للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(١٠)
سموم الميكروبات:
تحدث بنمو كل نوع من الميكروبات مواد عديدة في السائل الذي تربى فيه،
ومن أضرها مواد زلالية، ومواد آزوتية تشبه المواد الآزوتية النباتية المسماة
[Alkaloids] أي الشبيهة بالقلوية كمادة الإستركنين، وهي مواد تفتك بالأحياء
فتكًا ذريعًا مهما تكن قليلة، وهذه المواد تتولد بطريقتين: الأولى أنها تتولد في نفس
جسم الميكروب، ثم تخرج منه شيئًا فشيئًا، والثانية أنها تتولد في السائل نفسه؛
وذلك بإفراز الميكروب مادة ثم (خميرة) تشبه الخمائر - المذكورة في الجزء
الأول - وهذه الخميرة لها تأثير كيماوي مخصوص في المواد المحيطة بها، فتحدث
فيها تركيبًا وتحليلاً ينشأ منه مواد متنوعة.
ومن الميكروبات ما يبقى جل سمه في جسمه، ولا يخرج إلا إذا استخلص
منه ببعض الطرق العلمية، وذلك مثل ميكروب الطاعون، والكوليرا، والحمى
التيفودية، ويسمى مثل هذا السم (بالسم الكامن) (Endotoxin) وفي الجسم
المريض تنحل بعض هذه الميكروبات، فتخرج منها سمومها وتسري فيه؛ فتُحْدِث
المرض.
ومن المواد التي تتولد في السائل الذي يربى فيه الميكروب ما يقتل الميكروب
نفسه؛ فإنها قد تولد حامض الفنيك أو الغول (الكحول) أو الخل إلى غير ذلك من
المواد التي تُستعمل مطهرات لقتل الميكروبات.
الميكروبات والبيئة:
تنقسم الميكروبات - باعتبار ما تعيش فيه - إلى ثلاثة أقسام: فمنها ما لا
ينمو عادة إلا في الحي [١] ، ومنها ما لا ينمو إلا في الميت، ومنها ما يمكنه أن ينمو
في الاثنين معا، فمثال الأول ميكروب الحمى الراجعة، ومثال الثاني بعض
ميكروبات الحمى النفاسية، وهي التي تعيش في الدم والسوائل المنتنة التي تتخلف
أحيانًا في الرحم عقب الولادة.
ومن هذا النوع الميكروبات التي تُحْدِث تحليل جثث الموتى، والتي تفسد
اللبن فيخثر، ومنها ما يحول البولينا إلى كربونات النوشادر، والخمر إلى خل،
ولهذه الميكروبات فائدة كبرى في العالم؛ فإنها تحول الأجسام المركبة إلى بسائط
فتعود إلى عالمي الحيوان والنبات؛ فينتفعان بها؛ ولذلك وجد العلماء طريقة عظيمة
لتحليل المواد البرازية؛ فإنها تُلقى في مستودعات مخصوصة؛ فيتسلط عليها في
أولاها الميكروبات التي لا تنمو في الأكسجين، وفي الثانية الميكروبات التي تنمو
فيه؛ فبذلك تتحلل جميع المواد البرازية، وتستحيل إلى ماء وغاز ثاني أكسيد الفحم،
وأملاح النيترات.
وهذه الأشياء كلها صالحة للنبات؛ فيسقى بها الزرع، وفيه تتحول مرة
أخرى إلى مواد مضاعفة التركيب ضرورية للحيوان والنبات، فكأن نظام هذا العالم
موقوف على عمل الميكروبات والنباتات، ولولاها لفسد وبطل.
فالنباتات الدنيئة (البكتيريا) تركب قليلاً، وتحلل كثيرًا، والنباتات الكبيرة
تركب كثيرًا، وتحلل قليلاً كتحليلها بعض غازات الهواء، فعلى النبات مدار الحياة
ومثال الميكروب الذي يعيش عادة في الحي والميت باسيل التيتانوس، وكذلك
باسيل الدفثيريا (والتي منها الخناق) فإن هذين الميكروبين يعيشان كثيرًا في الطين،
وقد ينتقلان منه إلى الإنسان، إلا أن ميكروب التيتانوس لا يعيش في جسم
الإنسان بعد ظهور أعراض هذا المرض إلا قليلاً، ومن طرق وصول ميكروب
الدفثيريا إلى الإنسان أنه يكون مختلطًا بالطين؛ فإذا زادت المياه التي في جوف
الأرض كما يحصل عند فيضان الأنهار ضغطت على الهواء الموجود خلال الطين
فيندفع منها إلى جو المدن حاملاً لهذا الميكروب الخبيث؛ فيصاب كثيرون بهذا
المرض.
والميكروبات لا تموت ما لم يقتلها شيء، وأكثرها مقاومة للطوارئ ما كان له
حبيبات، وهذه الحبيبات نفسها تعيش مدة طويلة من الشهور أو السنين حتى في
الأحوال غير المناسبة للحياة كالجفاف والبرد، ولا عجب في ذلك فقد عُرِفَ أن
بعض حبوب النباتات الكبيرة عاش نحو مئة سنة.
ولا يُعْلَم بالتحقيق أن الحبوب يمكنها أن تعيش (أعني تبقى حية) أكثر من
ذلك، وما قيل من أن حبوب بعض الهياكل، أو القبور القديمة نبت بعد ألوف من
السنين فهو كذب محض، وقد ثبت أن حبوب القمح تعيش نحو سبع سنين على
الأكثر، وعليه فالقمح الذي خزنه المصريون في زمن يوسف عليه السلام كان يمكن
إنباته في نهاية السنة السابعة، وأكثر الميكروبات التي لا حبيبات لها تُقْتَل عادة
بحرارة ٦٥ سنتغراد في نحو نصف ساعة.
وميكروبات التعفن تقتل الميكروبات المرضية عادة، وهذه الميكروبات
التعفنية تكون في الغالب من النوع الباسيلي (المستطيل) ، فإذا أصيب إنسان
بالتسمم الصديدي الناشئ على الأكثر من البذور السلسلية ومات، فأراد طبيب أن
يشرح جسمه عقب الوفاة مباشرة، كان من أشد الخطر على هذا الطبيب أن يجرح
ويتلقح جسمه بشيء من الجثة، وأما إذا تركت هذا الجثة زمنًا حتى تتعفن؛ فإن
ميكروبات المرض التي فيها تقتلها ميكروبات التعفن شيئًا فشيئًا، حتى تزول من
الجثة، وحينئذ لا يكون في تشريحها خطر على حياة الطبيب.
أبواب دخول الميكروبات في الجسم:
لدخول الميكروبات في الجسم أبواب عديدة، وهي الرئتان (لمثل ميكروب
الحمى القرمزية) والجهاز الهضمي (لمثل ميكروب الحمى التيفودية) والجلد
(لمثل الزهري) والأغشية المخاطية كأغشية أعضاء التناسل أو العين وغيرها
(لمثل السيلان والدفثيريا) .
ولا يشترط أن يكون سطح الجسم، أو الأغشية المخاطية مجروحة، فقد
يدخل الميكروب من الأماكن ذات الجلدة الرقيقة، أو من مسامها؛ ولكن الجرح أو
السحج مما يسهل دخوله كثيرًا كما هو ظاهر.
فإذا دخل الميكروب من هذه المنافذ، فمنه ما يبقى في مكان دخوله، ومنه ما
يصل إلى الدم، أو المادة اللمفاوية، ويدور معها حيث دارت، وفي كلتا الحالتين
يولد الميكروب سمًّا زعافًا، وهو الذي يقتل الحيوانات، ويحدث فيها جميع
الحميات، إلا أن بعض هذه الميكروبات يحدث أمراضًا ليست الحمى شرطًا فيها
مثل مرض (الكُزاز) .
فمثال ما يدور في الدم ميكروب (التسمم الصديدي وميكروب الحمى الراجعة)
ومثال الذي لا يدور في الدم (التيتانوس والدفثيريا) فإن ميكروبهما يبقى على
الأكثر في مكامن التلقيح إلا أنه بعد الموت قد ينفذ إلى جميع أجزاء الجثة، وإذا نفذ
إلى الدم في أثناء الحياة التهمته كريات الدم البيضاء، أو بقي في بعض الأعضاء
التي تعتقله فيها، وتقتله غالبًا بخلاياها، كالكبد والطحال.
زمن التفريخ:
إذا دخل الجسم أي نوع من الميكروبات لا يحدث المرض فيه في الحال، بل
لا بد من أن يمكث زمنًا يتراوح بين يوم أو عدة أسابيع أو عدة سنين (كما في داء
الكَلَب والجذام) فإنهما أطول الأمراض مدة [٢] ، وفي هذا الزمن يتكاثر الميكروب
في الجسم، ويحمل عليه بسمومه فإذا بلغت درجة مخصوصة ابتدأ المرض في
الظهور، فمن الناس من يختلط مثلاً بمصاب بالجدري، ولا يظهر فيه المرض إلا
بعد نحو ١٢ يومًا عادة، وهذا الزمن يختلف باختلاف الأمراض؛ فإن لكل منها
زمنًا مخصوصًا، ويسمى هذا الزمن بزمن التفريخ أو الحضانة.
وقد عُرفت ميكروبات كثير من الأمراض، ولبعضها ميكروبات لم تُعْرَف إلى
الآن (كالحصبة) ؛ فإن الدلائل تدل على أن لها ميكروبًا لم يُكْتَشَف إلى الآن.
وهذه الأمراض التي عرفت ميكروباتها منها ما له ميكروب مخصوص
كمرض الدرن، ومرض الحمى التيفودية، ومنها ما يشترك فيه عدة ميكروبات
كمرض (التهاب الغشاء المبطن للقلب) ، و (الخراجات) فإنهما يحدثان من
ميكروبات مختلفة.
أمارات اختصاص الميكروب المعين بالمرض المعين:
يدل على اختصاص بعض الميكروبات ببعض الأمراض أمور كثيرة منها:
(١) وجود الميكروب دائمًا في هذا المرض.
(٢) إذا حقن حيوان بهذا الميكروب وكان مستعدًّا للمرض حصل له ووجد
هذا الميكروب المخصوص في جسمه.
(٣) عدم وجود هذا الميكروب في الجسم السليم أو المريض بغير هذا المرض، ويستثنى من ذلك بعض الميكروبات، كالبزور المزدوجة المسببة للالتهاب الرئوي فإنها توجد في فم الصحيح وأنفه،وتوجد أيضًا في غير الالتهاب الرئوي كما في التهاب الشَّغاف (الغشاء المحيط بالقلب الذي يسمونه الآن التامور) وكذلك تستثنى مسألة حاملي الأمراض التي سنفصلها.
مصادر الميكروبات:
تتصل الميكروبات بالإنسان من عدة جهات (١) الهواء (٢) الشراب
(٣) الطعام (٤) التراب (٥) سائر أجسام الأحياء، والجمادات كالملابس مثلاً،
وسيأتي - إن شاء الله - في باب الحميات بيان طرق وصول الأمراض المختلفة
إلى الإنسان تفصيلاً.
شرط تأثير الميكروبات والوقاية منها:
ما كل أحد يتصل به ميكروب مرض يصاب بذلك المرض، بل هناك وقاية
للحيوانات من فتك هذه الميكروبات بها دفعة واحدة، ولولا ذلك لهلكت الأحياء في
زمن قصير.
وهذه الوقاية (وتسمى أيضًا المناعة) منها ما هو فطري (أي يولد بها
الإنسان) ومنها ما هو مكتسب، أما المناعة الفطرية فقد تكون خاصة بالجنس أو
النوع كبعض الأمراض، فالجذام مثلاً خاص بالإنسان لا يصيب أي حيوان آخر،
وبعض الأمراض يصيب بعض الأنواع دون بعض، كالحمى الصفراء فإنها لا
تصيب السود إلا قليلاً، وبعض الأمراض تصيب بعض البيوت (الأسر) أو
الأفراد دون البعض الآخر، وكل ذلك لأسباب لا نعلمها على وجه التحقيق، وخير
الوقاية ما كان فطريًّا:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عالٍ من الأُطُم
ومما يهيئ الجسم للعدوى التعب، والجوع، والبرد، وكل ما ينهك القوى
والإدمان على الخمور، إلا أن بعض الأشخاص قد يكونون سليمين من كل عيب،
ومع ذلك يصابون ببعض الأمراض، فمثلاً قد نجد أن أسمن الأطفال، وأحسنهم
صحة يصابون بالقرمزية، وتفتك بهم كثيرًا بينما الأطفال الآخرون الضعاف لا
يصابون بها، أو إذا أصيبوا كانت إصابتهم خفيفة.
أما المناعة المكتسبة وما في معناها كالعارضة بسبب يشبه الكسبي
فتكون بما يأتي:
(١) من الأمراض ما إذا أصيب به الإنسان مرة واحدة حمى جسمه من
الإصابة بهذا المرض مرة أخرى كالزهري والحصبة والجدري مثلاً.
(٢) من الأمراض ما إذا أصيب به الإنسان حمى جسمه من أمراض أخرى
تغايره بعض المغايرة، فمنها جدري البقر إذا أصاب الإنسان أو لُقح به حماه من
الجدري الإنساني، ومنها الحمى الراجعة إذا أصيب بها شخص حمته غالبًا من
التيفوس؛ ولكنها لا تحميه من نفسها.
(٣) بحقن سم الميكروب، أو مصل يُستخرج من الحيوانات بطريقة
مخصوصة، كما في مرض الدفثيريا مثلاً، وبيان ذلك أن يُزرع ميكروب الدفثيريا
في سائل (كالمرق) ، ثم يصفى هذا السائل من الميكروب، ويُحقن حصان بجزء
صغير من هذا السائل المصفى، ونظرًا لوجود سم ميكروب الدفثيريا في السائل
المحقون به يُصاب الحصان ببعض أعراض مرضية خفيفة تزول سريعًا كالحمى
وورم في مكان الحقن، ثم يُحقن هذا الحصان بمقدار من السائل أكبر، فأكبر حتى
يصل الحصان إلى حالة لا يتأثر معها بهذا السم المحقون فيها؛ وعندئذ يتولد في
دمه مادة مضادة لسم الدفثيريا، فإذا أُخذ دم هذا الحصان، واُستخرج مصله كان هذا
المصل نافعًا لإفساد سم الدفثيريا، وإذا حقن به الإنسان وقت انتشار هذا المرض
حفظه منه لمدة ثلاثة أسابيع عادة؛ وكذلك إذا حقن به المصاب بالدفثيريا نفعه نفعًا
عظيمًا، وأدى إلى شفائه.
(٤) حقن ميكروب المرض نفسه ميتًا، أو بعد إضعاف تأثيره بطرق
سيأتي الكلام عليها في داء الكلب، وتسمى المادة المحقونة " باللقاح " ومن ذلك حقن
ميكروب التيفود بعد قتله، وحقن ميكروب الكلب بعد إضعافه، وإن كان ميكروب
الكلب إلى الآن لم يُكتشف، بمعنى أنه لم يره أحد؛ ولكننا موقنون بوجوده، فإذا
لُقح الشخص تولدت في جسمه مادة مضادة لهذا الميكروب المحقون، وبذلك لا
يكون له تأثير في إحداث المرض، وقد يحقن الميكروب بدون إضعافه؛ ولكن
بمقادير قليلة جدًّا تزاد تدريجًا.
والميكروبات التي تزرع بقصد الحقن منها ما يفرز سمًّا في السائل المزروع
فيه، ومنها ما يكون سمه كامنًا في جسمه - كما تقدم - وذلك مثل سم ميكروب
الطاعون، ولا بد من ملاحظة هذه المسألة قبل الحقن، فإذا أريد حقن حصان
لاستخراج مصل منه نافع للطاعون، فلا يجوز حقنه بالسائل الذي يربى فيه
الميكروب، فإنه يكاد يكون خاليًا من السم إذا لا يخرج منه شيء يذكر من جسم
الميكروب؛ ولذلك يجب أن تستعمل طريقة أخرى للوقاية من الطاعون، كأن يحقن
الشخص المراد وقايته بنفس السائل بدون تصفيته بعد قتل ميكروب الطاعون الذي
فيه، وذلك بتعريضه مدة ساعة لحرارة درجتها ٦٥ بالمقياس المئيني، ولا يصح
قتل الميكروب بالغلي فإن ذلك يفسد سمه، أو يغيره تغييرًا يجعله غير صالح لما
نريد.
وقد ذهب علماء هذا العلم في تفسير مسألة الوقاية مذاهب عديدة، نذكر
هنا أشهرها:
(١) مذهب القائلين (بنفاد السَّماد) ، ومعنى ذلك أنهم يقولون إن في جسم
الإنسان بعض مواد لازمة لحياة الميكروبات تكون كالسماد لها؛ فإذا أصيب الإنسان
يمرض ما كالجدري مثلاً نفد هذا السماد الضروري لحياة ميكروبه من جسم الإنسان؛
ولذلك لا يصاب به عادة مرة أخرى، وهذا التفسير أصبح الآن مردودًا عند
جمهور العلماء.
(٢) مذهب القائلين باحتباس سم الميكروب في جسم الإنسان، وذلك أن
الإنسان إذا أصيب بمرض ما تولد من الميكروب سم يُهلك نفس هذا الميكروب
ويفسرون بذلك سبب شفائه من المرض، ويقولون إن هذا السم يبقى في جسمه بعد
ذلك، ويقتل هذا الميكروب الخاص إذا دخل في جسمه مرة أخرى.
(٣) مذهب الفرنسويين، وهم يقولون إن الكريات البيضاء في دم الإنسان
تقتل الميكروبات لاسيما إذا تعودت أكل نوع مخصوص منها؛ فإنها تلتهمه بشراهة
قوية.
(٤) مذهب الألمانيين، وهم يقولون: إن الإنسان أو الحيوان إذا أصيب
بمرض ما أفرزت منسوجات الجسم المختلفة مواد تجري في دمه، وهذه المواد منها
ما يهلك الميكروب، ومنها ما يفسد سمه، كالمادة المتولدة في مصل الحصان التي
ذكرت سابقًا للوقاية من الدفثيريا أو لشفائها.
والحق شائع بين مذهبي الفرنسويين والألمانيين، وأحسن المذاهب مذهب من
يجمع بينهما كمذهب بعض علماء الإنكليز، وغيرهم بأن يقول: إن الإنسان إذا
أُصيب بمرض تولدت في جسمه تلك المواد التي قال بها الألمانيون، وهذه المواد
تُفْسِد سم الميكروب أولاً، وتضعف نفس الميكروب أو تقتله ثانيًا؛ حتى تقوى عليه
كريات الدم البيضاء؛ فيسهل عليها أن تلتهمه وتهضمه هضمًا.
وقد عرف من عهد قريب أنه يوجد في دم الإنسان في الحالة الطبيعية مواد
تسمى المواد الإدامية (Opsonins) وهذه المواد تؤثر في الميكروبات تأثيرًا
مخصوصًا حتى تجعلها كأنها طعام لذيذ للكريات البيضاء، ولذلك سميت بهذا الاسم
تشبيهًا لها بالإدام.
ومقدار هذه المواد يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وكلما كثرت كانت
البنية أشد مقاومة للميكروب، وهي تزيد بالحقن باللقاح، وبالمرض إذا قاومته
البنية أو غلبته.
ومدة الوقاية من الأمراض تختلف كثيرًا، فإذا أصيب الإنسان بالزهري أو
الجدري فقل أن يعود إليه هذا المرض طول حياته، وإذا أصيب بالدفثيريا أو
الالتهاب الرئوي فقد يعاوده المرض.
ومن الناس من يجتمع في جسمه مرضان، أو أكثر كاجتماع الدفثيريا مع
الحمى القرمزية، وكانوا يظنون سابقًا أن ذلك غير ممكن؛ ولكن الحقيقة أن الجسم
إذا أصيب بمرض كان أكثر تعرضًا للأمراض الأخرى، مما إذا كان سليمًا، وذلك
لضعف قوة المقاومة.
ومن الأمراض ما تُورَّث إما بنفسها كالزهري، وإما بالاستعداد لها كالسل،
فإذا كان أب الإنسان مثلاً مصابًا بالزهري وُلد ابنه مصابًا به أيضًا، وإذا كان
مصابًا بالدرن الرئوي (السل) كان ابنه غالبًا خاليًا من ميكروب هذا الداء؛ ولكن
جسمه يكون مستعدًّا له كل الاستعداد؛ فيصاب به عادة عاجلاً أو آجلاً.
حاملو الأمراض:
إذا أصيب المرء بمرض كالحمى التيفودية، أو كان جسمه ممتنعًا عليه لسبب
ما، ودخلت الميكروبات في أمعائه فمن الجائز أن تعيش في جوفه أشهرًا عديدة،
أو سنين كثيرة، ربما بلغت الخمسين بدون أن يشعر بمرض منها؛ ولكنه يكون
خطرًا على غيره من المستعدين لهذا الداء، وذلك لأن الميكروب يتكاثر في بعض
أحشائه كالأمعاء، أو المرارة، أو الكلى، والمثانة، ويخرج في برازه أو بوله
فيصل إلى طعام الآخرين أو شرابهم ويوردهم موارد الهلاك، ويسمي العلماء
أمثال هؤلاء الناس (حاملي الأمراض) ومنهم من يتكون عنده حصيات في المرارة
بسبب هذه الميكروبات، ولبعض الأمراض الأخرى حاملون كالدفثيريا والكوليرا
وغيرهما.
ومن ذلك يُعْلَم أن الحاملين نوعان:
(١) الحاملون الأصحاء: وهم الذين لم يصابوا بالمرض مطلقًا؛ وإنما كمن
فيهم ميكروبه من غير أذى.
(٢) الحاملون الناقهون: وهم الذين يوجد فيهم الميكروب في أثناء
النقاهة من المرض، أو بعدها بمدة مديدة، ويسمون حينئذ بالحاملين المزمنين.
***
الفطر
نوع من الميكروب له خلايا عديدة، وهو أيضًا من فصيلة النبات، إلا أنه
خالٍ من الكلوروفيل، ويتركب من خيوط دقيقة جدًّا، مشتبك بعضها بالبعض الآخر
بغير نظام - وهو الأكثر - كميكروب القرع، أو ببعض نظام - كما في الفطر
الشعاعي (fungus - Ray) .
وبين هذه الخيوط، أو عند مركزها توجد حبيبات كالتي ذكرت في
الميكروبات السابقة، وهي بزور الفطر، ومن الفطر ما يصيب الجلد فيحدث فيه
أمراضًا متنوعة كالقرع، ومنه ما يصيب الفم أو الرئتين وغير ذلك مما سيأتي بيانه
في باب الأمراض المعدية.
ولخلو الفطر من الكلوروفيل لا يمكنه تحليل غاز ثاني أكسيد الفحم، فهو بذلك
يشبه البكتيريا.
ضرورة الكلوروفيل والشمس للحياة:
اعلم أن الكلوروفيل من أوجب ضروريات الحياة في هذا العالم، إذ بوجوده
في النبات يمكنه تركيب النشاء الضروري لتكوين مواد أخرى كثيرة مما في النبات
وهي ضرورية للحيوانات أيضًا، وذلك بتأثير أشعة الشمس معه في الأجسام،
ويحتاج الكلوروفيل لوجود مادة الحديد في الأرض، وإن كانت لا تدخل في تركيبه،
بخلاف حمرة الدم؛ فإن الحديد داخل فيها.
وإذا تأمل الإنسان في هذا العالم وجد أن الحياة تفاعل في قوى المادة كتفاعل
النار تبعًا لسنن مخصوصة، ومن الصعب أن يضع الإنسان تعريفًا لها جامعًا مانعًا
لدخول مثل النار فيه، فإنها تشبه الأحياء في احتياجها إلى غذاء (وقود) ، وتخرج
منها أجسام كما تخرج إفرازات الأحياء وتنقسم كانقسامها وتتحرك كحركتها إلى غير
ذلك من الصفات المشتركة، إلا أن حركتها لا تدل على شيء من الإرادة كحركة
بعض الأحياء (راجع صفحة ٤٢ و ٤٣ من الجزء الأول) .
هذا - وكان المتقدمون يرون أن الشمس ضرورة لتكون الكلوروفيل في
النبات؛ ولكن وجد أنه قد يتكون بحرارة عالية في الظلام التام، ومن هذا نرى أن
الحرارة أو النار سواء أكانت من الشمس أم من غيرها هي الأصل الأصيل للأحياء
قاطبة، ويصعب فصل مفهوم إحداهما (الأحياء والنار) عن الأخرى بالدلائل
المقنعة.
***
الملائكة
كان القدماء لصغر عقولهم لا يقدرون على الاعتقاد بأن إلهًا واحدًا يمكنه تدبير
هذا الكون العظيم كله؛ فلهذا أشركوا به تعالى غيره فجعلوا لكل شيء إلهًا، وكذلك
لكل قوة من قوى هذا الوجود، حتى جعلوا لبعض أعمال الإنسان آلهة، ومن ذلك
ما نراه من أساطير اليونان مثلاً، فإن لهم إلهًا للرياح، وآخر للحرب، وثالثًا للنوم
ورابعًا للنار، وخامسًا للزواج إلى غير ذلك من الآلهة التي تكاد لا تُعَدّ، ولكل من
هذه الآلهة اسم باليونانية يعرفه العالمون بتلك اللغة.
ولما جاءت الرسل إلى الناس كان من أكبر مقاصدهم أن يردوهم عن الشرك
إلى التوحيد، فأبى أكثرهم ترك ما هم عليه، ومن آمن منهم صعب عليه أن يترك
جميع هذه الآلهة مرة واحدة، فأخذوا يسمونها بأسماء أخرى؛ ولكنهم بقوا معتقدين
بوجودها، وتدبيرها لهذا الكون العظيم، ومن ذلك ما نراه في إسرائيليات اليهود
فإنهم ذهبوا إلى أن لكل شيء في هذا العالم مَلَكًا قائمًا بتدبيره، فقالوا إن للمرض
ملكًا، وكذلك للنار، وللماء، وللوحوش، وللطيور، ولسائر الحيوانات، وللريح
وللرعد، وللشجر لكل منها ملك، وللموت ملكان واحد يقبض أرواح القاطنين
بأرض إسرائيل، وآخر يقبض أرواح غيرهم من الساكنين في سائر البقاع الأخرى
ولم يكفهم ذلك، بل زعموا أن الوباء (الطاعون) إذا انتشر فيهم؛ كان بسبب
ملاك يرسله الله تعالى إليهم، ومن ذلك ما روي في سفر صموئيل الثاني (إصحاح
٢٤: ١٥ - ١٧) أن داود رأى الملاك الذي ضرب بني إسرائيل بالوباء فمات
منهم ٧٠ ألف رجل.
وقد دخلت هذه الإسرائيليات في الإسلام مع من دخلوا فيه من أهل الكتاب،
وقال المسلمون بملائكة كملائكة اليهود، مع أن القرآن الشريف لم يثبت إلا وجود
القليل منها كما هو معلوم، على أن لنا في فهم معنى كلمة " مَلَك " وجهًا آخر غير
ما يفهمه أكثر الناس، وذلك أن هذا اللفظ مشتق من (مألك) بضم اللام وفتحها،
وهو اسم الرسالة، وقيل مأخوذ من لفظ (لأك) إذا أرسل، وعليه فكلمة ملك تطلق
على كل رسول [٣] .
فما يرسله الله تعالى إلى هذا العالم من المادة، أو قواها يصح لغة أن يسمى
ملكًا بلا نزاع، فالريح يُسمى ملكًا، أو رسولاً من الله؛ ولذلك قال تعالى في الرياح:
{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: ١) والرعد كذلك مَلَك؛ لأنه يرسله الله
تعالى لتخويف عباده، وهكذا مما في هذا الكون من قوى المادة العظيمة كالمغنطيس
والكهرباء، وإلى هذا الرأي يشير قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ} (الرعد: ١٣) فإن الواجب أن تكون بين المعطوفات مناسبة، فعطف
الملائكة على الرعد يشير إلى أن المراد منها بعض القوى الطبيعية كالكهرباء التي
تحدث الرعد والبرق، ولعدم فهم المفسرين هذه المناسبة في هذا العطف زعموا أن
للرعد ملكًا بالمعنى الذي يفهمونه [٤] ، ونحن إذا سمعنا قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: ١١) لا يتعين عندنا أن نفهم منه ما
يفهمون فعزرائيل [٥] لم يرد ذكر اسمه في القرآن، ولا في سنة صحيحة، وإنما هو
اسم مشهور عند اليهود كانوا يسمون به بعض الناس وله عندهم عدة صيغ أخرى؛
ولذلك لا نؤمن بوجوده.
والذي أراه أن الميكروبات هي من رسل الله في هذا العالم، فيجوز أن تسمى
ملائكة، ومنها ما يحدث الأمراض المختلفة، ولا تتحلل جثث جميع الموتى إلا
بالميكروبات، فإذا انحلت الجثث خرجت منها غازات، وعناصر، وأجسام متنوعة،
وإذا ذهبنا إلى أن الروح عبارة عن جزء من مادة الأثير متحد بالجسم لا نستبعد
خروج الروح عند انحلال الجسم بسبب عمل الميكروبات فيه، وعلى ذلك يحمل
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ} (الأنعام: ٩٣) الآية.
فغمرات الموت من (غمر) ومعناها وجود الجسم في أشد درجات الموت
التي تغمره، وهو وقت انحلال الجثة، وبسط اليد كناية عما تفعله الميكروبات بها
من التحليل والإفساد، وقد ورد مثل هذه العبارة كناية أو مجازًا حتى في حق من
هو منزه عن الأعضاء والجوارح فقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة:
٦٤) (وراجع ١٧: ٣٠) وقوله: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} (الأنعام: ٩٣) هو ما
تقوله الميكروبات بلسان حالها، كما قالت السموات والأرض {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: ١١) والتعبير عن الميكروبات بضمير العاقل هو سنة القرآن من أوله
إلى آخره؛ فإنه يعبر غالبًا عن كل ما يعمل عملاً من أعمال العقلاء بضميرهم،
ومن ذلك قوله تعالى في الكواكب وهي أجرام جامدة: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء: ٣٣) ، وقوله في الأَصنام: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} (الصافات: ٩٣) لأن المشركين كانوا يعتقدون أنها عاقلة مدبرة.
ولرفع التناقض الظاهري بين قوله تعالى: {مَّلَكُ المَوْت} (السجدة: ١١)
بالإفراد، وبين قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: ٦١) بالجمع نقول: إن
المفرد المضاف يعم كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} (البقرة: ١٨٧) أي
لياليه؛ فكذلك يصح أن يكون المراد من ملك الموت ملائكته، أو رسله أي
ميكروباته، وهي عادة من النوع الباسيلي، كما تقدم.
ومن أمثلة ذلك قولهم (حلت دودة القطن بأرض فلان) أي دُودُه، فالمراد
الجنس لا الفرد.
ولا يتوهم أحد مما ذكر أننا ننكر وجود بعض أنواع أخرى من جنود الله التي
لا يعلمها إلا هو، كلا ثم كلا، فإن الإيمان بالملائكة بالمعنى المشهور فرض على
المسلم، ومما يجب علينا الإيمان به أن للوحي ملكًا (جبريل) وهو ليس من قبيل
ما ذكرناه، وإنما مرادنا أن الميكروبات مما يدخل تحت لفظ الملائكة، وليسوا هم
كل الملائكة.
وآية فاطر التي ورد فيها ذكر الأجنحة للملائكة يمكننا أيضًا تطبيقها على
الميكروبات، فقد سبق أن لبعض الميكروبات أهدابًا مثنى (كما في ميكروبات
الكوليرا) فإن لها هدبين أحيانًا في طرف منها، وإذا اجتمع اثنان منها، والتصقا
معًا جاز أن يكون لهما ثلاثة أهداب، ولميكروب الحمى الراجعة أربعة أهداب،
وللتيفود أهداب عديدة، يزيد في الخلق ما يشاء، ولا شك أن الجناح يُطلق على
الجنب، واليد، والعضد، والإبط ومنه قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} (طه: ٢٢) فلا مانع من إطلاقها على هذه الأهداب التي هي بمثابة الأيدي
للميكروبات، على أننا لسنا في حاجة إلى تطبيق هذه الآية على الميكروبات، فإنه
ليس المراد من كون الميكروبات من الملائكة أن كل ما يسمى ملكًا يكون له أجنحة،
ويكون عاقلاً مكرمًا عند الله، بل المراد أن كل ما هو خاضع لأمر الله يرسله
متى شاء، فهو من ملائكته أي رسله.
هذا - ولا يتوهم من قوله تعالى في سورة العنكبوت مثلاً عن لسان الملائكة
{إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ} (العنكبوت: ٣١) ونحن أعلم بمن فيها {إِنَّا
مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ رِجْزاً} (العنكبوت: ٣٤) الآيات أن القرآن -
ككتب الأمم الأخرى - يَنْسب إلى الملائكة الأعمال التي تجري في هذا العالم حسب
السنن الإلهية المعتادة، كنسف القرى، وقلب الأرض بالثورات البركانية؛ فإن
هؤلاء الملائكة كانت وظيفتهم قاصرة على إخبار إبراهيم ولوط بما قدره الله لقوم
لوط ولزوجه، وعلى إرشاده إلى ما يجب عمله حتى ينجو مما سيحل بهم؛ وإنما
عبروا بتلك العبارات التي يُفهم منها أنهم أنفسهم هم الفاعلون لكيت وكيت؛ لأنهم
رسل الله أُرسلوا بأمره وإرشاده؛ ليكونوا نائبين عنه تعالى في تبليغ ما أراد للوط
فهم متكلمون عن الله وبلسانه جل شأنه، فالمهلك والعالم بحال الناس، والمنزل
الرجز هو الله الذي أمرهم أن يقولوا عنه ذلك، وقد تقدم لهذه المسألة نظير في
قصة مريم وجبريل عليهما السلام (راجع صفحة ١١٨ من الجزء الأول) ولذلك
قالت الملائكة للوط {إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الغَابِرِينَ} (الحجر: ٦٠) كما في
سورة الحجر، مع العلم بأن الله تعالى وحده هو الذي قدر كل شيء؛ وإنما هم
مبلِّغون بأمره عن قدره.
وعليه فالتقدير في سورة العنكبوت هو هكذا: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ
بِالْبُشْرَى قَالُوا} (العنكبوت: ٣١) تبليغًا عنا {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ} (العنكبوت: ٣١) .. {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} (العنكبوت:
٣٢) أي قالوا عنا إننا نعلم بمن فيها {وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (العنكبوت:
٣٣-٣٥) فالمتكلم الحقيقي في كل هذه الآيات هو الله تعالى كما هو ظاهر من
آخرها، والملائكة إنما يرددون هذه العبارات لتبليغها إلى لوط بالنيابة عن الله تعالى،
فافهم ذلك، ولا تكن من الجاهلين.
***
الجن
هذا اللفظ مشتق من مادة الجيم والنون، وهذه المادة تفيد معنى الستر، ومن
ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} (الأنعام: ٧٦) أي ستره، وأجن
الشيء في صدره أي أكنه، والجنين:المخلوق ما دام في البطن، والجنة:السترة،
والجنان القلب لاستتاره، واستجن أي استتر بستره، والمجن الترس، وكلها تفيد
معنى الخفاء والاستتار، فلفظ الجن يطلق أيضًا على الميكروبات لاستتارها، فهي
ملائكة مرسلة من الله، ومستترة عن أعين البشر.
ومن ذلك حديث (الطاعون وخز أعدائكم من الجن) وفيه إشعار بأن للإنسان
أعداء من غير الجن، وهو صحيح.
ونقول في خلقها إننا إذا لاحظنا أن الميكروبات نباتات، والنباتات سابقة
لجميع الحيوانات، فهي مخلوقة من الأرض بعد أن أخذت في البرودة.
وإذا لاحظنا أن القرآن الشريف نص على أن الله تعالى جعل من الماء كل
شيء حي، أمكننا أن نقول إنها خُلقت باتحاد بعض العناصر مع الماء أو بخاره في
وقت كانت الأرض فيه شديدة الحرارة , أو آخذة في البرودة.
ولا يخفى على المطلعين على العلوم الطبيعية أن الراجح أن الأرض كانت
شعلة من النار مشتقة من الشمس، فإذا قلنا: إن هذه النباتات هي أول ما كُوِّن من
الأحياء في الأرض فهمنا معنَى أنها مخلوقة من النار، إذ ليس معنى هذا الخلق أنها
خُلقت مباشرة منها، بل خلقت أطوارًا، كما أن الإنسان لم يُخلق مباشرة من التراب،
بل خُلق منه طورًا بعد طور، فالحق أن جميع الأحياء مخلوقة من الأرض ,
والأرض مخلوقة من النار، ولما كانت النباتات أول المخلوقات كانت أسبق منا إلى
طور النار، وأقرب بها عهدًا منا، على أنه ليس المراد بكون الميكروبات أو
غيرها من الجن أن كل ما يسمى جنًّا مخلوق من مادة واحدة، بل معناه أن كل ذلك
من العوالم الخفية المجتنة.
***
العدوى
قبل الكلام في هذا الموضوع يجب أن نذكر ما ورد من الأحاديث المثبتة
للعدوى والنافية لها، ثم نجمع بينهما بما يفتح الله به علينا.
فمن الأحاديث المثبتة للعدوى: (قوله صلى الله عليه وسلم) : (كَلِّمْ المجذوم
وبينك وبينه قدر رمح أو رمحين) [٦] وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن كان
شيء من الداء يعدي فهو هذا) يعني الجُذام (وقوله صلى الله عليه وسلم) :
(اتقوا المجذوم كما يُتقى الأسد) وقوله (صلى الله عليه وسلم) لرجل مجذوم كان
في وفد ثقيف: (ارجع فقد بايعناك) وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا سمعتم
بالطاعون بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه) وهذا الحديث يصح أن يعتبر مبدأ
يجري عليه الناس في مسألة الحجر المسمى باللاتينية (Quarantine) ومعناه
الأصلي (أربعون) لأن السفن الآتية من البلاد الموبوءة كانت تمنع من الاقتراب
من شاطئ البلاد السليمة مدة أربعين يومًا، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يريد
بهذا الحديث أن يعمل المسلمون أيضًا مثل هذا الحجر على البلاد الموبوءة، فلا
يدخلوا فيها لئلا يصابوا، ولا يخرج الناس منها لئلا ينشروا العدوى بين الآخرين.
وورد أن أبا عبيدة قال لعمر حينما خاف من طاعون الشام: أفرارًا من قدر
الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم فرارًا من قدر الله إلى قدر الله،
وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يُورَدَن مُمرض على مُصح)
وفي لفظ (لا يوردن ذو عاهة على مصح) .
ومن الأحاديث النافية للعدوى: - قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يعدي
شيء شيئا فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها،
ورزقها، ومصائبها) ، وفي حديث آخر (فمن أعدى الأول؟) وقوله - صلى
الله عليه وسلم - (لا عدوى ولا هامة، ولا صفر، ولا يحل الممرض على
المصح، وليحل المصح حيث شاء. قيل: ولم ذاك؟ قال لأنه أذى. وقوله: لا
عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، قيل: يا رسول الله! أرأيت البعير يكون به
الجرب؛ فيجرب الإبل كله؟ قال - ذلكم القدر، فمن أجرب الأول؟) .
هذا شيء مما ورد في هذه المسألة، وقبل الخوض فيها يجب أن نتذكر ما
روي عن أنس أن الرسول قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم فعلى فرض أننا لا يمكننا
تأويل الأحاديث النافية للعدوى، فالمسلم لا يتحتم عليه أن يأخذ بها - كما سبق في
صفحة ١٦٥ من الجزء الأول - فإنه أَدْرَى بأمور دنياه يأخذ منها ما ثبت عنده
بالبرهان، على أننا إذا راجعنا جميع هذه الأحاديث ظهر لنا أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - كانوا يعتقدون بالعدوى كما هو صريح
ما ذكرناه منها.
أما نفي العدوى فيقال فيه ما يأتي:
العدوى لغة: هي انتقال المرض من شخص إلى آخر، وكانت العرب تعتقد
أن المرض لا يأتي إلا من مريض؛ ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) لهم فمن
أعدى الأول؟ ، ولا يخفى أن المرض عرض لا يمكن أن يقوم بذاته، وعليه
فيستحيل أن ينتقل المرض من شخص إلى آخر، وهذا مما يُفهم من قوله (صلى
الله عليه وسلم) لا عدوى أي لا ينتقل المرض، وهذا حق.
أما انتقال جراثيمه، فهو أمر كانت تجهله العرب، فلم يكن حديثهم، ولا
حديث الرسل فيه، وأيضًا قد ينتقل الميكروب، ولا يحدث المرض كما سبق في
باب الوقاية، فليس انتقال الميكروب شرطًا لحدوث المرض، ومن الميكروبات ما
يكون منتشرًا في الهواء أو الطين أو غيرهما، وهي التي أصابت الأول المذكور
في الحديث [٧] ، والميكروبات التي تصل إلى الإنسان لا تحدث فيه المرض إلا إذا
كان مستعدًّا له، والاستعداد يكون بأسباب وأحوال أرادها الله تعالى، وجعل السبب
فيها على قدر المسبب، وذلك ما يسمى بالقدر في الأحاديث، فالأساس الأصيل في
حدوث الأمراض هو القدر، ولولاه لما فعلت الميكروبات بالجسم شيئًا مطلقًا،
وحكمة ذكر هذه الأحاديث بعد نصه (صلى الله عليه وسلم) على وجوب الابتعاد
عن المرضى، وتعليله ذلك بأنه أذى، أي ضرر، هي أن الإنسان يجب عليه أن
لا يتغالى في أمر العدوى بمجرد اقترابه من المريض؛ فإن ذلك يحدث في الجسم
وهمًا، ووسوسة، قد يؤديان إلى ضعف حقيقي في الجسم أو العقل، ويؤدي بالناس
إلى الامتناع عن تمريض المريض، أو معالجته لمجرد الوهم، وفي ذلك ما فيه من
الضرر.
ولذلك تجد الأطباء لا يبالون بالوسوسة في أمر العدوى، ويقابلون كل مريض
ويقتربون منه أشد القرب، بل ويمسكون بأيديهم ما فيه الميكروبات، ولا يجبنون
فإن العاقل يجب أن لا يكون جبانًا، ولولا ذلك لما تقدمت الأبحاث العملية كل هذا
التقدم.
والخلاصة أن الخوف من العدوى يجب أن يكون في دائرة العقل، فلا يجوز
أن يفرط الإنسان فيها، ولا يجوز أن يفرط من الرعب منها؛ فإن ما قدر الله
للإنسان من حيث قوة بنيته أو ضعفها ومقاومتها للأمراض، لا بد أن يكون، وإذا
فرض أن امرأ كان مستعدًّا لمرض لما أتاه المرض من حيث لا يحتسب؛ فلذا كان
الواجب الاعتدال في العدوى كما هو واجب في كل شيء.
وعبارة عمر - رضي الله عنه - السابقة في القدر، صريحة في وجوب
العناية بأوامر الطب وعدم مخالفتها اعتمادًا على القدر، وهي من أعلى الحكم
الفلسفية.
ومن مضار شدة الوسوسة في مسألة العدوى أن الموسوس يمتنع عن ملامسة
كل شيء مما في هذا العالم إلا بشروط مخصوصة توجب الإعياء والإعنات، فمثلا
يتجنب لمس النقود ونحوها كالأوراق المالية، ويتجنب محادثة الناس واستنشاق
الهواء خوفًا من أن يكون مر على مرضى أو موتى، ويتجنب الأكل، أو الشرب،
أو النوم، أو الركوب في الحضر والسفر حيث يفعل الناس كل ذلك، وفيه من
الضرر البليغ ما لا يخفى على المفكر.
أما الصَّفَر (بفتحتين) فهو ما كانت تزعمه العرب من أن في البطن حية
تعض الإنسان إذا جاع، واللذع الذي يجده عند الجوع من عضها , وهذه الحية لا
وجود لها في الإنسان السليم، وإنما قد يوجد في البطن أنواع كثيرة من الديدان،
منها نوع يشبه الثعبان الصغير؛ ولكنه غير موجود في جميع أفراد الإنسان كما
توهموا، وليس هو السبب في الإحساس بالجوع كما كانت تزعم العرب، وقيل:
إن معنى (لا صفر) أن الأمور الرديئة لا تقع في صفر دون غيره من الشهور،
بل هو كغيره، ولاعتقاد العرب أن هذا الشهر مشؤوم كانوا يحرمونه، ويستحلون
المحرم بدله.
فأنت ترى من كلا التفسيرين أن ليس المراد نفي (صَفر) مطلقًا، بل نفي ما
كان تعتقده العرب فيه، سواء أكان اعتقادهم أنه دودة في بطن كل امرئ تحدث
عنده الجوع، أم كان شهرًا مشؤمًا دون الشهور، فكذلك ليس المراد من نفي العدوى
نفيها مطلقًا، بل نفي ما كانت تعتقده العرب فيها من أن الأمراض تنتقل بنفسها،
وأنه يتحتم حصول المرض بمجرد الاقتراب من المريض، وأنه لا مرض يصلح
إلا من مريض سابق، وكلها أوهام باطلة نفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وهو محق في ذلك كل الحق كما نفى الصفر، وكما نفى الهامة.
وأما الهامة فهي لغة الرأس، وطير من طيور الليل يسمى الصدى، وهو ذَكَر
البوم، وهو المراد في الحديث، وكانت تزعم العرب أن روح القتيل الذي لا يُدرك
بثأره تصير هامة، وتصيح على قبره -: اسقوني! اسقوني! ، فإذا أُدرك بثأره
طارت، وهذا أيضًا من الخرافات التي جاء الإسلام بتطهير العقول منها.
***
استدراك على حياة الميكروبات
ظهر مما سبق أن العلماء يعتقدون أن الميكروبات خالدة - كما يعبرون - وهم
كذلك يعتقدون أن المادة وقواها خالدة، أفليس من أعجب العجب بعد ذلك أن يعتقدوا
أن الإنسان غير خالد مع أنه أرقاها، ولم تعتن الطبيعة بمخلوق اعتناءها به؟ -
كما يقولون - أليس في محافظة الميكروبات على نوعها بالحبيبات (Spores)
إشارة لنا إلى أن روح الإنسان هي كحبيبة الميكروب؟ وكما أن الميكروب ينتقل
بذلك من طور إلى طور، فكذلك الإنسان ينتقل بروحه من طور إلى آخر.
فهل بعد ذلك يكون في عقيدة البعث شيء من الغرابة أو المنافاة لسنن الكون
حتى ينكرها المنكرون؟ ! .
***
الأحياء الطفيلية أو التسلقية
هي التي تتسلق غيرها (أي تعلوه) ، وتتطفل عليه فتتغذى منه، وهي نباتية
وحيوانية، والنباتية أكثرها فتكًا بالإنسان وغيره، وأشدها خطرًا.
النباتية:
تشمل بعض أنواع البكتيريا التي يتركب أكثرها من خلية واحدة -كما سبق-
والفطر الذي يتركب من خلايا متعددة - وقد تقدم البيان الشافي عنهما - ويلاحظ
في هذه الأحياء النباتية والحيوانية أنها كلما دقت وصغرت كانت أشد خطرًا من
الكبيرة، ولله في خلقه شؤون، فكأنه تعالى قد وضع سره في أصغر خلقه (كما
تقول العامة) .
الحيوانية، وأشهر أنواعها:
(١) ذوات الخلية الواحدة، وتسمى بالإفرنجية (Protozoa) ، وهو
لفظ يوناني معناه الحرفي (الحيوانات الأولى) ، وأشهر أمثلتها جرثومة (الملاريا)
وتسمى بالعربية (النافض) أي ذات الرعدة، وأحد نوعي (الدوسنطاريا) وتسمى
بالعربية (الزحار) أي التي تحدث الزحير، وبعض الحلزونيات كحلزوني
الزهري، والحمى الراجعة، وهذه هي التي تنقسم بالطول - كما قلنا - بخلاف
البكتيريا؛ فإنها تنقسم بالعرض، وذلك من أهم ما يميز الواحد منهما عن الآخر.
(٢) حشرات صغيرة مركبة من خلايا عديدة، تكوِّن حيوانًا صغيرًا مثل
أكروس الجرب والقردان، كما في بلاد السودان (Ticks) ، وهو جمع قُراد،
وكلاهما من الفصيلة العنكبوتية.
(٣) حشرات كبيرة كالقمل والبراغيث والبق.
(٤) النَّغف: وهو الذي يسميه الأطباء المحدثون (اليرقات) ، وهي الدود
الذي يخرج من بيض بعض أنواع الذباب، ويعيش في جلد الإنسان أو أذنيه، أو
أنفه.
(٥) الديدان بأنواعها والأكياس الدودية: ومن أشهر أنواع الديدان: ... ...
(أ) المعوية: كالدودة الشريطية.
(ب) الدموية: كالبلهارزية وهي دودة اكتشفها في مصر الباحث الشهير
ثيودور بلهارز (Bilharz Theodor) سنة ١٨٥١، وهي توجد في بعض
أوردة الإنسان (كالوريد الباب) وهي السبب في ما يصيب أكثر المصريين من
البول الدموي، أو البراز الدموي أيضًا.
(ج) اللمفاوية: كالفلاريا (Filaria) وهي كلمة مأخوذة من اللاتينية
ومعناها الخيط، وهذه الدودة هي السبب في البول اللبني، وداء الفيل.
(د) الصفراوية: كالدودة الورقية (Hepaticum Distoma) التي
توجد في مرارة البهائم، ومجرى المِرّة (الصفراء) فيها، وقد توجد في الإنسان
نادرًا، وهي تشبه الورقة الصغيرة شبهًا تامًّا، وطولها نحو ٢٥ مليمترًا، وعرضها
١٢ مليمترًا، وتكون مطوية على نفسها، وقد تسد مجرى الصفراء في الإنسان؛
فتحدث عنده اليرقان، وتنزل الصفراء في بوله.
(هـ) الجلدية: كالعرق المدني، وهو نوع من الفلاريا يسكن تحت جلد
الإنسان خصوصًا في أرجله، وهي كثيرة الوجود في سكان المدينة المنورة، وبلاد
الهند، وغينيا (بأفريقية) ، والسودان.
(و) العضلية: كدودة الشعرة الحلزونية (Spiralis Trichina) طول
الذكر منها ١.٥ مليمتر، وطول الأنثى نحو ٣ مليمترات، وهذه الدودة تسكن
كبارها في أمعاء الإنسان، وصغارها في عضلاته، وإنما ذُكرت على حدة؛ لأن
وجودها في الأمعاء لا ينشأ عنه ضرر يذكر، وكل الضرر من وجود صغارها في
العضلات؛ فإنها تحدث ألمًا شديدًا، وحمى تشبه الحمى التيفودية، والمرض
الناشئ منها شديد الخطر على الحياة، وصغار هذه الدودة التي تسكن العضلات
تُرى فيها بالعين المجردة كنقط مبيضة صغيرة جدًّا، طولها جزء من ثمانية وسبعين
جزءًا من البوصة، وهذه النقط هي الديدان، وما أحاط بها من الغلف، وتصل هذه
الدودة إلى الناس من أكل لحم الخنزير، ويكثر وجودها بعض الكثرة في بلاد ألمانية
لكثرة أكل أهلها لحم الخنزير، وتصاب الفئران بهذه الدودة أيضًا؛ فتنتشر في
عضلاتها، والفئران يأكل بعضها البعض الميت؛ فتنتشر الدودة بينها، وهي تأوي
إلى زرائب الخنازير، وتموت فيها، والخنازير مولعة بأكلها أيضًا؛ فينتشر فيها
المرض لذلك، ومنها يصل إلى الإنسان، وسيأتي - إن شاء الله - البيان الشافي
عن جميع هذه الديدان، وتواريخ حياتها، والأمراض التي تنشأ عنها تفصيلاً.
***
الأمراض التي تنشأ من الأحياء الطفيلية
(مقدمة في الحمى)
ذكرنا في الجزء الأول (صفحة ١١و١٢) حقيقة الحمى، ومنشأها، وغير
ذلك مما يتعلق بها إجمالاً، ونريد الآن أن نفصل القول فيها تفصيلاً، فنقول:
الحمى هو ارتفاع حرارة الإنسان عن الدرجة الطبيعية، وتكون مصحوبة
بأعراض كثيرة تصيب أجزاء الجسم المختلفة، وإليك تفصيلها:
الجلد:
يكون ساخنًا وجافًّا غالبًا، وقد يُندى بالعرق، وفي بعض الحميات يكون
العرق غزيرًا، ولون الوجه محمرًّا، وفي بعضها يظهر في الجلد ما يسمى
(بالطفح) وهو أنواع كثيرة، منها نقط حمراء تزول بالضغط عليها، أو نقط ناشئة
من نزف تحت الجلد، وهذه لا تزول بالضغط، ومنها بثور كما في الجدري،
والظاهر أن سموم الميكروبات تحدث شللاً في الأوعية الدموية للجلد أثناء محاولتها
الخروج من البنية أو تحدث تهيجًا أو التهابًا في الجلد؛ فينشأ من ذلك الشلل، أو ذلك
التهيج أو الالتهاب أنواع من الطفح تختلف باختلاف كل مرض، وسيأتي بيانها، وفي
بعض الحميات التي يكثر فيها العرق كالحمى التيفودية والرثية (الروماتزم) تشاهد
حبوب صغيرة جدًّا في الجلد ممتلئة بسائل رائق، وهي تتكون من ارتفاع الطبقات
العليا للبشرة بتراكم العرق تحتها.
الجهاز الهضمي:
يكون اللسان مغطى في أول الأمر بطبقة بيضاء، ثم يجف، وتزول هذه
الطبقة من مقدم اللسان وحوافيه؛ فيرى لونه أحمر، ثم يشتد الجفاف، ويسمر لون
اللسان، ويتشقق، وتجتمع عليه وعلى الأسنان والشفتين أوساخ مسودة، ويفقد
المصاب شهوة الطعام، وقد يصيبه القيء، ويكون الهضم ضعيفًا جدًّا، ويمسك
البطن، ويعظم حجم الطحال.
الدورة الدموية:
يسرع القلب في ضرباته في أول الأمر، ثم يضعف، ويصل النبض إلى ٨٠
أو ١٢٠ فأكثر في الدقيقة، وتتمدد عضلة القلب بسبب الضعف.
التنفس:
يسرع أيضًا التنفس، فيصل إلى ٣٠ أو ٤٠ مرة في الدقيقة، وإذا طالت مدة
الحمى تحتقن قاعدتا الرئتين، وتكثر النزلات الشعبية أو الرئوية.
البول:
يقل مقداره، ويشتد لونه، وترسب فيه أملاح حمراء من حامض البوليك،
وتكثر البولينا، وتكون أملاح الكلوريد (كملح الطعام) قليلة عادة خصوصًا في
التهاب الرئة، أما في الملاريا فتزيد هذه الأملاح عند ارتفاع الحرارة فيها.
الجهاز العصبي:
يكثر الصداع في أول الحمى، ويشعر الإنسان بتكسر في جميع الجسم،
ويسأم كل عمل جثماني أو عقلي، وبعد قليل يصيبه ضعف في قواه العقلية، ويميل
إلى النعاس، وإذا نام ابتدأ يهذي، وبعد ذلك يكثر الهيجان، ويزول النوم ويشتد
الهذيان؛ فيكثر المريض من اللغو، ويصاب بما يشبه الجنون، وقد يقوم من فراشه،
ويتشاجر مع ممرضيه أو أطبائه، وقد يحاول أن يلقي بنفسه من نافدة المكان، ثم
تهمد قواه، ويصاب بالغيبوبة؛ فيفقد كل شعوره، وقبل تمام الغيبوبة يصاب
بارتعاش في حركاته، وتقلص في العضلات (يسمى بالاهتزاز الوتري) ويلتقط
أشياء وهمية يراها أمامه في الهواء، وينتهي الأمر به إلى أن يتبرز بدون شعوره،
ولعدم إحساس المثانة بما فيها يتراكم البول حتى تُفْعَم به.
(اختلاف الحرارة اليومي)
كما أن الحرارة الطبيعية تختلف في المساء عن الصباح [٨] ، كذلك حرارة
المحموم تكون غالبًا في المساء أعلى منها في الصباح، وفي بعض الأمراض تكون
بالعكس؛ فترتفع صباحًا، وتنخفض مساء، ويسمى ذلك (بالطراز المقلوب)
(Inversus Typus) كما في الدرن العام المسمَّى بالدرن الدخني.
ومن الحرارة ما يكون دائم الارتفاع بكثير عن الدرجة الطبيعية، ومنها ما
يقرب في الصباح من الدرجة الطبيعية، ومنها ما تصل في الصباح إلى الدرجة
الطبيعية أو تحتها؛ ولكن ترتفع في المساء كثيرًا، وعند ارتفاعها يزداد التنفس
والنبض كما سبق، وقد تحصل للمحموم قشعريرة لإحساسه بالبرد، وإن كانت
درجة الحرارة في الحقيقة عالية؛ ولكن لانقباض أوعية الدم التي في الجلد يحصل
له هذا الإحساس بالبرد.
ومن الحميات ما يزول بالتدريج؛ فتأخذ الحرارة في النقص يومًا بعد يوم
حتى تصير طبيعية، ومنها ما يزول دفعة واحدة؛ فيشفى الإنسان في ظرف ١٢
ساعة أو ٣٦ ساعة، وعندئذ قد يصاب الإنسان بالإسهال، أو بالعرق الغزير أو
يحصل له الرُّعاف، ويسمى انخفاض الحرارة الفجائي (بالبحران) وبعد انخفاض
الحرارة قد تبقى بضعة أيام أقل قليلاً من الدرجة الطبيعية.
(درجات الحرارة المختلفة)
درجة الهمود أو الهبوط ... ... ... ٣٥.٥ْ أو أقل
الدرجة التي تحت الطبيعية ... ... ٣٦.٤ ْ
الطبيعية ... ... ... ... ... ٣٦.٥ْ إلى ٣٧.٢ْ
الحمى الخفيفة ما كانت فوق ... ... ٣٧.٥ ْ بقليل
الحمى الشديدة ... ... ... ... ... ٣٩ْ إلى ٤٠ْ
الحممى الأشد ... ... ... ... ... ٤٠ْ إلى ٤٣ْ وفي النادر جدًّا ٤٤ْ
فإذا زادت الحرارة على ٤٤ درجة، فلا أمل في الحياة غالبًا، ما لم تُستعمل
أشد العلاجات الفعالة، وهي التبريد السريع بالماء والثلج.
(الموت بالحميات)
يحصل الموت - إما من نهك الحمى للقوى بسمها، مع طول المرض أو بشدة
تسمم الدم في أيام قليلة - أو من زيادة الحرارة زيادة فاحشة كأن تصل إلى ٤٤ مثلاً،
واعلم أن طول التعرض لحرارة فوق ٤٠ْ سنتجراد يقتل (البروتوبلازم) ويجمده،
ويسمى ذلك بتيبس الحرارة Heat Rigor)) (انظر ص ١٥ من كتاب
فسيولوجيا هليبرتون) (Hallibtrton) - أو من شلل القلب - أو من
المضاعفات الرئوية، أو غيرها.
ويكون الدم بعد الوفاة رقيقًا مسودًّا، وتقل كرياته الحمراء، وتكثر البيضاء
وتشاهد أنزفة نقطية كلدغ البراغيث (Petechiae) ، أو أكبر في الأغشية
المصلية كالبليورا أو الشفاف، أما الأحشاء (الكبد والحال والكُليتان) فتكون كبيرة
رخوة، ويحصل في خلاياها استحالات [٩] حبيبية أو دهنية، وكذلك تصاب
العضلات بتلف في منسوجها، سنتكلم عليه في بحث الحمى التيفودية.
(المضاعفات والعواقب)
كثيرًا ما يطرأ على الإنسان في أثناء الحمى بعض أعراض أخرى مرضية
تزيد المرض شدة فوق شدة، وقد يصاب الإنسان أيضًا بعدها ببعض أمراض تكون
كالنتيجة لها، ويسمى النوع الأول بالمضاعفات، ومثاله التهاب البريتون في الحمى
التيفودية، ويسمى النوع الثاني بالعواقب أو العقابيل، كالشلل عقب الدفثيريا؛ فإنه
يصيب المريض بعد شفائه منها ببضعة أيام أو أسابيع.
(معالجة الحمى)
يوضع المريض على فراشه ليستريح راحة تامة في مكان صحي طلق الهواء
وتخفف عنه أغطيته وملابسه - بعكس ما يتوهم الجاهلون - نعم ينبغي أن تدفأ
الأطراف السفلى خصوصًا إذا ضعفت قوى المريض، وأصابتها البرودة.
والغذاء يكون من السوائل المغذية السهلة الهضم مثل اللبن والمرق [١٠] ، وماء
الشعير، ولا بأس من طبخها بقليل من دقيق بعض الحبوب أو بمسحوق ناعم من
الخبز الإسفنجي الهش، ويحسن تحلية اللبن بالسكر، أو عسل النحل المصفى،
ويعطى للمريض أيضًا المياه الغازية؛ فإنها نافعة للمعدة، ومن المستحسن أيضًا
إعطاؤه بعض الأشربة الحلوة كشراب التمر الهندي، والسكر مع الليمون، وعصير
البرتقال المصفى، ويشترط في هذه السوائل الحامضة أن يُفصل بينها وبين تعاطي
اللبن بنحو ساعتين لئلا يتجبن؛ فيتقيأه المريض، وليشرب من الماء ما يريد فإنه
منعش مغذٍّ غاسل للسموم، واللبن الخاثر (لبن الزبادي) نافع جدًّا، ومن أسهل
الأغذية هضمًا وأنفعها أن يُمزج بياض بيضتين بنحو ربع لتر من ماء راشح،
ويحلى بعسل النحل النقي، ويضاف عليه جزء من عصير الليمون، ثم يثلج
ويشرب منه المريض، ويجب أن تعطى هذه السوائل المغذية بمقادير صغيرة في
فترات قصيرة متعددة، كأن يعطى له اللبن قدر ملء خمسة فناجين كل ساعتين مرة،
ويكون مقداره في اليوم نحو ثلاثة أرطال (مصري) أو أربعة، وتبريده بالثلج
محمود كثيرًا.
ولا يتوهمن أحد أنه يوجد لأكثر هذه الحميات الآن دواء قاطع لسيرها في
الحال [١١] ، بل لا بد أن تتم أطوارها، وإنما يمكننا تخفيف وطأتها، وإضعاف شدتها
لكيلا تفسد الأحشاء، وكذلك يمكننا ملافاة كثير من أعراضها الخطرة كالتهاب الرئة
أو ضعف القلب، أو ما ينشأ من بعضها من الأنزفة كالنزف المعوي في الحمى
التيفودية.
ومن الأدوية ما يخفض الحرارة مؤقتًا بعد استعماله بساعتين أو ثلاث
ككبريتات الكينين (من ٢٠ إلى ٣٠ قمحة) ولكن استعمال الماء البارد أفضل من
جميع هذه الأدوية، وطريقة ذلك أن تؤخذ حرارة المريض كل ٣ ساعات مرة،
وكلما وُجدت ٣٩ْ فأكثر يوضع في الماء البارد مدة ١٠ دقائق أو ١٥ دقيقة، ثم
يُرفع منها، وينشف جيدًا، ويوضع على فراشه بالراحة، فنجد أن الحرارة صارت
طبيعية، أو أقل؛ ولكنها لا تلبث إلا قليلاً وترفع، وكلما عادت عدنا، ويجوز أن
يُلف المريض مدة ربع ساعة بمثل ملاءة بعد غمسها في الماء المثلوج، لا يخيفنا
من استعمال الماء البارد إلا أشياء قليلة جدًّا، وهي الهمود الشديد، والنزف المعوي
، والمضاعفات الرئوية البالغة، وظاهر أنه في حال الهمود أو النزف الشديد تكون
الحرارة منخفضة، وإذًا يكون استعمال الماء البارد لا مسوغ له من أول الأمر،
وفائدة هذا التبريد تحسين الأعراض عمومًا، وتقليل حدوث المضاعفات،
والاستحالة الحبيبية للأعضاء.
وإذا أصاب المريض همود في قواه يتعين استعمال المنعشات، وأقربها إلينا
القهوة والشاي والخمر؛ ولكن يشترط في استعمال الخمر أن لا تعطى بمقادير كبيرة
لأيام كثيرة، وإلا حدث منها سرعة في النبض، وشدة في الهذيان، ومقدارها
المعتاد من ٢-٨ أواقي (أو فناجين قهوة) في اليوم.
ومن الأدوية التي يستعملها الطبيب النافعة في الهمود الديجيتالا [١٢] ،
والنوشادر، والأثير، والإستركنين، ويستحسن إعطاء شيء من الببسين مع
حامض الهيدروكلوريك [١٣] لتقوية هضم المعدة لقلة إفراز هذين الجوهرين في
الحميات، ويجب عند ابتداء المرض في جميع الحميات أن يعطى مسهلاً كالملح
الإنكليزي، أو زيت الخروع لتنظيف القناة الهضمية والجسم.
وإذا تعذر تغذية المريض في أثناء الغيبوبة غُذي بالحُقن الشرجية المغذية،
وحقن بالمنبهات، وبمحلول ملح الطعام الطبيعي؛ فإنه منعش مدر للبول مزيل
لبعض سموم الميكروبات، وغرقئ (بياض) البيضة إذا حقن في الشرج مع جرام
ملح امتص منه، ونفع المريض.
(تنبيهان)
الأول: في جميع الحميات يجب عزل المريض في مكان خاص، بحيث لا
يختلط به أحد من الناس مطلقًا إلا القائمون بتمريضه أو مداواته، ولا يُسمح لأحد
بزيارته، وذلك واجب طبًّا وقانونًا منعًا لانتشار العدوى بين الناس، وليس فيه
مخالفة لآداب الإسلام في عيادة المريض، فقد ذكرنا من الأحاديث، ومن أقوال
الصحابة كعمر - رضي الله عنه - ما يدل صريحًا على أن الإنسان إذا خشي
العدوى وجب عليه أن يتَّقي القرب من المريض، على أن الحميات إذا اشتدت
أحدثت ذهولاً عند المريض، بحيث لا يقدر على تمييز زائريه أو محادثتهم بالعقل
والحكمة، وأيضًا فمن آداب عيادة المريض في الإسلام أن لا يُطيل العائد المُكث
عنده حتى لو كان مرضه غير معدٍ؛ لأن ذلك يكون سببًا في مضايقة المريض،
وفي الحديث أن قومًا شكوا إليه صلى الله عليه وسلم وباء أرضهم فقال: (تحولوا فإن
من القرف التلف) .
والقرف مداناة المريض، فصريح هذه الحديث يدل على وجوب البعد عن
المرض لاجتناب التلف.
الثاني: الواجب أن يطهر الطعام الذي يعطى للمرضى بالغلي جيدًا، ثم يبرد
بسرعة؛ فإن من الميكروبات ما يسمى (محب الحرارة) (Thermophilic) ؛
وذلك لأنها تتكاثر في حرارة ٦٠ْ إلى ٧٠ْ سنتجراد، فإذا لم يطهر اللبن مثلاً بالغلي،
ولم يُبرَّد سريعًا انتهزت هذه الميكروبات فرصة سخونة اللبن إذا تُرِك يَبرد بنفسه؛
فتتكاثر فيه، وتُحْدِث مواد تؤذي الصحة، وهذه الميكروبات توجد في الطين
والماء وغيرهما، ومنهما تصل إلى اللبن، فلذا يجب قتلها بالغلي.
((يتبع بمقال تالٍ))