للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح الإسلامي والجرائد
عندما عزمنا على إنشاء المنار كاشفنا بعض أهل النظر والخبرة بعزمنا،
وشاورناهم في الأمر، فقال أوسعهم اختبارًا: إن الجريدة لا تروج إلا إذا جاءت
بمشرب جديد وطرقت سبلاً لم تكن تُطرق، وهي مما يحتاج إلى السلوك فيها. ولما
ظهر المنار، اعترف صاحب هذا الرأي كغيره بأنه جاء بما لم تأتِ به الأوائل
من بيان الأمراض الاجتماعية التي طرأت على الأمة الإسلامية والشرق كله،
والبحث في أسبابها وعلاجها، وحمد سعينا وعملنا العقلاء والفضلاء وأصحاب
الجرائد خاصة قولاً وكتابةً، إلا أن جريدة معلومات العربية انتقدت علينا مرة ما
كتبناه عن مراكش من سوء الحال، ودوام الاختلال، المُؤْذِن - إن لم يُتدارك -
بالزوال، وبَنَت انتقادها على أن تلك البلاد متمسكة بالدين، ومن لوازمه الانتظام
وحسن الحال، وأنه ما كان ينبغي لنا أن نهول ببيان ضعفها واختلال شؤونها،
محافظة على كرامتها، نعم، إنها مع ذلك استحسنت ما نصحنا به سلطان مراكش
من الاستعانة بمولانا السلطان الأعظم على الإصلاح بأن يطلب منه رجالاً لِبثِّ
المعارف والفنون العسكرية في بلاده، ومن الغريب أن بعض أكابر رجال الدولة
كتب إلينا يومئذ يستحسن ما نشرناه في شأن مراكش إلا الاستعانة بسلطاننا، قال:
لئلا ترسل إليه الدولة مثل فلان، وذكر رجلاً من موظفي المعارف يعلم أننا واقفون
على جهالته، وانتقد علينا أيضًا من إدارة جريدة طرابلس، فكتب لنا أولاً [١] بأننا
بيَّنَّا معايب المسلمين، وكشفنا الستار عن جهالتهم وضعف دولهم وأنه كان ينبغي لنا
أن نسدل الستار على هذه المخازي والمقاذر، ونؤول للمخطئين على أعين الناس من
الأجانب والأعداء، ثم كتب في الجريدة شيء من هذا، ووافق طرابلس على هذا
الرأي جريدة مصرية واحدة لا قيمة لها فنذكر اسمها.
ثم ماذا - لم يمضِ على المنار إلا أشهر حتى رن صوته في الآذان، ولهجت
بمواضيعه الألسن، وظهر لها أثر في الجرائد، واتفق أن الآلام التي دفعت بنا إلى
الكتابة في هذه المواضيع، حركت بعض من ألمَّت بهم من الكُتاب في المشرق
والمغرب، وحملتهم على الكتابة في الأخطار التي تتهدد الشرق كله والمسلمين فيه
بخصوصهم، فكانت جريدة المؤيد ملتقى أفكارهم، ومنعكس صدى أصواتهم، ولم
يطُل الأمد على نشر مقالة المراكشي ومقالة الهندي فيها (وفي المنار) حتى جاءته
رسالة ضافية من حضرة جودت بك محرر جريدة (إقدام) في الآستانة العلية
في ضعف الأمة الإسلامية أو الأخطار التي تحدق بها، وما عساه يقيها منها، وليس
في تلك الرسالة جملة لم يرد مثلها في المنار، حتى توهم بعض المصريين أنها قد
لخصت من المنار تلخيصًا.
ثم نشرت جريدة معلومات العربية مقالة وجيزة في الموضوع وجهت إليها نظر
المؤيد، فنشرها ثم جاءنا العدد الأخير من جريدة طرابلس، فإذا هي مفتتحة بمقالة
لخصت فيها ما كتبه جودت بك، وما جاء في معلومات معترفة بما أنكرته علينا من
قبل، فالحمد لله على الوفاق بعد الخلاف.
ذكرت معلومات أن للإصلاح ١٣ أصلاً لا بد منها، وذكرت أصولاً مجملة
مبهمة متداخلة، الأول منها: (الاعتصام بالدين القويم) ويا ليت شعري ما مراده
به؟ فإن كان مراده التعاليم الشائعة التي يسميها الناس دينًا، فهي التي أوقعتهم فيما هم
فيه، وذلك كالتوحيد أو التوكل الذي رماهم بالجبر والكسل، فمنعهم من الاعتماد على
الأسباب التي ناط الله بها مصالح الكون دون الاعتماد على الشيوخ أحياءً وأمواتًا،
وطلب الحوائج من قبورهم ... إلخ ما شرحناه غير مرة في المنار، ومَن فهم الدين
مقلوبًا مما يأتيه بعض المتديّنين من أمرائنا وأغنيائنا من بذل الأموال الوافرة لعمارة
الأضرحة والقُبَب عليها باسم الدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عمارة
القبور في أحاديث كثيرة. ومن ذلك ما نقل إلينا أخيراً عن السلطانة عديلة عمة مولانا
السلطان الأعظم التي ماتت من عهد قريب مِن أنها أرسلت جميع ما عندها من الحلي
والجواهر إلى المدينة المنورة ليزيّن بعقد منها - يساوي ١٨٠ ألف جنيه - قبر السيدة
فاطمة عليها السلام، ويصنع من الباقي - وثمنه نحو ١٥٠ ألف جنيه - ثُريا
(نجفة) تعلق في روضة النبي (عليه الصلاة والسلام) ولو أنها كانت تعلم أن النبي
وبنته لا يحبان الزينة، لا سيما بعد الموت، وأنهما يحبان العلوم والمعارف -
لأوصت بأن تُصرف هذه الأموال لفتح المدارس في تلك البلاد التي كانت مشرق أنوار
المعارف للكون، فأمست من أجهل البلاد، وضيقت الدولة في أمر المطبوعات التي
تدخلها، حتى إن كل عدد من أي جريدة لا يدخل الحجاز إلا بأمر من الآستانة، على
ما بلغنا، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله تعالى، وقيل: إن حلي
السلطانة أرسل للمدينة لغير تلك الغاية.
(الأصل الثاني: الاعتصام بحبل الخلافة) : وهذا يدخل في الأول، كما
يدخل فيه قيام الخليفة بحقوق الخلافة على ما شرحناه في مقالات الإصلاح الديني.
(الثالث: علم العلماء وأعاظم الأمة ما عليه الأمة وتركهم ترجيح النفع
الخاص على العام) ومَن الذي يقلب تربيتهم، وأكثرهم عالِم بحال الأمة ويائس من
إصلاحها؛ ولذلك يعمل لنفسه فقط.
(الحادي عشر: إصدار جريدة في كل بلدة إسلامية تختص مباحثها بما
يناسب شأن تلك البلدة وارتقاء أهلها علمًا وأخلاقًا) وهذا الأصل يمكن أن يوجد فيما
عدا بلاد الدولة العلية من بلاد الإسلام، فإننا قد أنشأنا المنار لهذه الغاية، فكانت تمنع
أعداده من بلاد سوريا بحجة أننا نرمي المسلمين بالجهالة ونقول: إنهم في حاجة
إلى التربية والتعليم بالصبغة الدينية، ثم صدرت الإرادة السنية من مقام الخلافة
الإسلامية بمنعها من البلاد العثمانية بكلمة كتبها للمابين والي بيروت (رشيد بك)
الذي يعرف مولانا السلطان فمن دونه حقيقة حاله السيئة، فبلاد يمنع فيها عمل عظيم
عام الفائدة بكلمة من جهول فاسد الأخلاق سيئ الأعمال، هل يمكن يجري فيها
إصلاح؟ ونحن قد سبقنا معلومات لمثل هذا الاقتراح في مقالات الإصلاح
الديني.
أما بقية الأصول التي ذكرها فهي ترجع إلى شيء واحد هو: تأليف شركات
مالية لتعميم المدارس للذكور والإناث، ولطبع المؤلَّفات النافعة، وإنشاء المنتديات
العلمية، وتوظيف خطباء طوافين، وكل هذه المباحث قد فصلنا القول فيها تفصيلاً
وإنشاء المنتديات العلمية متعذر في دار السلطنة ومتعسر في سائر بلاد الدولة؛ لأن
كل اجتماع يكون مدعاة لبث الدسائس من الجواسيس كما هو معلوم، ومن العجب
أنه ذكر التعليم ولم يذكر التربية، وهي الركن الأهم الأنفع.
وفي الختام نسأل الله تعالى بكمال الإخلاص أن يوفق حكامنا وعلماءنا وجرائدنا
لما فيه خير الأمة والملة، ونحمد الله ونثني عليه أن وفق الجرائد في بلاد الدولة
على مشاركتنا في البحث في أمراض الأمة وعلاجها، ونرجو من فضله أن يقي
أصحابها من ولاة السوء الذين يصدون عن سبيل الله مَنْ آمن ويبغونها عوجاً،
فيواظبوا على هذا العمل المبرور الذي يُحيي الهمم، ويبعث على النهوض، وبالله
التوفيق.