكن لقلة
حظ المتأخرين منهم وغيرهم من العلم وقعوا فيما وقعوا فيه من الإباحة والحلول
والاتحاد، والمعصوم من عصمه الله.
(الثالث والعشرون) : المحبة بذل المجهود، وترك الاعتراض على
المحبوب، وهذا أيضًا من حقوقها وثمراتها وموجباتها.
(الرابع والعشرون) : سُكْر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم
السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد:
فأسكر القوم دور الكأس بينهم ... لكن سكري نشا من رؤية الساقي
وينبغي صون المحبة والحبيب عن هذه الألفاظ التي غاية صاحبها أن يُعذر
بصدقه وغلبة الوارد عليه وقهره له، فمحبة الله أعلى وأجل من أن تضرب لها هذه
الأمثال، وتجعل عرضه للأفواه المتلوثة، والألفاظ المبتدعة، ولكن الصادق في
خفارة صدقة.
(الخامس والعشرون) : أن لا يؤثر على المحبوب غيره، وأن لا يتولى
أمورك غيره.
(السادس والعشرون) : الدخول تحت رق المحبوب وعبوديته، والحرية
من استرقاق ما سواه.
(السابع والعشرون) : المحبة سَفَرُ القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان
بذكره على الدوام. قلت: أما سَفَرُ القلب في طلب المحبوب فهو الشوق إلى لقائه،
وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن مَن أحبَّ شيئًا أكثر من ذكره.
(الثامن والعشرون) : أن المحبة هي ما لا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر.
وهي ليحيى بن معاذ، بل الإرادة والطلب والشوق إلى المحبوب لذاته، فلا ينقص
ذلك جفاؤه ولا يزيده برّه، وفي ذلك ما فيه؛ فإن المحبة الذاتية تزيد بالبر ولا
تنقصها زيادتها بالبر، وليس ذلك بعلة؛ ولكن مراد يحيى أن القلب قد امتلأ بالمحبة
الذاتية، فإذا جاء البر من محبوبه لم يجد في القلب مكانًا خاليًا من حبه تشغله محبة
البر؛ بل تلك المحبة قد استحقت عليه بالذات بلا سبب، ومع هذا فلا يزيل الوهم،
فإن المحبة لا نهاية لها، وكلما قويت المعرفة والبر قويت المحبة، ولا نهاية لجمال
المحبوب ولا بره، فلا نهاية لمحبته، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم وكانت على
قلب رجل واحد منهم كان ذلك دون ما يستحقه الرب جلا جلاله. ولهذا لا تسمى
محبة العبد لربه عشقًا - كما سيأتي - لأنه إفراط المحبة، والعبد لا يصل في محبة
الله إلى حد الإفراط ألبتة، والله أعلم.
(التاسع والعشرون) : المحبة أن تكون كلك بالمحبوب مشغولاًَ، وذُلُّك له
مبذولاً.
(الثلاثون) : وهو من أجمع ما قيل فيها - قال أبو بكر الكتاني رحمه الله:
جرت مسئلة في المحبة بمكة - أعزها الله تعالى - أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها
وكان [١٥] الجنيد أصغرهم سنًّا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه
ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب [١٦] عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء
حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته وصفاء شربه من كأس وده،
وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن
تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله. فبكى الشيوخ وقالوا:
ما على هذا مزيد، جزاك [١٧] الله يا تاج العارفين.
***
فصل
في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة:
(أحدها) : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب
الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
(الثاني) : التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة
المحبوبية بعد المحبة.
(الثالث) : دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال،
فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
(الرابع) : إيثار محابّه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه
وإن صعُب المرتقى.
(الخامس) : مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه
في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمَن عَرَفَ اللهَ بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا
محالة، ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطَّاع الطريق على القلوب،
بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
(السادس) : مشاهدة برّه وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها
داعية إلى محبته.
(السابع) : وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يديه تعالى،
وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
(الثامن) : الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف
بالقلب والتأدب بين يديه، ثُمَّ ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
(التاسع) : مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما
ينتقى أطايب الثمر. ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدًا
لحالك ومنفعة لغيرك.
(العاشر) : مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على
الحبيب، ومِلاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة.
وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))