للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي


تابع لمقالة
الفرق بين البدع
والمصالح المرسلة والاستحسان

فصل [*]
فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العلمي في المصالح المرسلة وتبين لك
اعتبار أمور.
(أحدها) : الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تُنافي أصلاً من أصوله ولا
دليلاً من دلائله.
و (الثاني) : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون
المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في
التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها
معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره،
والحج، ونحو ذلك.
فليتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات
التفصيلية.
ألا ترى أن الطهارات على اختلاف أنواعها قد اختص كل نوع منها بتعبد
مخالف جدًّا لما يظهر لبادي الرأي؟ فإنَّ البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما
تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط، ودون جميع المخرج فقط، ودون
أعضاء الوضوء [١] .
ثُمَّ إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء، وغير واجب في قذارتها بالأوساخ
والأدران، إذا فرض أنه لم يُحدِث.
ثم التراب - ومن شأنه التلويث - يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف.
ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها
لاستواء الأوقات في ذلك.
وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها، فإذا أقيمت
ابتدأت إقامتها بأذكار أيضًا، ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات، وكل
ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على
غير ذلك، ثُم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد؛ فإذا
دخل المتطهر المسجد أُمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالوتر، أو أربع كالظهر،
فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة، وإذا قرأ سجدة سجد واحدة دون
اثنتين.
ثم أُمر بصلاة النوافل ونهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، وعلل النهي
بأمر غير معقول المعنى، ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف
والاستسقاء، دون صلاة الليل ورواتب النوافل.
فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولاً؛ لأنه غير مكلف، ثم
أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد، والتكبير أربع تكبيرات
دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد.
فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرًا، كإمساك
النهار دون الليل، والإمساك عن المأكولات والمشروبات، دون الملبوسات
والمركوبات، والنظر والمشي والكلام وأشباه ذلك؛ وكان الجماع - وهو راجع إلى
الإخراج - كالمأكول وهو راجع إلي الضد؛ وكان شهر رمضان - وإن كان قد
أنزل فيه القرآن - ولم يكن أيام الجمع، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس،
أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ثم الحج أكثر تعبدًا من الجميع.
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا (؟) إن في
هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قد قصده ونحا نحوه واعتبرت
جهته، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده
ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه، سواء
علينا أقلنا: إن التكاليف معللة بمصالح العباد، أم لم نقله، اللهم إلا قليلاً من مسائلها
ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين
المنصوص عليه والمسكوت عنه، فلا حرج حينئذٍ. فإن أشكل الأمر فلا بد من
الرجوع إلى ذلك الأصل، فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى.
ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدُوهَا، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا
الله يا معشر القراء، وخذوا بطريق من كان قبلكم. ونحوه لابن مسعود أيضًا وقد
تقدم من ذلك كثير.
ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني، وإن ظهرت لبادي
الرأي، وقوفًا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه، فلم
يلتفت في إزالة الأخباث، ورفع الأحداث، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره،
حتى اشترط في رفع الإحداث النية، ولم يقم غير الماء مقامه عنده -
وإن حصلت النظافة - حتى يكون بالماء المطلق، وامتنع من إقامة غير التكبير
والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء، ومنع من إخراج
القيم في الزكاة، واختصر في الكفارات على مراعاة العدد، وما أشبه ذلك.
ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى
مناسب - إن تُصور - لقلة ذلك في التعبدات وندوره، بخلاف قسم العادات الذي
هو جارٍ على المعني المناسب الظاهر للعقول، فإنه استرسل فيه استرسال المدل
العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج
عنه ولا يناقض أصلاً من أصوله، حتى لقد استشنع العلماء كثيرًا من وجوه
استرساله، زاعمين أنه خلع الربقة، وفتح باب التشريع. وهيهات ما أبعده من ذلك!
رحمه الله؛ بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع بحيث يخيل للبعض أنه
مقلد لمن قبله؛ بل هو صاحب البصيرة في دين الله حسبما بيّن أصحابه في
كتاب سيره.
بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا رأيت الرجل يبغض مالكًا فاعلم أنه
مبتدع. وهذه غاية في الشهادة بالاتباع، وقال أبو داود: أخشى عليه البدعة. (يعني
المبغض لمالك) قال ابن مهدي: إذا رأيت أحدًا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة
وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام: ما سمعت أبا داود لعن أحدًا قط إلا رجلين: أحدهما
رجل ذكر له أنه لعن مالكًا، والآخر بشر المريسي.
وعلى الجملة فغير مالك أيضًا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية
المعنى، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، فالأصل متفق عليه عند الأكمة، ما عدا
الظاهرية، فإنهم لا يفرّقون بين العبادات والعادات؛ بل الكل تعبد غير معقول
المعنى، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلاً عن أن يعتقدوا المصالح
المرسلة.
و (الثالث) : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري
ورفع حرج لازم في الدين، أيضًا مرجعها إلى حفظ الضروري، من باب: (ما
لا يتم الواجب إلا به) فهي إذًا من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع
الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر
من الأمثلة المذكورة وكذلك رجوعها إلى دفع حرج لازم، وهو إما لاحقٌ
بالضروري وأما من الحاجي، وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى
التقبيح والتزيين ألبتة. فإن جاء من ذلك شيء: فإما من باب آخر منها، كقيام
رمضان في المساجد جماعة - حسبما تقدم - وإما معدود من قبيل البدع التي أنكرها
السلف الصالح - كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة - وهو من قبيل ما يلائم.
وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل، و (ما لا يتم الواجب إلا به ... )
إن نص على اشتراطه، فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب؛ لأن نص
الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه.
وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي، فلا يلزم أن يكون
شرعيًّا، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة، فإنَّا لو فرضنا حفظ القرآن
والعلم بغير كتب مطَّرِدًا لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا
حفظها، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير
عدم النص بها لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية - إذا ثبت هذا - لم
يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل.
وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضًا، وهو أقوى في الدليل
الرافع للحرج، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف، والأمثلة مبينة لهذا
الأصل أيضًا.
إذا تقررت هذه الشروط عُلم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن
موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل، والتعبدات من حقيقتها أن
لا يعقل معناها على التفصيل، وقد مرّ أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما
يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق.
وأيضًا فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع، بل إنما تتصور
على أحد وجهين: إما مناقِضة لمقصوده - كما تقدم في مسألة المفتي للملِك بصيام
شهرين متتابعين - وإما مسكوتًا عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده
على تقدير عدم النص به، وقد تقدم نقل الإجماع على اطِّراح القسمين، وعدم
اعتبارهما، ولا يقال: إن السكوت عنه يلحق بالمأذون فيه؛ إذ يلزم من ذلك خرق
الإجماع لعدم الملاءمة؛ ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت
عنه كالمأذون فيه إن قيل بذلك، فهي تفارقها؛ إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا
أصل لها؛ لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرّح به بخلاف العادات، والفرق
بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة، وعدم اهتدائها لوجوه التقرّبات
إلى الله تعالى وقد أشير إلى هذا المعني في كتاب الموافقات وإلى هذا (؟) .
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل،
أو إلى الخفيف، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات؛ لأن
البدع من باب الوسائل؛ لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة في التكليف، وهو
مضاد للتخفيف.
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم
الملغى باتفاق العلماء، وحسبك به متعلقاً، والله الموفق.
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد،
فلم يبق إلا الوقوف عند ما حدّه، والزيادة عليه بدعة، كما أن النقصان منه بدعة
وقد مرّ لهما أمثلة كثيرة، وسيأتي آخرًا في أثناء الكتاب بحول الله.
***
فصل
وأما الاستحسان، فلأن لأهل البدع أيضًا تعلقًا به: فإن الاستحسان لا يكون
إلا بمستحسِن، وهو إما العقل أو الشرع.
أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما؛ لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا
فائدة لتسميته استحسانًا، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع،
وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال. فلم يبق إلا العقل هو المستحسِن، فإن كان
بدليل فلا فائدة لهذه التسمية، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها، وإن كان بغير
دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن.
ويشهد [٢] قول مَن قال في الاستحسان أنه يستحسنه [٣] المجتهد بعقله، ويميل
إليه برأيه (قالوا) : وهو عند هؤلاء من جنسِ ما يستحسن في العوائد، وتميل
إليه الطِّبَاع، فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما
بيّن (؟) إن ثَمَّ من التعبدات ما لا يكون عليه دليل، وهو الذي يسمى بالبدعة،
فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح؛ إذ ليس كل استحسان حقًّا.
وأيضًا فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان، وهو أن
المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره.
وهذا التأويل، فالاستحسان يساعده لبعده، لأنه يبعد في مجاري العادات أن يبتدع
أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له؛ بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق
دليل شرعي؛ لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه - وهو الأغلب - فهذا ممَّا يحتجُّون
به.
وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون،
وقد أَتوا بثلاثة أدلة:
(أحدها) : قول الله سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} (الزمر:
٥٥) وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: ٢٣) وقوله: {فَبِشِّرْ
عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: ١٧-١٨) هو ما
تستحسنه عقولهم.
(والثاني) : قوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنًَا فهو عند الله
حسن) .
وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم، وإلا لو كان حسنه بالدليل الشرعي لم يكن
من أحسن ما يرون؛ إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم، فلم يكن
للحديث فائدة، فدل على أن المراد ما رأوه برأيهم.
و (الثالث) : أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا
تقدير مدة اللبث ولا تقرير الماء المستعمل، ولا سبب لذلك إلا أن المشاحة في مثله
قبيحة في العادة، فاستحسن الناس تركه، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة [٤] أو
مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جُهل فإنه ممنوع، وقد استحسنت إجارته مع
مخالفة الدليل، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلاً.
فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضًا لمن أراد أن يبتدع، فله أن يقول:
إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء قد استحسن.
وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفصل؛ حتى لا يغتر به جاهل أو
زاعم أنه عالم، وبالله التوفيق، فنقول:
إن الاستحسان يراه معتبرًا في الأحكام مالك وأبو حنيفة، بخلاف الشافعي
فإنه منكِر له جدًّا حتى قال: (مَن استحسن فقد شرع) والذي يستقرى من
مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين، هكذا قال ابن العربي (قال)
فالعموم إذا استمر، والقياس إذا أطرد، فإن مالكًا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم
بأي دليل كان من ظاهر أو معنى (قال) ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة،
ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس
(قال) ويريان معًا تخصيص القياس ونقص العلة، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا
ثبتت تخصيصًا.
هذا ما قال ابن العربي ويشعر بذلك تفسير الكرخي أنه العدول عن الحكم في
المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى. وقال بعض الحنفية: إنه القياس
الذي يجب العمل به؛ لأن العلة كانت علة بأثرها، سموا الضعيف الأثر:
قياسًا، والقوي الأثر: استحسانًا، أي: قياسًا مستحسنًا، وكأنه نوع من العمل بأقوى
القياسين.
وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهية.
بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم، ورواه أصبغ عن ابن
القاسم عن مالك، قال أصبغ في الاستحسان: قد يكون أغلب من القياس. وجاء عن
مالك أن المفرق في القياس يكاد يفارق السنة [٥] .
وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبلُ، وأنه ما يستحسنه
المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه؛ فإن مثل
هذا لا يكون تسعة أعشار العلم، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة.
وقال ابن العربي في موضع آخر: الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل،
على طريق الاستثناء والترخص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته.
وقسمه أقسامًا عد منها أربعة أقسام، وهي ترك الدليل للعرف وتركه للمصلحة،
وتركه لليسير، لرفع المشقة، وإيثار التوسعة [٦] .
وحدّه غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك: استعمال مصلحة
جزئية في مقابلة قياس كلي. (قال) فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس.
وعرفه ابن رشد فقال: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعمّ من
القياس هو أن يكون طرحًا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه
في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.
وهذه تعريفات قريب بعضها من بعض.
وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة ألبتة؛ لأن
الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضًا، كما في الأدلة السنية مع القرآنية، ولا
يرد الشافعي مثل هذا أصلاً فلا حجة في تسميته استحسانًا لمبتدع [٧] على حال.
ولا بد من الإتيان بأمثلة تبين المقصود بحول الله، ونقتصر على عشرة
أمثلة:
(أحدها) : أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب، كقوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: ١٠٣) فظاهر اللفظ
العموم في جميع ما يتمول به، وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية
خاصة، فلو قال قائل: مالي صدقة. فظاهر لفظه يعم كل مال، ولكنا نحمله على
مال الزكاة، لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب. قال العلماء: وكأن هذا يرجع إلى
تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن وهذا المثال أورده الكرخي تمثيلاً لما
قاله في الاستحسان.
و (الثاني) : أن يقول الحنفي: سؤر سباع الطير نجس، قياسًا على سباع
البهائم، وهذا ظاهر الأثر، ولكنه ظاهر استحسانًا؛ لأن السبع ليس بنجس العين؛
ولكن لضرورة تحريم لحمه، فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه. وإذا كان
كذلك فارقه الطير؛ لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه، فوجب الحكم بطهارة
سؤره؛ لأن هذا أثر قوي وإن خفي، فترجح على الأول، وإن كان أمره جليًّا،
والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه.
و (الثالث) : أن أبا حنيفة قال: إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عين
كل واحد غير الجهة التي عينها (الآخر) فالقياس أن لا يحد، ولكن استحسن
حده ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة. فإذا عيَّن كلُّ واحد دارًا، فلم
يأت على كل مرتبة بأربعة لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة فإذا عيَّن كل واحد
زاوية فالظاهر تعدد الفعل، ويمكن التزاحف.
فإذا قال: القياس أن لا يحد فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا
واحد، ولكنه يقول [٨] في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول؛ فإنه إن لم يكن
محدودًا صار الشهود فسقة، ولا سبيل إلى [٩] ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلاً.
فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان
البعيد، فليس هذا حكمًا بالقياس، وإنما [١٠] تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن،
وهذا يرجع في الحقيقة إلى تحقيق مناطه.
و (الرابع) : أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف؛ فإنه رد
الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه، كقوله: والله
لا دخلت مع فلان بيتًا، فهو يحنث [١١] بدخول كل موضع يسمى بيتًا في اللغة،
والمسجد يسمى بيتًا فيحنث على ذلك، إلا إن كان عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ
عليه، فخرج بالعرف على [١٢] مقتضى اللفظ فلا يحنث.
و (الخامس) : ترك الدليل لمصلحة، كما في تضمين الأجير المشترك وإن
لم يكن صانعًا، فإن مذهب مالك في هذه المسئلة على قولين، كتضمين صاحب
الحمام الثياب، وتضمين صاحب السفينة، وتضمين السماسرة المشتركين، وكذلك
حمال الطعام - على رأي مالك فإنه ضامن، ولا حق عنده بالصناع. والسبب في
ذلك عين السبب في تضمين الصناع.
فإن قيل: فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان.
قلنا: نعم: إلا أنهم صوَّروا الاستحسان تصور الاستثناء [١٣] من القواعد،
بخلاف المصالح المرسلة. ومثل ذلك يتصور في مسئلة التضمين، فإن الأجراء
مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية، فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك
الدليل، فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر.
و (السادس) : أنهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب
بغلة القاضي، يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها.
ووجه ذلك ظاهر، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب، وقد امتنع
ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم
العدم، فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع. وهو متجه بحسب الغرض الخاص،
وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة؛ لكن استحسنا ما تقدم.
وهذا الإجماع مما ينظر فيه، فإن المسئلة ذات قولين في المذهب وغيره،
ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب.
و (السابع) : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة،
وإيثار التوسعة على الخلق، فقد أجازوا التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة،
وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعاً للآخر، وأجازوا بدل الدرهم الناقص
بالوازن [١٤] لنزارة ما بينهما. والأصل المنع في الجميع، لما في الحديث من أن
الفضة بالفضة والذهب بالذهب مِثْلاً بمثل سواءً بسواء، وأن من زاد أو ازداد فقد
أربى، ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم؛ ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في
الغالب، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة، وهما مرفوعان عن
المكلف.
و (الثامن) : أن في التبعية من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في
طُهر واحد فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر - أنه يكشف منكر الولد عن
وطئه الذي أقرَّ به، فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره،
وكان كما لو اشتركا فيه، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقرَّ به، فقال
أصبغ:
إني أستحسن هاهنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواءً، فلعله غلب ولا
يدري، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا: (إن الوكاء قد ينقلب) قال
والاستحسان هاهنا أن ألحقه بالآخر، والقياس أن يكونا في العلم قد يكون أغلب من
القياس (؟) ثم حكي عن مالك ما تقدم.
ووجه ذلك ابن رشد بأن الأصل: من وطئ أمته فعزل عنها وأتت الآخر الذي
لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كانا جميعًا يعزلان أو ينزلان.
والاستحسان - كما قال - أن يلحق الولد بالذي ادَّعاه وأقرَّ أنه كان ينزل، وتبرَّأ منه
الذي أنكره وادعى أنَّه كان يعزل؛ لأن الولد يكون مع الإنزال غالبًا، ولا يكون مع
العزل إلا نادرًا، فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادَّعاه وكان ينزل، لا
الذي أنكره وهو يعزل، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام، وله في الحكم تأثير،
فوجب أن يصار إليه استحسانًا - كما قل أصبغ - وهو ظاهر فيما نحن فيه.
و (التاسع) : ما تقدم أولاً من أن الأُمَّة استحسنت دخول الحمام من غير
تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل. والأصل في هذا المنع؛
إلا أنهم أجازوا - لا كما قال المحتجون على البدع، بل لأمر آخر هو من هذا
القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة، فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره، فلا
حاجة إلى التقدير، وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدرًا
بالعرف أيضًا؛ فإنه يسقط للضرورة إليه. وذلك لقاعدة فقهية، وهي أنَّ نفي جميع
الغرر في العقود لا يقدر عليه، وهو يضيق أبواب المعاملات، وهو تحسيم أبواب
المفاوضات (؟) ونفي الضرر إنما يطلب تكميلاً ورفعًا لما عسى أن يقع مِن نزاع،
فهو من الأمور المكمِّلة، والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى إبطال المكملات
سقطت جملة، تحصيلاً للمهم - حسبما تبيَّن في الأصول - فوجب أن يسامح في
بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها؛ إذ يشق طلب الانفكاك عنها، فسومح
المكلف بيسير الغرر، لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل مِن الغرض [١٥] ولم
يسامح في كثيره إذ ليس في محل الضرورة، ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر،
لكن الفرق بين القليل والكثير غير منصوص عليه في جميع الأمور، وإنما نهي
عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر، فجعلت أصولاً يُقَاسُ عليها غير القليل
أصلاً في عدم الاعتبار وفي الجواز، وصار الكثير في [١٦] المنع، ودارَ في
الأصلين فروع تتجاذب العلماء النظر فيها، فإذا قلَّ الغرر وسَهُلَ الأمر وقلَّ النزاع
ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها، ومن هذا القبيل مسألة التقدير
في ماء الحمام ومدة اللبث.
قال العلماء: ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه، فَجَوَّزَ أن يستأجر الأجير
بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله، ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة،
وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه، وبيَّن تطرقه للثمرة فمنعه، فقال:
يجوز للإنسان أن يشتري سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ، وإن كان اليوم بعينه
لا ينضبط، ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز، والسبب في التفرقة
المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف، ولا مضايقة في الأجل؛ إذ
قد يسامح البائع في التقاضي الأيام، ولا يسامح في مقدار الثمن على حال.
يعضده ما روى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عيه
وسلم أمر بشراء الإبل إلى خروج المصَّدق، وذلك لا يضبط يومه ولا يعين
ساعته؛ ولكنه على التقريب والتسهيل.
فتأمَّلوا كيف وجه الاستثناء من الأصول الثابتة بالحرج والمشقة، وأين هذا
من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط؟ فتبيَّن لك بَوْنُ ما بين
المنزلتين.
(العاشر) : أنهم قالوا إن من جملة أنواع الاستحسان مراعاة خلاف العلماء،
وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة.
(منها) أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تُغير أحد أوصافه
أنه لا يتوضأ به؛ بل يتيمم ويتركه، فإن توضأ به وصلَّى أعاد ما دام في الوقت ولم
يعد بعد الوقت، وإنما قال: (يعيد في الوقت) مراعاة لقول مَن يقول إنه طاهر
مطهر.
ويروى جواز الوضوء به ابتداء، وكان قياس هذا القول أن يعيد أبداً، إذ لم
يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلا التيمم.
(ومنها) قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه: إن لم يتفق على فساده
فيفسخ بطلاق، ويكون فيه الميراث، ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح
الصحيح، فإن اتفق العلماء على فساده فُسِخَ بغير طلاق، ولا يكون فيه ميراث ولا
يلزم فيه طلاق.
(ومنها) مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبَّر للركوع وكان مع الإمام [١٧]
أن يتمادى، لقول مَن قال: إن ذلك يجزئه فإذا سلَّم الإمام أعاد هذا المأموم. وهذا
المعنى كثير جدًّا في المذهب، ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال؛
لأنه ترجح عنده، ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه.
ولقد كتبت في مسئلة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد إفريقية
لإشكال عرض فيها من وجهين: أحدهما مما يخص هذا الموضع على فرض
صحتها، وهو ما أصله من الشريعة وعلى ما تبنى من قواعد أصول الفقه؟ فإن
الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه، ومتى رجح للمجتهد
أحد الدليلين على الآخر - ولو بأدنى وجوه الترجيح - وجب التعويل عليه وإلغاء ما
سواه، على ما هو مقرر في الأصول، فإذا رجعوه - أعني المجتهد - إلى قول
الغير إعمال لدليله المرجوح عنده، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه،
وذلك على خلاف القواعد.
فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم
بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس ابن القباب رحمة الله عليه، فكتب إلىَّ بما
نصه.
(وتضمن الكتاب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف، وقلتم إن
رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى [١٨] اقتضى ذلك عدم
المرجوحة مطلقًا واستشنعتم أن يقول المفتي: (هذا لا يجوز) ابتداءً، وبعد الوقوع
يقول بجوازه؛ لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزًا. وقلتم إنه إنما يتصور الجمع
في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم - إلى غير ذلك مما أوردتم في
المسألة) .
وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان،
وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنُظَّار، حتى قال الإمام أبو عبد الله
الشافعي: مَن استحسن فقد شرع.
ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان - كما في علمكم - حتى
قالوا: أصح عبارة فيه: إنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه فإذا كان
هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه، فيكف ما يُبني عليه؟ فلا بد أن تكون العبارة
عنه أضيق.
ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بني
عليه. لولا أنه اعتضد وتقوَّى لِوُجدَانِهِ كثيرًا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة
وجمهورهم مع عدم النكير، فتقوى ذلك عندي، وسكنت إليه النفس، وانشرح
إليه الصدر، ووثق به القلب، للأمر باتباعهم والاقتداء بهم، رضي الله عنهم.
فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد
البناء، فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم. وكل ما أوردتم
في قضية السؤال وارد عليه، فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول فدخول
الثاني بها دخول بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحًا على
الدوام، ومصححًا لعقده الذي لم يصادف محلاًّ، ومبطلاً لعقد نكاح مجمع على
صحته؛ لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرًا وباطنًا؟ وإنما المناسب أن الغلط
يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة، لا إباحة زوج غيره دائمًا، ومنع زوجها منها.
ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود: أنه إن قدم المفقود قبل
نكاحها فهو أحق بها، وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت؛ وإن كانت بعد العقد
وقبل البناء فقولان، فإنه يقال: الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعًا لعصمته فلا
حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها، أو كان ليس بقاطع للعصمة، فكيف تباح لغيره
وهي في عصمة المفقودة؟
وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب، وهو أنهما قالا: إذا قدم
المفقود يخيّر بين امرأته أو صداقها، فإن اختار صداقها بقيت للثاني. فأين هذا من
القياس؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله
عنهما، ونقل عن علي رضي الله عنه أنه قال بمثل ذلك، أو أمضى الحكم به،
وإن كان الأشهر عنه خلافه، ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك.
قال ابن المعدل: لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة فقام أحدهما فأوقع
الصلاة بثوب نجس مجانًا (؟) وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يغاربه (؟) [١٩]
مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب النجاسة (؟) عامدًا جمع
الناس أن لا يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة [٢٠] وممن نقله
اللخمي والمازري، وصححه الباجي، وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه.
وعلى الطريقة التي أوردتم - أن المنهي عنه ابتداءً غير معتبر - أحرى بكون
أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل؛ لأن الذي صلى بعد الوقت قضى ما
فرط فيه، والآخر لم يعمل كما أمر، ولا قضى شيئًا، وليس كل منهي عنه ابتداءً
غير معتبر بعد وقوعه.
وقد صحح الدارقطني حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (لا تزوج المرأةُ المرأةَ ولا تزوج المرأةُ نفسَها، فإن الزانيةَ
هي التي تزوج نفسها) وأخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها: (أيُّما
امرأةٍ نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل - ثلاث مرات - فإن دخل بها فالمهر لها
بما أصاب منها) . فحَكَم أولاً ببطلان العقد وأكده بالتكرار ثلاثًا، وسمَّاه زنًا، وأقلّ
مقتضياته عدم اعتبار هذه العقد جملةً لكنه صلى الله عليه وسلم عقبه بما اقتضى
اعتباره بعد الوقوع بقوله: (ولها مهرها بما أصاب منها) ومهر البغيّ حرام.
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} (المائدة: ٢)
الآية، فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله
تعالى، الذي لا يصح معه عبادة، ولا يقبل عمل، إن كان هذا الحكم الآن
منسوخًا، فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى.
من ذلك قول الصدّيق رضي الله عنه: وستجد أقوامًا زعموا أنهم حبسوا
أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، ولهذا لا يسبى الراهب
ويترك له ماله أو ما قلّ منه، على الخلاف في ذلك، وغيره ممن لا يقاتل يسبى
ويمتلك، وإنما ذلك لِمَا زعم أنه حبس نفسه له، وهي عبادة الله تعالى. وإن كانت
عبادته أبطل الباطل. فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا
يقطع بخطأ فيه؟ وإن كان يظن ذلك ظنًّا وتَتَبُّع مثل هذا يطول.
وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع: هل يقضي فساد المنهي عنه؟
وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم، فكيف بهذا؟
وإذا خرجت المسألة المختلف فيها إلى أصل مختلف فيه؛ فقد خرجت عن
حيِّز الإشكال، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل، ويرجح كلُّ أحد ما ظهر
له بحسب ما وفق له، ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة) .
انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان، فلا يمكن مع
هذا التقرير كله أن يتمسك به مَن أراد مَن يستحسن بغير دليل أصلاً.
***
فصل
فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجُّوا به أولاً: فأما من حد الاستحسان بأنه:
(ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه) فكان هؤلاء يرون هذا النوع من
جملة أدلة الأحكام، ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك؛ بل يجوز أن يرد
بأنَّ ما سبق إلى أوهام العوام - مثلاً - فهو حكم الله عليهم، فيلزمهم العمل بمقتضاه،
ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من
الشرع قاطع ولا مظنون، فلا يجوز إسناده لحكم الله؛ لأنه ابتداء تشريع من جهة
العقل.
وأيضًا فإنَّّّا نعلم أن الصحابة - رضي الله عنهم - حصروا نظرهم في الوقائع
التي لا نصوص فيها في الاستنباط [٢١] والرد إلى ما فهموه من الأصول الثابتة. ولم
يقل أحد منهم: إنِّي حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه، أو لأنه يوافق محبتي
ورضائي ولو قال ذلك لاشتد عليه النكير، وقيل له: مِن أين لك أن تحكم على عباد
الله بمحض ميل النفس وهوى القلب، هذا مقطوع ببطلانه.
بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضًا على مأخذ بعض، ويحصرون
ضوابط الشرع.
وأيضًا فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة؛ لأن
الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك، ولا
يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضًا: لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر،
والشريعة ليست كذلك.
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدًا. ولا يفاتحون
عالمًا ولا غيره فيما يبتغون، خوفًا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندًا شرعيًّا. وإنما
شأنهم إذا وجدوا عالمًا أو لقوه أن يصانعوه، وإذا وجدوا جاهلاً عاميًّا ألقوا عليه
في الشريعة الطاهرة إشكالات، حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم، ويلبسوا دينهم
فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس، ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئًا
فشيئًا، وذمَّوا أهل العم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها، وإن هذا الطائفة هم
أهل الله وخاصته. وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون
إليهم، حتى يهووا بهم في نار جهنم. وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه
العلماء الراسخين فلا.
وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم، تجدهم لا
يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم، والتحيل عليهم بأنواع الحيل،
حتى يخرجوهم من السنة أو من الدين جملة، ولولا الإطالة لأثبت كلامه، فطالعه
في كتابه (فضائح الباطنية) .
وأما الحد الثاني فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من
شاء ما شاء، واكتفى بمجرد القول. فألجأ الخصم إلى الإبطال، وهذا يجر فسادًا
لا خفاء له، وإن سلم: فذلك الدليل إن كان فاسدًا فلا عبرة به، وإن كان صحيحًا فهو
راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه.
وأما الدليل الأول فلا متعلق به، فإن أحسنَ الاتباع إلينا الأدلة الشرعية
وخصوصًا القرآن فإن الله يقول: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} (الزمر: ٢٣) ، الآية.
وجاء في صحيح الحديث - خرَّجه مسلم - أن الني صلى الله عليه وسلم قال
في خطبته: (أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله) فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا
أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا، فضلاً عن أن يكون من أحسنه.
وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: ١٨) ... الآية
يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولاً وحينئذٍ ينظر إلى كونه أحسن القول كما
تقدم وهذا كله فاسد.
ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله، وأنه ليس بحجة،
وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع.
وأيضًا فيلزم عليه استحسان العوام، ومَن ليس من أهل النظر، إذا فرض أن
الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع، وذلك محال، للعلم بأن ذلك مضاد
للشريعة، فضلاً عن أن يكون من أدلتها.
وأما الدليل الثاني: فلا حجة فيه من أوجه:
(أحدها) : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن،
والأمة لا تجتمع على باطل. فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعًا؛
لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعيًّا، فالحديث دليل عليكم لا لكم.
و (الثاني) : أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع.
و (الثالث) : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه
استحسان العوام، وهو باطل بإجماع، لا يقال: إن المراد استحسان أهل الاجتهاد،
لأنا نقول: هذا ترك للظاهر، فيبطل الاستدلال. ثم إنَّه لا فائدة في اشتراط
الاجتهاد؛ لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة، فأي حاجة إلى اشتراط
الاجتهاد.
فإن قيل: إنما يشترط حذرًا من مخالفة الأدلة فإنَّ العامي لا يعرفها. قيل:
بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة، بدليل أن الصحابة - رضي الله عنهم -
قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع فالحاصل أن تعلق المبتدعة
بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم ألبتة، لكن ربما يتعلقون في آحاد
بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ومنها ما قد مضى.
***
فصل
فإن قيل: أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب
ويجري في النفس، وإن لم يكن ثَمَّ دليل صريح على حكم مِن أحكام الشرع، ولا
غير صريح، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول
(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة) .
وخرّج مسلم عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك
في صدرك وكرهت أن يطّلع الناس عليه) وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال:
قال رجل: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: (إذا سرّتك حسناتك وساءتك سيئاتك
فأنت مؤمن) قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قال: (إذا حاك شيء في صدرك
فدعه) وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وعن وابصة رضي الله عنه
قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: يا وابصة استفت
قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك
في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) وخرَّج البغوي في معجمه
عن عبد الرحمن بن معاوية: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله: ما يحل لي مما يحرم عليَّ؟ فسكت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فردد عليه ثلاث مرات، كلُّ ذلك يسكت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم قال أين السائل؟ فقال: أنا ذا يا رسول الله فقال ونقر بأصبعه: (ما أنكر
فوك فدعه) .
وعن عبد الله قال: الإثم حواز القلوب، فما حاك من شيء في قلبك فدعه،
وكل شيء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعًا. وقال أيضًا: الحلال بيّن والحرام
بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك , وعن أبي الدرداء -
رضي الله عنه -: إن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة؛ فدع ما يريبك إلى ما لا
يريبك، فوالله ما وجدت فَقْد شيء تركتُه ابتغاء وجه الله.
فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية لي ما يقع بالقلب
ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر، وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدام عليه
صحيح، وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور، وهو عين ما وقع إنكاره من
الرجوع إلى الاستحسان الذي قع بالقلب ويميل إليه الخاطر، وإن لم يكن ثَمَّ دليل
شرعي، فإنه لو كان هناك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيّدًا بالأدلة الشرعية لم
يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب، مع أنه عندكم عبث وغير
مفيد، كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية، أو الأفعال التي لا ارتباط
بينها وبين شرعية الأحكام - فدل ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثرًا
في شرعية الأحكام، وهو المطلوب.
والجواب: إن هذه الأحاديث، وما كان في معناها قد زعم الطبري في تهذيب
الآثار أن جماعةً من السلف قالوا بتصحيحها، والعمل بما دل عليه ظاهرها , وأتى
بالآثار المتقدمة عن عمر، وابن مسعود , وغيرهما، ثم ذكر عن آخرين القول
بتوهينها، وتضعيفها، وإحالة معانيها.
وكلامه وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه،
فأتيت به على تحري معناه دون لفظه لطوله فحكى عن جماعة أنهم قالوا: لا شيء
من أمر الدين إلا وقد ينه الله - تعالى - بنص عليه، أو بمعناه، فإن كان حلالاً
فعلى العامل به إذا كان عالمًا تحليله، أو حرامًا فعليه تحريمه، أو مكروهًا غير
حرام عليه اعتقاد التحليل، أو الترك تنزيهًا.
فأما العامل بحديث النفس، والعارض في القلب فلا، فإن الله حظر ذلك على
نبيه فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: ١٠٥) فأمره بالحكم بما أراه الله لا بما رآه، وحدثته به نفسه، فغيره من
البشر أولى أن يكون ذلك محظوراً عليه , وأما إن كان جاهلاً فعليه مسألة العلماء
دون ما حدثته نفسه.
ونقل عن عمر - رضي الله عنه - أنه خطب فقال: أيها الناس، قد سُنت
لكن السنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُرِكتم على الواضحة، أن تضلوا بالناس
يمينًا وشمالاً [٢٢] . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما كان في القرآن من
حلال، أو حرام فهو كذلك، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه.
وقال مالك: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تم هذا الأمر
واستكمل؛ فينبغي أن تًتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا
يُتبع الرأي، فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى في الرأي منه فاتبعه، فكلما
غلبه رجل اتبعه، أرى أن هذا بعد لم يتم , واعملوا من الآثار بما روي عن جابر -
رضي الله عنه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد تركت فيكم ما لن
تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على
الحوض) [٢٣] .
وروي عن عمرو بن.. .. . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهم
يجادلون في القرآن، فخرج وجهه أحمر كالدم فقال [٢٤] : (يا قوم! على هذا هلك
من كان قبلكم، جادلوا في القرآن، وضربوا بعضه ببعض، فما كان من حلال
فاعملوا به، وما كان من حرام فانتهوا عنه، وما كان من متشابه فآمنوا به) .
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - يرفعه قال: ما أحل الله في كتابه فهو
حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته،
فإن الله لم يكن لينسى شيئاً {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: ٦٤) .
قالوا: فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله، والإعلام بأن العامل به
لن يضل، ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنة، ولو
كان ثم ثالث لم يَدَعْ بيانه، فدل على أن لا ثالث؛ ومن ادعاه فهو مبطل.
قالوا: فإن قيل: فإنه عليه السلام قد سن لأمته وجهًا ثالثًا، وهو قوله:
(استفت قلبك) وقوله (الإثم حوار القلوب) إلى غير ذلك - قلنا: لو صحت هذه
الأخبار لكان ذلك إبطالاً لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذا صحَّا معًا؛ لأن أحكام الله
ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته، وإنما كان يكون وجهًا ثالثًا لو
خرج شيء من الدين عنهما، وليس بخارج، فلا ثالث يجب العمل به.
فإن قيل: قد يكون قوله: (استفت قلبك) ونحوه أمرًا لمن ليس في مسألته
نص من كتاب ولا سنة، واختلفت فيه الأمة، فيعد وجهًا ثالثًا - قلنا: لا يجوز ذلك
لأمور:
(أحدها) : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصت على حكمه دلالة، فلو
كان فتوى القلب ونحوه دليلاً، لم يكن لنصب الدلالة الشرعية عليه معنى، فيكون
عبثاً، وهو باطل.
(والثاني) : أن الله - تعالى - قال {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} (النساء: ٥٩) فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون
حديث النفوس وفتيا القلوب.
(والثالث) : أن الله - تعالى - قال {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من
أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم.
(والرابع) أن الله - تعالى - قال لنبيه احتجاجًا على من أنكر وحدانيته
{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية: ١٧) إلى آخرها فأمرهم
بالاعتبار بعبرته، والاستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به , ولم يأمرهم أن
يستفتوا فيه نفوسهم، ويصدروا عما اطمأنت إليه قلوبهم، وقد وضع الأعلام والأدلة،
فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت، دون
فتوى النفوس، وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله.
هذا ما حكاه الطبري عمن تقدم، ثم اختار إعمال تلك الأحاديث، إما لأنها
صحت عنده، أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها، كحديث (الحلال بَيّن
والحرام بَيّن) إلى آخر الحديث فإنه صحيح خرجه الإمامان , ولكنه لم يعمله في
كل من أبواب الفقه، إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال، وإحداث التعبدات؛ فلا
يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال: إذا اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو بر، أو:
استفت قلبك في إحداث هذا العمل، فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا.
وكذلك في النسبة إلى التشريع التَّركي، لا يتأتى تنزيل معاني الأحاديث عليه
بأن يقال: إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلاني فاتركه، وإلا فدعه، أي فدع
الترك واعمل به. وإنما يستقيم إعمال الأحاديث المذكورة فيما أعمل فيه قوله
عليه السلام (الحلال بَيّن والحرام بَيّن) الحديث.
وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء، والطعام، والشراب، والنكاح،
واللباس، وغير ذلك مما في هذا المعنى، فمنه ما هو بين الحلّية، وما هو بيّن
التحريم، وما فيه إشكال - وهو الأمر المشتبه الذي لا يُدرى أحلال هو أم حرام -
فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهله بحاله نظير قوله - عليه السلام - (إني
لأجد التمرة ساقطةً على فراشي، فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها [٢٥] )
فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين: إما من الصدقة، وهي
حرام عليه، وإما من غيرها وهي حلال له، فترك أكلها حذرًا من أن تكون من
الصدقة في نفس الأمر.
قال الطبري: فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو في سعة من
تركه والعمل به، أو مما هو غير واجب - أن يدع ما يريبه فيه إلى ما لا يريبه، إذ
يزول بذلك عن نفسه الشك، كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته
وإياها، ولا يعلم صدقها من كذبها، فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له
بسبب إخبار المرأة، وليس تزوجه إياها بواجب بخلاف ما لو أقدم، فإن النفس لا
تطمئن إلى حلّية تلك الزوجة.
وكذلك قول عمر إنما هو فيما أُشكل أمره في البيوع فلم يدر حلال هو أم
حرام؟ ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب، كما في الإقدام شك: هل هو إثم
أو لا؟ وهو معنى قوله - عليه السلام - للنواس ووابصة -رضي الله عنهما -
ودل على ذلك حديث المشتبهات لا ما ظن أولئك من أنه أمر للجهال أن يعملوا بما
رأته أنفسهم، ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم.
قال الطبري: فإن قيل: إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي حرام. فسأل
العلماء فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: قد بانت منك بالثلاث , وقال بعضهم: إنها
حلال غير أن عليك كفارة يمين , وقال بعضهم: ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو
طلاق، أو الظهار فهو ظهار، أو يمينًا فهو يمين، وإن لم ينو شيئًا فليس بشيء
أيكون هذا اختلافًا في الحكم، كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق، كما يؤمر
هناك أن لا يتزوجها خوفًا من الوقوع في المحظور؟ أو لا؟ قيل: حكمه في مسألة
العلماء أن يبحث عن أحوالهم، وأمانتهم، ونصيحتهم، ثم يقلد الأرجح , فهذا ممكن ,
والحزازة مرتفعة بهذا البحث، بخلاف ما إذا بحث مثلاً عن أحوال المرأة فإن
الحزازة لا تزول، وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة، فهما على هذا مختلفان،
وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده، لم يثبت له ترجيح
لأحدهم، فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة
بالرضاع سواءً، إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير انتهي معنى كلام الطبري.
وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير، بل حكمه
حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام، فلا خلاص له من الشبهة
إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به، وإلا فالترك، إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك،
حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة.
***
فصل
ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء
القلب مطلقًا أو بقيد، وهو الذي رآه الطبري , وذلك أن حاصل الأمر يقتضي أن
فتاوى القلوب، وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية، وهو التشريع
بعينه، فإن طمأنينة النفس وسكون القلب مجردًا عن الدليل: إما أن تكون معتبرةً،
أو غير معتبرة شرعًا، فإن لم تكن معتبرةً فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار،
وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة، وإن كانت معتبرةً فقد صار ثَمَّ قسم ثالث غير
الكتاب والسنة، وهو غير ما نفاه الطبري وغيره.
وإن قيل: إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام , لم تخرج تلك عن الإشكال
الأول؛ لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لابد أن يتعلق به حكم شرعي، وهو
الجواز وعدمه، وقد علق ذلك بطمأنينة النفس، أو عدم طمأنينتها , فإن كان ذلك
عن دليل، فهو ذلك الأول بعينه باق على كل تقدير.
والجواب أن الكلام الأول صحيح، وإنما النظر في تحقيقه:
فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر في دليل الحكم، ونظر في مناطه ,
فأما النظر في دليل الحكم فلا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة، أو ما يرجع
إليهما من إجماع، أو قياس، أو غيرهما، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس، ولا نفي
ريب القلب، لا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلاً، أو غير دليل [٢٦] ولا يقول أحد
إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها، أو يستقبحون كذلك من
غير دليل إلا طمأنينة النفس (؟) أن الأمر كما زعموا، وهو مخالف لإجماع
المسلمين.
وأما النظر في مناط الحكم، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتاً بدليل
شرعي فقط، بل يثبت بدليل غير شرعي، أو بغير دليل، فلا يشترط فيه بلوغ
درجة الاجتهاد، بل لا يشترط فيه العلم فضلاً عن درجة الاجتهاد , ألا ترى أن
العامي إذا سأل [٢٧] عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي: هل
تبطل به الصلاة أم لا؟ فقال العامي: إن كان يسيرًا فمغتفر، وإن كان كثيرًا
فمبطل - لم يغتفر في اليسير إلى أن يحققه له العالم، بل العاقل يفرق بين الفعل
اليسير والكثير , فقد انبنى هاهنا الحكم، وهو البطلان، أو عدمه على ما يقع بنفس
العامي، وليس واحدًا من الكتاب أو السنة؛ لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلاً على حكم،
وإنما هو مناط الحكم، فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق فهو المطلوب، فيقع
عليه الحكم بدليله الشرعي، وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة، وفرقنا بين
اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة، فقد يكتفي العامي بذلك حسبما
يشهد قلبه في اليسير أو الكثير، فيبطل طهارته أو تصح بناءً على ذلك الواقع في
القلب؛ لأنه نظر في مناط الحكم.
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله، لأن حِلّيته ظاهرة عنده إذا
حصل له شرط الحِلّية لتحقق مناطها بالنسبة إليه، أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له
أكله؛ لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحِلّية، فتحقق مناطها بالنسبة إليه.
وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه، واطمأنت إليه نفسه، لا بحسب
الأمر في نفسه، ألا ترى أن اللحم قد يكون واحدًا بعينه فيعتقد واحد حِلّيته بناءً على
ما تحقق له من مناطها بحسبه، ويعتقد آخر تحريمه بناءً على ما تحقق له من
مناطه بحسبه، فيأكله أحدهما حلالاً، ويجب على الآخر الاجتناب لأنه حرام؟
ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال
وكان محالاً؛ لأن أدلة الشرع لا تتناقض أبدًا، فإذا فرضنا لحمًا أشكل على المالك
تحقيق مناطه لم [٢٨] ينصرف إلى إحدى الجهتين، كاختلاط الميتة بالذكية، واختلاف
الزوجة بالأجنبية.
فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة , وهذا المناط محتاج إلى
دليل شرعي يبين حكمه، وهي تلك الأحاديث المتقدمة، كقوله: (دع ما يريبك إلى
ما لا يريبك) وقوله (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك)
كأنه يقول: إذا اعتبرنا [٢٩] باصطلاحنا: ما تحققت مناطه في الحِلّية أو الحرمة
فالحكم فيه من الشرع بيّن، وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به، وهو
معني قوله - إن صح - (استفت قلبك وإن أفتوك) فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص
بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك , ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط،
ولم يشكل على غيرك؛ لأنه لم يعرض له ما عرض لك , وليس المراد بقوله:
(وإن أفتوك) أي إن نقلوا لك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك، فإن
هذا باطل وتقوّل على التشريع الحق , وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.
نعم قد لا يكون ذلك درية [٣٠] أو أنسا بتحقيقه فيحققه لك غيرك، وتقلده فيه،
وهذه الصورة خارجة عن الحديث، كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضًا موقوفًا
على تعريف الشارع، كحد الغنى الموجب للزكاة، فإنه يختلف باختلاف الأحوال،
فحققه الشارع بعشرين دينارًا ومائتي درهم وأشباه ذلك، وإنما النظر هنا فيما وكل
تحقيقه إلى المكلف.
فقد ظهر معني المسألة، وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية
من طمأنينة النفس أو ميل القلب، كما أورده السائل المستشكل، وهو تحقيق بالغ ,
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.