للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أهم أخبار الحرب الأوربية والآراء فيها

إن الأخبار الصحيحة والآراء المفيدة لا تكاد تستنبط من الجرائد إلا نكدًا،
وإن للمجلات من الأناة والروية في الاختيار ما ليس للجرائد اليومية، ولا غير
اليومية أيضًا، وإننا نمحص ما وقفنا عليه من الأخبار والآراء الكثيرة بالجمل الآتية
في هذه الحرب:
(١) الدول المتحاربة فريقان: دول التحالف الإنكليزي ودول التحالف
الألماني (يُنسب كل حلف إلى أقدر دوله التي هي محل رجاء الرجحان له) ،
فالأول هو الراجح في الحرب البحرية، حتى أن رجحانه حال دون منازلة الآخر له،
إلا ما تغرقه الغواصات من سفنه، والثاني هو الراجح في الحرب البرية إلى هذا
اليوم.
(٢) اتفق رجال السياسة والحرب من الفريق الأول على أن السبب الأول
لرجحان الفريق الثاني في الحرب البرية هو كثرة الذخائر والأسلحة عندهم،
فتوجهت همة دوله كلها إلى الاستكثار من ذلك، حتى أن إنكلترة أنشأت وزارة
خاصة بها سمتها وزارة الذخائر جعلت المئات من المعامل الحرة تحت مراقبتها،
فصارت إنكلترة وفرنسة وهما دولتا العلم والصناعة في هذا التحالف تعملان من
الذخائر والأسلحة أضعاف ما كانتا تعملان من قبل، ويقدرون أن استعدادهما،
واستعداد حلفائهما لا يتم إلا في ربيع السنة القابلة، على أنهم يشترون الذخيرة
والسلاح من الولايات المتحدة واليابان بمئات الألوف من الجنيهات.
(٣) كانت الروسية قد رجحت على النمسة رجحانًا ظاهرًا فانتزعت منها
غاليسية، ووصلت إلى أعالي جبال الكربات المشرفة على سهول المجر،
وسباسبهم، ولكن ألمانية أنجدتها في ربيع هذا العام بزهاء مليون ونصف مليون من
جيشها، فأجلتا الروسية عما كانت استولت عليه من بلادها، وانتزعتا منها ما
انتزعتا من مملكة بولندة، وغيرها، ولا يزال لهما الرجحان في مطاردتها،
والفضل الأول في ذلك لمدافعهما الضخمة التي تدك أعظم الحصون والمعاقل،
ولكثرة ما عندهما من الذخيرة، وقد اتسع ميدان هذه الحرب فامتد من بحر البلطيق
في الشمال إلى آخر حدود بولندة في الجنوب، ويقال: إن الألمان يطمعون في
الوصول إلى بترغراد (بطرسبرج) عاصمة الروس، والنمساويون مع الألمان
يمدون أعناقهم إلى أودسة أعظم ثغور الروس في البحر الأسود.
(٤) الحرب في الميدان الغربي (فرنسة وبلجيكة) سجال ولكنها حرب
مطاولة لا مناجزة، والألمان هم الذين يهاجمون الفرنسيس، والإنكليز،
والبلجيكيين في الغالب، والفريقان معتصمان في الخنادق، وقلما يربح أحد من
خطوط خصمه شيئًا إلا ويسترده منه الآخر.
(٥) الحرب بين إيطالية والنمسة سجال أيضًا؛ ولكنها لا تزال بطيئة
الحركة ضعيفة التأثير، لا يكاد العالم يشعر بوجودها.
(٦) الحرب في جوار الدردنيل سجال أيضًا، وهي مناجزة، لا مطاولة،
والحلفاء هم المهاجمون في الغالب على أنها حرب خنادق كحرب الميدان الغربي.
(٧) أخبار الحرب في العراق قليلة جدًّا، ومما لا ريب فيه أن الإنكليز قد
استولوا على جزء عظيم من ولاية البصرة.
(٨) أخبار الحرب في القوقاس وما يسمونه أرمينية أقل من أخبار الحرب
في العراق، وأبعد عن الثقة من جميع الأخبار، فإنه لا يعرف منها شيء، إلا ما
يذيعه الروس في كل شهر من أخبار معركة كان لهم الرجحان فيها، ومن أخبارها
أن ضلع الأرمن في البلاد العثمانية معهم حتى أنهم يقاتلون معهم، وهذا خبر معقول
ومنتظر، وكان العثمانيون يقاتلون الروس في بلاد القوقاس الروسية، ومن أخبار
الروس الأخيرة أنهم هم استولوا على مدينة (وان) العثمانية بمساعدة الأرمن فيها،
ونصبوا عليها واليًا من زعماء الأرمن، ويقال: إن الترك فتكوا بالأرمن فتكًا ذريعًا.
(٩) إن كل فريق من الأحلاف اجتهد منذ اشتعلت نار الحرب في جذب
الدول التي على الحياد إليه، ولو بالعطف والمودة، ففاز التحالف الإنكليزي بانتزاع
إيطالية من التحالف الألماني، وحملها على خوض غمرات الحرب معه، وهو يبذل
جهده منذ سنة لجذب دول البلقان إلى قتال العثمانية والنمسة ولا يزال البلقانيون بين
الإقدام والإحجام، لما بينهم من أسباب النزاع والخصام، ولطمعهم في تراث الترك
والنمساويين من جهة، وكراهتهم أخذ الروسية للآستانة وزقاقي البوسفور والدردنيل
من جهة أخرى، دع ما للنمسة وألمانية من النفوذ في البلغار، ولألمانية خاصة من
النفوذ في الرومان واليونان، فإن ملكي البلغار والرومان من أسرة عاهل ألمانية،
وملكة اليونان أخته، فوشيجة الحرم لها تأثير عظيم، ولكن أكثر الشعوب البلقانية
أميل إلى التحالف الإنكليزي ولا سيما الشعب اليوناني، فإنه شديد البغض للترك
والطمع في كثير من بلادهم، وشديد الميل إلى محاربيهم لذاتهم ولمحاربتهم لهم.
(١٠) قد اختلف الباحثون في عاقبة هذه الحرب ونتيجتها، والمعقول أنه
إذا نصر أحد الفريقين نصرًا مؤزرًا، وظفر ظفرًا تامًّا، فإن رأس دوله تكون لها السيادة العليا في أوربة والشرق كله؛ ولكن دول الفريق الآخر أو ما بقي منها تذل
وتخزىزمنًا طويلاً تبذل فيه كل ما يستطيع بذله المستضعف المستذل في مقاومة خصمه من الكيد والحيلة إلى أن يستدير الزمان، وتديل له من عدوه الأقدار، وأما إذا
طال أمد الحرب حتى ضعف الفريقان، ونفدت قواهما، ولم يرجح أحدها على
الآخر بشيء، أو رجح بالدرهم أو القيراط، فلم يكن باستطاعته السيطرة على
خصمه، والاستمرار على قهره، فيوشك أن تكون شروط الصلح متعادلة، وتبقى
الموازنة بين الدول متقاربة، ويستمر ذلك عشرات من السنين يظهر فيها نبوغ
الشعب الذي يفوق غيره في الهمة والاستعداد، وهاك أشهر ما قيل في طمع كل
فريق من الآخر إذا انتصر انتصارًا تامًّا أو قريبًا من التام.
(١١) مقصد دول التحالف الإنكليزي من الحرب الذي لا يكفون عنها
باختيارهم ما لم يصلوا إليه، وهو إزهاق الروح العسكري البروسي الذي نفخ في
جميع الشعوب الألمانية بالحرب، واعتقاد كونها فضيلة وكمالاًً للبشر ثم حل عقدة
الوحدة الألمانية، وإرجاع ممالكها الصغيرة إلى ما كانت عليه قبل الوحدة التي
أنشأها البرنس بسمرك سنة ١٨٧٠، ومنعها من الاستعداد لحرب ثانية، والاستيلاء
على الأسطول الألماني، ثم حل إمبراطورية النمسة والمجر، وإعطاء كل دولة من
دول التحالف أبناء جنسه منها، وبهذا يستميلون دول البلقان إليهم الآن، لأن في
النمسة ملايين عديدة من الرومان، والسلاف، والطليان، وغيرهم، ثم تمزيق
المملكة العثمانية، وتقسيمها.
ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى النص إرجاع بلجيكة كما كانت أما الآستانة
والزقاقان العظيمان اللذان على جانبيها، فالأرجح أن روسية لا ترضى بها بديلاً، إن
ظفروا ظفرًا نهائيًّا، بعد ما أصابها من الخسارة التي هي أضعاف خسائر سائر
حلفائها، ويقال: إن حلفاءها أنفسهم يشترطون تدمير حصون البوسفور والدردنيل،
ونزع السلاح منهما، وعدم تسليحهما في المستقبل، وقيل: إن الآستانة تكون منطقة
حرة؛ ولكنها إن صارت إلى الروس فلابد أن يغتنموا أول فرصة لتحصين الزقاقين
بعد أن يستعدوا لذلك سرًّا.
(١٢) إذا ظفر التحالف الألماني ظفرًا تامًّا، فالمشهور أن ألمانية تريد أن
تضم مملكة بلجيكة إلى ممالك الاتحاد الجرماني، ولا يدرى أيراد جعل بولونية
مستقلة أم تابعة لها أم للنمسة، ولا بد حينئذ من جعل النفوذ الأعلى في البلقان للنمسة،
ويقال: إن ألمانية لا تطمع في أخذ شيء، مما استولت عليه من مملكة فرنسة، إلا
سواحل بحر المانش؛ ولكنها تطمع في جميع مستعمراتها الأفريقية الشمالية،
وتعطي الدولة العثمانية القوقاس الروسية أيضًا، وقد اشتهر أنها تمنيها بإنشاء
إمبراطورية إسلامية كبيرة، ثم إنها تفرض على خصومها غرامة حربية ثقيلة،
وأما استعادة ما أخذ من مستعمراتها، فهي من البديهات التي لا حاجة إلى ذكر طلبها
لها، هذا أقل ما يقال عنها، وقيل بل هي تطمع في جعل أوربة كلها تحت
سيطرتها، لما وجد في مؤلفات غير واحد من رجال العلم والسياسة والحرب فيها
من الحث على السعي لجعل العالم كله خاضعًا للنفوذ الألماني، ومستمدًّا من
الحضارة الألمانية.
ومن الناس من يقول: إن هذه مزاعم افتحرها أعداء ألمانية لينفروا عنها
الشعوب التي على الحياد، ويحملوها على مناوأتها، ولكن وجد من النقل عن
الألمان ما يدل على ذلك، وهو غير بعيد عن العقل، وشواهد التاريخ، فإن بطرس
الأكبر على كونه هو البادئ بتقوية روسية كان يرمي إلى هذا الغرض، ونابليون
الأول كان يمني نفسه به، ومن أصول تربية الأمم أن يبث فيها عقيدة تفضيل نفسها
على غيرها، وكونها أجدرها بالسيادة والسعادة، وكل أمة لا تعتقد هذا الاعتقاد لا
يمكن أن تسود وتعتز؛ ولكن الأمة إذا لم تبن جميع أعمالها الاجتماعية على أساس
هذه العقيدة يقتلها داء الغرور، ولا سيما إذا احتقرت غيرها من الأمم، ولم تقدر
مزاياها حق قدرها، ومن المحتمل أن يكون بعض علماء الألمان بثوا في أمتهم هذه
العقيدة لأجل أن ينهضوا بها في ميادين المسابقة والمباراة للأمم التي سبقتها إلى
الاستعمار وغيره، ثم اغتروا بما وصلوا إليه من العلم والثروة والاستعداد الحربي،
فقرَّب ذلك إلى عقول كثير من حكامهم وقوادهم أنه يمكن لدولتهم القضاء على قوى
الدول الاستعمارية الثلاث (إنكلترة وفرنسة وروسية) وجعلهن تحت سيطرة ألمانية،
وحينئذ تمنعهن من تجديد الاستعداد للحرب، فتنفرد بسياسة العالم في الشرق
والغرب، ولا يبعد أن تزين لكثير منهم فلسفة حب السيادة أن هذا يكون خيرًا للبشر
لأنه يمنع أسباب الحروب بمنع تنافس التحاسد الذي من شأنه أن يكون بين الأقران
من الدول، كما يكون بين الأقران من الأفراد، وأن يتخيل هؤلاء الفلاسفة أن العالم
لما صار باتصال بعضه ببعض كالأمة الواحدة - وجب أن تكون له دولة واحدة
ترجع إليها السلطة العليا، كما ترجع سلطة الولايات من المملكة الواحدة إلى السلطة
العليا في عاصمة المملكة، لأن التفرق مدعاة العداوة والشقاق المفضي إلى التقاتل
والتفاني.
وقد يرد عليهم فلاسفة سائر الأمم بأن ما يزعمونه خيال تولد من اقتران حب
السلطة بالغرور بالقوة، وأن حب السلطة غريزي في البشر، فلن ترضى أمة
بسيادة غيرها عليها مختارة، ولا سيما الأمم التي تَمَكَّنَ في قلوب أهلها عز الحرية
والسيادة، فلا يزال المسود يكيد للسائد، ويتربص به الدوائر، وقد انقرض في
الألزاس واللورين جيل، وتجدد جيل، فكان الجيل الجديد كسلفه يكره الألمان،
ويحب الفرنسيس، فالفلسفة الحق أن انتظام البشر لا يتم في هذا الزمان إلا ببنائه
على قاعدة استقلال الشعوب والأجناس، وأما القوة التي فوض إليها الحكم بين
المتنازعين على السيادة في الأرض فلا يمكن أن تظل محتكرة للغالب، فإذا كانت
هذه الحرب لا تنتهي بإبطال قاعدة (الحق للقوة) ،
وبالرجوع عن فكرة سيادة الأقوياء على الضعفاء، وإكراههم على الخضوع
لما يسوسونهم به ويلزمونهم إياه، وبوضع قواعد مضمونة للمساواة العامة بين
جميع الشعوب والأجناس يكون بها الأدنى مختارًا في اقتباس العلم والحضارة من
الأعلى - إذا لم تنته هذه الحرب بهذا وتضمنه جميع الدول بقانون تتعاهد على تنفيذه
بالقوة والاتفاق على قتال المخالف له، فلا شك في كونها تكون أشأم حرب على
البشر؛ لأنها لا يمكن أن تفضي إلى رضاء المغلوب بسيادة الغالب، بل تفضي إلى
استمالة المغلوبين لغيرهم من الشعوب المغلوبة على أمرها، والمكرهة على
الخضوع لغيرها، والاستعداد لحرب مثل هذه أو شر منها، وإن ظن الغالبون أنهم
قادرون على أن يَحُولُوا دونها.
ونحن نرى أن هذه الفلسفة الأخيرة هي الصحيحة، المُؤَيَّدة بروح الحق
والفضيلة، فعسى أن يكون لنا ولسائر الأمم الشرقية نصيب منها، إذا أراد الله
برحمته أن يكون المنتهى إليها.