للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأُخوَّة والصداقة [*]
] إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [[**]
الصِّنْو أشبه بالصنو منه بالشجرة التي يخرجان من أصلها، أو الثمرة التي
تخرج منهما، والأخوان صِنْوَان متساويان في الأصل والمنشأ، وفي النبات والنمو،
ويتعاهدان بتربية واحدة في الغالب، فأجدر بالأخ أن يأنس بأخيه، ما لا يأنس بأمه
وأبيه وصاحبته وبنيه، لما ذكرنا من كمال المناسبة والمشاكلة التي هي علة الأنس
والحب، ولأن للوالدين من الرفعة وحقوق الاحترام والاحتشام ما يقف بالأنس بهما
دون كماله، كما أن القيام على البنين بالتأديب والسيطرة منافٍ للاسترسال في الأنس
بهم والانبساط إليهم في جميع الشؤون والأطوار، فكم من كلام وعمل مما يرتاح إليه
يعرض عنهما الإنسان إذا كان على مرأى ومسمع من أصوله وفروعه، ويقبل إليه مع
إخوانه وصنوانه، أما الصاحبة (الزوجة) فلا يظهر هذا الوجه بالإضافة إليها؛ لأن
الأنس بها لا يكاد يساويه أنس، ولكن الأخ يفوقها في مناسبة الاتفاق في المنبت
والتربية، فإن لاختلاف التربية أقوى تأثير في الألفة والمحبة والنفور والوحشة،
وهو العلة في التنازع بين الأزواج، واختلال نظام العائلات المؤدي إلى سقوط الأمة
في عواثير الشقاء ومهاوي الهلكات. ومزية أخرى يفضل بها الأخُ الزوجَ، وهي:
أن الاستعاضة عنه إذا فقد ليست مما يناله الكسب، ويتوصل إليه بسعي أخيه الذي
فقده.
يحكى أن امرأة كان لها ابن وأخ وزوج وقعوا في غضب الحجاج، فأراد
الإيقاع بهم، وعهد إلى المرأة أن تختار أحدهم كفيلاً لها ليقتل من عداه، فاختارت
الأخ قائلة: إن الابن والزوج يمكن الاعتياض عنهما، وأما الأخ فلا عوض عنه،
فأعجب الحجاج بقولها؛ لأنها غلَّبت العقل والحكمة على الحنان والشهوة، وعفا عن
الجميع وقال: لو اختارت غير الأخ لقتلت الكل ولم أدع لها أحداً.
وبالجملة إن لكل قريب ونسيب مكانة تفضله من وجه على الآخر، فللوالدين:
التعظيم والاحترام، وللولد: الرأفة والحنان وللأخ والزوج (يطلق على الذكر
والأنثى كما لا يخفى) ارتياح المساواة، وأنس الكفؤ والنديد، ولذلك يسمى الأخ
شقيقًا، كأن الأخوين شيء واحد شُق نصفين، ويسمى صنوًا، والصنوان هما
فسيلتا النخل تخرجان من أصل واحد، ويسمى كل من الرجل والمرأة المقترنين
زوجًا للآخر بملاحظة أنهما شيء واحد في المعنى، ظهر بصورتين ثَنَّت إحداهما
الأخرى، وقد علمت أن مكانة الأخ لا يحلها سواه، وأن الميل إليه ميل إلى كفيح
ونديد، ترى له عليك مثل ما لك عليه، بخلاف سائر الأقربين، ولهذا سمي
الصديق أخًا، وجاء القرآن يعلم الناس ويرشدهم لأن يكونوا كلهم أصدقاء وإخوة،
ويجعلوا أباهم في هذه الأخوة الإيمان بالله تعالى بما نزل من الحق فقال: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) ، ورتب على ذلك قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: ١٠) ، وفي الحصر بـ (إنما) والعطف بالفاء ووضع
الظاهر في (أخويكم) موضع الضمير - ما لا يخفى من تأكيد هذه الأخوة وتقريرها،
ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الحجرات: ١٠) بأن تقوموا بحقوق هذه الأخوة، وما
ترتب عليها من الإصلاح بالمساواة إذ لا وجه لمحاباة أحد والكل إخوة: {لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} (الحجرات: ١٠) في الدنيا والآخرة، وما أجدر من يقوم على هذا
الصراط السوي بأن يرحم.
يسمي الناس كل صاحب صديقًا وأخًا، وأين الصداقة والأخوة من كل تصحبه،
أذكر هنا ملخص رقيم كنت أرسلته في سنة ١٣٠٤ لصاحب آخيته في بعض البلاد
السورية [***] وهو ما جاء بعد كلام:
إنني أحب أن أكتب إليك الآن كلمات تتعلق بهذا اللقب الشريف (الأخ
الصديق) الذي أطلقته عليك وهي:
قد اعتاد الناس إطلاق هذا اللقب الشريف على كل من ارتبطوا معه برابطة
من روابط الاجتماع، ولو كانت الرابطة منفصمة العرى مقطعة الأسباب، أو انتكث
فتلها بعد إبرام، وتداعت دعائمها بعد إحكام، فإذا كانت رابطة المصاحبة هي
الاجتماع على القيل والقال وإضاعة المال، بنحو أكل وشرب ولهو ولعب، فيجدر
بنا أن ندعو ذويها أصحاب الوجوه وهم كثيرون حيث تكثر البطالة وتقل دواعي
العمران، وإذا كانت الجامعة بينهم الاشتراك في المنافع المالية والعلائق الشخصية
العملية، فينبغي أن نسمي صحبتهم صحبة المصالح والحظوظ، وهؤلاء يكثرون
بكثرة الأعمال التجارية والصناعية في المدن النافقة الأسواق الكثيرة السكان الوافرة
العمران، وإذا كانت جامعتهم هي المشاكلة في الأخلاق والسجايا، فهؤلاء هم الذين
يصح إطلاق لقب الصاحب على آحادهم بغير قيد، وصحبتهم هي الصحبة الحقيقية،
وهم فرق كثيرة لاختلاف السجايا وتباين الأخلاق، وأكثر أفراد المتصاحبين من
الأنواع المتقدمة الذكر لا يعرفون معنى الصدقة، وإن أكثروا من الثرثرة بلفظها؛
لأن أساسها الذي يقوم عليه بناؤها هو الصدق في السر والعلن، والغيبية والشهود،
والقرب والبعد، وفي السراء والضراء، والزعزع والرخاء، وهو أعز من الكبريت
الأحمر، ولذلك أنكر الصديق الوفي المنكرون فقال أحدهم:
سمعنا بالصديق ولا نراه ... على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محالاً أو مقولاً ... على وجه المجاز من الكلام
وقال آخر:
أيقنت أن المستحيل ثلاثة ... الغول والعنقاء والخل الوفي
لعمرك إن غير الصدوق معذور باعتقاد استحالة وجود الصديق، لما عنده من
الدليل الوجداني على ذلك، والصدوق يعذر أيضًا إذا ارتأى أنه انفرد بالصدق في
بعض الأحايين، لما يعانيه من الابتلاء بمراوغة المنافقين ومخادعة الكاذبين،
ونظير ذلك ما تُنوقل عن السلطان محمود أنه أقسم مرة أنه لا يوجد في إستانبول
مسلم غيره وغير فرسه وسيفه، يريد عليه الرحمة أنه لم يصدق معه غيرهما، وأنه
لا يثق إلا بهما، فإذا ظفر مثل هذا الصديق بآخر مثله ربما ادعى انحصار الصداقة
فيه وفي صديقه، وإنما يصح ذلك بالنسبة لاختباره في وطن إقامته.
ثم إن أقوى الصداقة أساسًا وأضوأها نبراسًا، وأمنعها من الانحلال وأبعدها
عن الاختلال، صداقة أرباب المبادئ الشريفة والمقاصد الجليلة، فمهما كان للصديقين
منزع واحد ومشرب واحد هو مقصدهما من حياتهما تعاهدا عليه وتآخيا من أجله،
فلا جرم أن أخوتهما تكون أقوى من الأخوة النَّسَبية، ورابطة صداقتهما أقوى من
سائر الروابط الاجتماعية.
نعم، إن الثبات على الصداقة - كغيرها - مشروط بحسن الخلق وتهذيب
النفس؛ لأن فاسد الأخلاق عرضه للتغير والانقلاب، تتلاعب به عواطف الأهواء
فتقلبه ذات اليمين وذات الشمال، فلا يستقر له شأن، ولا يثبت على حال، فكم تألفت
في أوطاننا شركات تجارية وصناعية، فبدد فساد أخلاق أفرادها شملها، ونثر
منظوم أهلها، وفرق اجتماعهم وجعلهم عبرة للمعتبرين، ربما كان التنازع على
شيء لا يبالي به عاقل ولا يلتفت إليه مهذب، سبباً للفشل ونفض اليدين من العمل،
بل في نقض أساس رفع بناؤه وحل عُرى أُحْكِم فتلها، وذلك كالتقدم في المجلس أو
في الختم على الأوراق أو التحلي بلفظ رئيس أو مدير ونحوهما من الألقاب، أو
مراعاة مصلحة شخصية (واخجلتاه) .
وهذا هو السبب الذي قضى على الأمم الشرقية أو الإسلامية في هذه الأزمنة
الأخيرة بالتقاطع والتنازع، حتى رزءوا بالضعف والهبوط، بل بالخسف والسقوط
وصارت حالهم - كما نرى - شر الأحوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قام فيهم مصلحون مجددون، نبهوا الأفكار الغافلة وحركوا سواكن الهمم،
فاستضاءت بنور الحقيقة بصائر، ونشطت للعمل أعضاء سلكت الجادة وأتت
البيوت من أبوابها، حتى كادت تبلغ الغاية، لكن عارضها في سيرها وحال دون
تمام العمل نفوذ العدو الغربي المتيقظ لما يعقب نهضة هذه الفئة المصلحة من إيقاف
مطامعه في الشرق عن الامتداد، بل من تحويل مده إلى جزر لا يفيض بعده ثائب،
وساعد العدوَّ الغربي على معاكسة (كذا) الإصلاح الأمير الشرقي الجاهل، فكان
عاملاً على ثل عرشه وانتزاع سلطانه، ولقي أولئك المصلحون من الألاقي
(الدواهي) ما لا محل لشرحه هنا، وهم لا يزالون على سعيهم، وتعاليمهم
الشريفة لها من ذوي النفوس الزكية والعقول الصافية، المحل الأول والمقام الأسنى،
وبانبعات أشعتها في أفكارهم، وإضاءتها أرجاء قلوبهم، تدب فيهم حرارة الغيرة على
الدين والوطن، وما بعد انفعال الغيرة إلا الأخذ بوسائل العمل ومقاصده، {وَاللَّهُ
يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (النور: ٤٦) .
إن لكل عاقل غرضًا صحيحاً من حياته، وغرض هذا العاجز إنما هو خدمة
أمته ووطنه من طريق علمي تهذيبي على ما يرشد إليه سير المصلحين، ولما كان
هذا أمرًا عامًّا كليًّا - وكل أمر كلي عام لا يفي به الواحد - احتجت لانتقاء الإخوان
المؤازرين المساعدين الذين يوثق بثباتهم لتهذبهم وحسن مقاصدهم ونياتهم، فلم
اصطف في طرابلس إلا واحدًا أو اثنين من صنفنا (أهل العلم) وقد اصطفيتك
أنت من أهل (....) [١] لما رأيته فيك من سمو الأفكار والنظر في حوادث الكون
بعين الاعتبار، مع التبصر والتدبر والتأسف والتحسر، بحيث لم يبق عندي ريب
في أنك على المشرب الذي نستقي منه، والمنحا الذي ننتحيه، ولم يبق من شروط
الأخوة الكبرى إلا الصدق والثبات الناتجين عن تهذيب الأخلاق (كذا في الأصل ولا
أرى أن قول الناس: نتج كذا عن كذا عربيًّا) وعندي أن اكتناه المرء واختباره التام
الذي تُعرف به أخلاقه وسجاياه لابد فيه من المعاشرة والمخالطة عدة سنين، لكن لما
كان مشربنا الذي أومأنا إليه محالفًا للتهذيب غالبًا لا يكاد يجنح إليه إلا محب للكمال، ولا يرسخ في نفس فاسدة الأخلاق والآداب، وكنتم مع قوة ميلكم إليه قد توفقتم
(الصواب: وُفِّقتم) للمطالعة في كتاب إحياء العلوم، الذي هو أحسن كتاب تهذيبي
إسلامي، وهو أستاذي الأول - فهذان الأمران أثبتا لي أملاً قويًّا وحسن ظن بصدقكم
وثباتكم فعاهدتكم على الولاء، وأطلقت عليكم لقب: (الأخ الصديق) وسيزيد الرجاء
قوة وتمكنًا بكرور الأيام، ويصير الظن عين اليقين [٢] ، ونكون في جنة الأعمال
المفيدة إخوانًا على سرر متقابلين، يوم ينفع العالم منا بعلمه، والمتمول بماله، ونعم
أجر العاملين اهـ.