للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ شبلي النعماني
كان الشيخ شبلي النعماني - رحمه الله وأدام النفع به - ركنًا من أركان نهضة
الإصلاح الإسلامي في الهند.
ورجال هذا الإصلاح في كل الأقطار الإسلامية أمة وسط بين فريق الجامدين
على التقاليد والعادات، التي انتهى إليها أمر جمهور المسلمين بعد فتك التفرق
الديني والسياسي بهم، وانتشار البدع والخرافات فيهم، وإضاعة جل ما ترك سلفهم
من العلم والمجد التليد، وإعراضهم عن العلم الحديث والمجد الطريف، وبين فريق
المتفرنجين الذين أصابوا حظًّا من اللغات الأجنبية، وتلقوا قليلاً من العلوم والفنون
الأوربية، فأحدث لهم ذلك غرورًا بأنفسهم، واحتقارًا لأمر أمتهم، فطفقوا يمرقون
منها بزلزال عقائدهم وأفكارهم، وتغيير عاداتهم وأزيائهم، فوهت فيهم جميع
مقوماتها، ولم يندغموا في أمة من الأمم التي يقلدونها، على أن منهم من يحسبون
أنه يمكن جعل أمتهم كلها، مثلهم أو مثلها.
المباينة بين الجامدين والمتفرنجين عظيمة، كل منهم يحتقر الآخر ويكرهه،
ويعده علة لضعف الأمة وانحطاطها، أولئك يرمون هؤلاء بالكفر والفسوق،
ويَنْفرون ويُنَفِّرون منهم ر ومن هذه العلوم والفنون، ويعدونهم آلات الأجانب التي
يحللون بها عناصر الأمة ويستعملونها كما يستعملون عناصر الأرض في تنمية
ثروتهم، وإعلاء كلمتهم، واستعمار البلاد وجعلها تحت سلطتهم - وهؤلاء يرمون
أولئك بالتعصب والجهل، والخرافات والهمجية، التي يجب نسفها لإقامة بناء
الحضارة والمدنية، والحق أن كلا منهما مخطئ في شيء، ومصيب في شيء آخر،
وله مزايا حسنة، ورزايا ضارة، وأن الأمة لو سارت على رأي كل منهما وحده
لم تكن عاقبتها إلا الانحلال والهلاك.
وأما حزب الإصلاح، فهو وحده محل الرجاء؛ لأنه يُقَدِّر مزية كل من
الحزبين قدرها، ويعرف منافعه ومضاره، ويريد أن يكون معقد الارتباط والاتصال
بينهما بإرجاع كل منهما عن خطئه، والسير بالأمة في طريق تحفظ به مقوماتها
ومشخصاتها، وتعيد الموروث النافع منها إلى جدته، وتندرج في استبدال النافع
بالضار منه، وتقتبس من علوم العصر وفنونه وصناعاته ما لا تقوم لأمة قائمة في
هذا العصر بدونه، وليس هذا المقام مقام شرح الإصلاح، ولا بيان أحوال
الأحزاب الثلاثة، وإنما ذكرنا هذا لبيان مرادنا من قولنا إن فقيد الإسلام في الهند
كان ركنًا من الإصلاح الإسلامي.
ولم يكن طلاب الإصلاح إلا أفرادًا من الناشئين في بيت حزب الجمود أو
حزب التفرنج، هداهم الله تعالى باستعداد في فطرتهم، وتوفيق في سيرتهم، إلى
معرفة الطريقة المثلى لصلاح أمتهم، وكان المعقول أن يكون رجال العلم الديني
أقدر على أهل الجمود منهم على المتفرنجين، ولكن كثر ما كان الأمر على غير
ذلك؛ وسببه أن كبراء الجامدين من الشيوخ هم أشد حسدًا وبغضًا للمصلح الديني
من غيره، فلهذا لم يتم للشيخ شبلي ما كان يريد من الإصلاح في ندوة العلماء،
وكان أدنى الناس إلى مساعدته المتدينون من كبراء الدنيا كأميرة بهوبال، وقد
أخبرني رحمه الله تعالى أن الأمير الجواد، الذي تفاخر به الهند أمراء المسلمين في
جميع البلاد، النواب محمد علي راجا محمود آباد، عرض عليه مبلغًا كبيرًا من
المال يدفعه سنويًّا لمدرسة ندوة العلماء بشرط جعلها للمسلمين كافة كمدرسة عليكرة
لا خاصة بأهل السنة، وهذا باب عظيم من أبواب الإصلاح ما كان ليشايعه عليه
المتعصبون من أعضاء الندوة؛ فلذلك اعتذر للأمير بأن هذا عمل ما حان وقته.
وأما الأميرة المحسنة التقية صاحبة بهوبال، التي جعلها الله تعالى بعد
المصلح العظيم السيد صديق حسن خان، نصيرة العلم وخادمة الإسلام، فقد كانت
ظهيرة للشيخ في جميع ما يخدم به الدين والعلم من الأعمال، وإننا ننشر هنا نص
كتاب جاءنا منه، يشير إلى ما كان من صلتها وصلتنا به، وهو:
إلى حضرة السيد المحترم
... ... ... متع الله المسلمين بطول بقائه
بعد التحية والسلام
إني لم أزل أقرأ في الجرائد ما تبذلون من السعي في تأسيس دار العلم
والإرشاد، وهذه هي بغيتنا التي كنا ننشدها نحن أهل الندوة، فجعل الله سعيكم
مشكورًا، وتوج عملكم بالنجاح، طالما تاقت نفسي إلى زيارة مصر للقائكم، ولكن
هيهات فإني قد قُطِعَتْ إحدى رجلي لرصاصة أصابتها فبقيت جليسًا [١] للبيت غير
قادر على تحمل أعباء الرحلة والسفر، والأمر الذي دعاني الآن إلى إرسال النميقة
أن الأميرة سلطان جهان (بيكم) صاحبة إيالة بوفال [٢] خرجت راحلة إلى لندرة
للحضور في حلفة تتويج الملك جرج، وهي تريد زيارة البلاد الإسلامية، وتصل
في مصر في شهر رمضان.
وهي من عظماء بلادنا أعطت مائة ألف روبية لتكميل كلية عليكده، وعينت
ثلاث مائة روبية جراية شهرية لندوتنا، وكم لها من أمثال ذلك.
ولها شدة عناية بتربية عائلتها؛ ولذلك أرادت أن تجلب إحدى المعلمات
المسلمات من مصر المحروسة، وقد كتبت إليَّ أن أكون مساعدًا لها في إنجاح هذا
الأمر، فالمرجو من حضرتكم أنها لما تصل إلى قاهرة [٣] وتستدعي من حضرتكم
الاستشارة والاستعانة، فافعلوا ما يليق بكم من إكرام مثل هذا الضيف الكريم العديم
المِثْل، والفضل لكم [٤] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شبلي نعماني
... ... ... ... ... ... ... ... في ٧ مايو سنة ١٩١١
... ... ... ... ... ... ... ... ... ندوة لكهنؤ
هذا وإن الفقيد رحمه الله تعالى قد اشترك بالمنار من أول العهد لظهوره،
وكان مواظبًا على قراءته معجبًا به، وقد كان له من حسن الظن بصاحب المنار ما
حمله على دعوتنا لرئاسة مؤتمر ندوة العلماء السنوي رجاء زيادة إقبال مسلمي الهند
على هذا المؤتمر، وما يتبع ذلك من تعضيد الندوة ومساعدتها، وهذا نص كتابه
الأول في ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الفاضل الأستاذ مولانا رشيد رضا أطال الله بقاءه.
لا يخفى على أمثالكم أن إغارات جرجي زيدان على أعراض العرب في
كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي) أكثر من أن تحصى، وإن كل ما دسَّه وَموَّه به لا
أصل له أصلاً، وحين اطلعت على ذلك كاد قلبي أن يتميز من الغيظ غير أني
صبرت وأمعنت النظر فيما له نظر، ولما عيل عني الصبر ونأى، قمت على ساق،
وألفت رسالة أكشف فيها دسائسه، وهي الآن تطبع، وأريد إرسال ما فُرغ من
طبعه منها إليكم لكي تدرجوه في جريدتكم، وكذلك إلى الفراغ منها بأسرها.
ومما أنهيه إليكم أن ندوة العلماء في كل عام تعقد محفلاً عامًّا يحضر فيه
الخاص والعام، والأمراء والنواب وأهل الحل والعقد، ويكون انعقاده عامنا هذا في
أول إبريل سنة ١٩١٣، فنحن معشر المعتمدين والآراكين نهوى ونود من صميم
قلوبنا أن يكون صدر [٥] هذا المحفل العظيم، وواسطة عقده النظيم حضرتكم
الشريفة، فإن تشرفونا بالقدوم علينا في الهند، تهرع أهل البلاد الشاسعة إلى هذا
المحفل الإسلامي على كل ضامر من كل فج عميق لمقدمكم المبارك إن شاء الله
تعالى، ويحصل بعون الله لكم ما أنتم بصدد الاجتهاد فيه من إظهار مقاصد مجلس
التعليم والإرشاد، ويعظم بذلك محفل ندوتنا، ويُقَدَّر قَدْرَه، وفي طي رقيمي هذا،
أُرسل إليكم خطبة والي الهند، وعميدها؛ فيظهر لكم منها أن الدولة البريطانية لها
عناية تامة بندوة العلماء، ولولا ذلك لم تعين لها في كل شهر خمسمائة روبية من
خزائنها، فإن عزم جنابكم على تشريفنا بما اقترحناه فلا عليه أن يلاقي سفير الدولة
البريطانية في مصر المحمية، وينهي إليه خطبة والي الهند وعميدها في حق ندوة
العلماء، وعريضتها عند قدوم الملك المعظم مع ملكته المعظمة قاعدة الهند دهلي،
لكي يكون على علم ويستحسن قدومكم علينا، وإن أمكن منكم طلب الإجازة بذلك
مرقومة فيها فنعم ذلك، ودمتم أفندم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شبلي نعماني
... ... ... ... ... ... ... ٥ جنوري (يناير) سنة ١٩١٣
... ... ... ... ... ... ... ... ندوة العلماء - لكهنؤ
جاءنا هذا الكتاب ونحن نستعد لفتح مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) فكان
المانع من إجابة هذه الدعوة أرجح من المقتضي، إذ كان لا بد من السفر بعد فتح
المدرسة بشهر أو أقل - وأنا ناظر موظف لها، والروح المدبر في تأسيسها والقيام
بها، ولكن أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد رأوا أن رحلتي إلى الهند خير
لمشروعنا؛ لأن إشهاره في مثل ذلك المؤتمر العظيم فقروا في جلسة رسمية إجازتي
وإعانتي على ذلك.
اقترح الشيخ رحمه الله تعالى عليّ أن أسافر بإجازة من عميد الدولة الإنكليزية
هنا، وأرسل إليّ خطبة حاكم الهند العام، الذي ذكر ندوة العلماء بخير لأتوسل بها
إلى هذه الإجازة، فكان هذا من بعد نظره وغور فهمه للسياسة، وكان مراده أن
تكون هذه الإجازة كتابية فلم يتيسر ذلك، فلقي الشيخ من إنكار والي لكهنؤ عليه
دعوتي إلى رياسة مؤتمر الندوة ما لقي، وأمكنه إرضاؤه بما كان أعده لذلك من
الحجج، ومنها ما كتبه لورد كرومر في تأبين شيخنا الأستاذ الإمام من مدح حزبه،
وخطبة للدكتور مرجليوث الأستاذ الشهير في مدرسة أكسفورد ذكر فيها رأي
صاحب المنار في الجامعة الإسلامية بكلام مرضي، وثناء حسن.
ونحمد الله أن حقق ظن الشيخ رئيس الندوة، وأعضائها الكرام فينا، إذ كان
الإقبال على المؤتمر في ذلك العام مما لم يسبق له نظير من قبل، ورحم الله الشيخ
شبليًّا، وأحسن عزاء المسلمين عنه.