للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدولة والألمان
والسِّكتان المتضادتان الشبيهتان بالجمع
بين الكفر والإيمان

للسلطان عبد الحميد حسنة عظيمة في البلاد العربية، لا يصدنا عن
الاعتراف بها، ما قيل من نيته فيها وغرضه منها، ألا وهي سكة الحديد الحجازية،
التي كان يظن ويقال إنه كان الباعث له على إنشائها جعل الحجاز كسائر البلاد
العثمانية في الخضوع لحكومته، والتمكن من سوق الجيوش إليها عند الحاجة،
والمعروف من رأي كثير من رجال الدولة إزالة إمارة الشرفاء من الحجاز منهم
أحمد مختار باشا الغازي، ولا يكون ذلك سهلاً مأمون العاقبة إلا بإتمام هذه السكة،
وهذا هو السبب فيما اشتهر من معارضة شرفاء مكة لمد هذه السكة بين الحرمين
الشريفين.
كنا ولا نزال نرى أن هذه السكة من أكبر الحسنات، على علمنا بما هنالك
من الأقوال والظنون والنيات؛ ولكن للسلطان عبد الحميد سيئة من جنس هذه
الحسنة يزيد وزرها على أجر هذه - إن حسنت النية فيها - أضعافًا كثيرة لعلها
تزيد على سبع مئة ضِعْف، ألا وهي سكة الحديد الألمانية بين الآستانة، والعراق.
من شروط هذه السكة أن الشركة الألمانية تملك عشرين ألف متر (٢٠ كيلو)
عن جانبيها ملكًا خالصًا، فعشرون ألف متر تمتد من أقصى مغرب المملكة الشمالي
إلى أقصى مشرقها الجنوبي، يكوِّن مملكة كبيرة في قلب المملكة العثمانية مساحتها
ضعفا مساحة الأرض التي تزرع في المملكة المصرية، وهي منها في أعز مكان،
كالقلب من بدن الإنسان، فكما أن القلب مصدر الحياة للبدن، كذلك تكون هذه السكة
مصدر الثروة والقوة والعمران في المملكة، فكيف يعيش من يكون قلبه في قبضة
أجنبي عنه، وقد كانت بريطانية العظمى على قوتها تعد وصول هذه السكة إلى
الكويت، أو البصرة خطرًا على مصالحها التجارية في العراق وخليج فارس، بل
خطرًا على ممالكها الهندية، أفلا تكون هذه السكة في قلب مملكة خطرًا عليها؟ بل
إنها وهي لغيرنا أعظم الأخطار لو كانت غفلاً عن ذلك الشرط، فكيف تكون مع
ذلك الشرط؟
قرأنا في أثناء هذه الحرب أخبارًا عن الألمان تدل على أن امتلاكهم لقليل من
الأرض في غير بلادهم أعظم خطرًا عليها مما كان لا يستنبطه إلا أبعد السياسيين
رأيًا، وأشدهم فطنة وحذرًا.
قد امتلك بعض الألمانيين أرضًا في فرنسة، وبلجيكة فظهر بعد الحرب أنها
أعدت في وقت السلم لحرب أهل البلاد التي هي فيها، فكان منها خنادق،
وسراديب، ومواضع لنصب المدافع الضخمة، حتى قيل إن مكانًا أعده رجل
ألماني في بلجيكة للعب الكرة في داره ظهر بعد الحرب أنه أعد لنصب أثقل المدافع
وأقواها، وأنه وضع على البعد المناسب بينه وبين الحصون البلجيكية، وما كان
يمكن دكها وتدميرها إلا منه.
كنا قرأنا في المقطم أن من شروط التحالف بين ألمانية، والدولة العثمانية أن
الأولى لا ترضى بعقد صلح إلا إذا اشترط فيه سلامة أملاك الثانية، وأنها تعطيها
خمس الغرامة الحربية التي ترجو أن تأخذها، على كونها هي التي تقدم لها السلاح،
والذخيرة، والمال لأجل الحرب، وقرأنا وسمعنا أنها وعدتها ببلاد القوقاس،
وغير القوقاس من البلاد الإسلامية، وكنا نفضل على كل هذه العطايا الغيبية لو
اشترطت عليها الدولة أن تبطل من شروط سكة الحديد البغدادية امتلاك عشرين
ألف متر عن جانبيها، إذا لم يمكن أن تترك لها هذه السكة كلها، فإن كون قلب
بلادنا خالصًا لنا أهم وأنفع لنا من ضم بلاد أخرى إليها، فلأن أملك مئة فدان من
الأرض ملكًا خالصًا أستطيع أن أعمرها كما يجب، أفضل وأنفع لي من ألف فدان
فيها حقوق للأجانب الذين يستطيعون من عمارتها ما لا أستطيع، ويخشى أن يَئُول
أمرها كلها إليهم، على أن بلاد الدولة أوسع من بلاد عدة دول من الدول الكبرى،
فلو عمرت لكانت غنية بها عن سواها.
فنحن نتمنى لو تقترح الدولة على حليفتها القوية أن تعطيها هذه السكة أو تلغي
من شروط امتيازها ذلك الشرط لتجعل هذا دليلاً على إخلاصها في محالفتها،
ورغبتها في بقائها مستقلة قوية بعد انتصارها معها، وإلا كان الخوف منها أكبر من
الرجاء فيها.