للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(١١)

أنواع أمراض الأحياء
الطفيلية الميكروبية
هذه الأمراض نوعان: منها ما عُرِفَ ميكروبه باليقين، ومنها ما لم يُعْرَف
إلى الآن، ومن أسباب ذلك أن جميع المجاهر أو النظارات المكبرة
(الميكروسكوبات) الحالية لا تكشف إلا ما بلغ طول قطره ١٦.٠ من
الميكرومليمتر أو أكثر، أما ما قل عن ذلك فلا يمكن رؤيته إلى الآن مطلقًا،
ويسمى (بما وراء المجهر) (Ultra-microscopic) وهذه الميكروبات تمر
خلال أحكم النواضح (المرشحات) مثل ميكروب الكَلَب وجدري البقر.
أما الميكرومليمتر المذكور هنا، ويسمى أيضًا (الميكرون) فهو جزء من
ألف من المليمتر، ويُرمز إليه بهذه العلامة (u) في الإفرنجية، وبحرف (مك)
في العربية.
والميكروبات المعروفة إما نباتية أو حيوانية، كما سبق.

الأمراض التي تنشأ من الميكروبات النباتية
الحمى التيفودية fever Typhoid:
لفظ التيفود يوناني معناه (شبه التيفوس) ، ومعنى كلمة (تيفوس) الصاعقة سميت بذلك الحمى المعروفة؛ لأنها تصعق المريض.
هذه الحمى من الحميات الشهيرة المعدية، وتمكث عادة نحو ثلاثة أسابيع،
وقد يُنكَس فيها المريض مرة أو أكثر، وأهم مميزاتها طفح قرنفلي، وإسهال مع
التهاب، وتقرح في بقع (بايير) ، وفي الغدد المنعزلة للأمعاء، ولإصابة الأمعاء
فيها بالتقرح تسمى أيضًا بالحمى المعوية.
الأسباب:
هذه الحمى لا تُمَيز إلا قليلاً بين الذكر والأنثى، ولكن للعمر تأثيرًا كبيرًا فيها
فهي تكثر في سن الشباب إلى ٣٠ سنة، وبعد ذلك تقل كثيرًا، غير أنها قليلاً ما
تصيب الأطفال والشيوخ، وإذا أصابت الأطفال كانت الإصابة خفيفة، ومدتها
قصيرة، وإضرارها بالأمعاء أقل مما في الشبان.
تكثر هذه الحمى بين شهري أغسطس ونوفمبر، أو في فصل الحر والجفاف،
وإذا أصيب بها المرء مرة وَقَتْهُ من الإصابة بها مرة أخرى، وميكروبها من
الشكل الباسيلي، كثير الحركة بأهدابه، طوله ميكرونان أو ثلاثة، ويتكاثر
بالانقسام، ولا حبيبات له، ويوجد بكثرة في البراز وفي البول [١] ، وفي اللعاب
أيضًا (في المضاعفات الرئوية) وفي العرق، ويوجد كذلك في قيح الخراجات
التي تنشأ من هذه الحمى، وقد ينتقل من الأم إلى جنينها.
فإذا وصل هذا الميكروب إلى أي شيء مما يأكله الإنسان، أو يشربه انتشر
المرض بين الناس، والذي اكتشفه هو (إيبرت Eberth) سنة ١٨٨٠، وهذا
الميكروب يعيش حتى في الثلج، ولا يقتله عصير المعدة الحامض ويقاوم درجة ٤٤
إلى ٤٥ سنتيجراد مدة طويلة جدًّا؛ ولذلك قد يصل إلى الإنسان من مثل القشدة
المثلوجة وغيرها، ويدخل هذا الميكروب كثيرًا في الأسماك الصدفية أي المحار
(كأم الخلول) التي تؤكل عادة بلا طبخ، ويعيش فيها الميكروب وهي حية لغاية ١٨
يومًا بدون أن يظهر عليها عرض ما، وإذا جف الطين وصار بحيث تثيره الريح
عاش الميكروب فيه ٢٥ يومًا؛ فينتقل بذلك إلى طعام الإنسان وشرابه، وكذلك
الذباب ينقله أيضًا، وقد يعلق هذا الميكروب بالخضروات كالفجل والجرجير
ونحوها مما يؤكل غضًّا، فكل هذه الأشياء هي مما ينقل المرض من شخص إلى
آخر، وكثيرًا ما تتلوث الآبار، أو الأنهار، أو أنابيب المياه من المراحيض التي
يُلقى فيها إفراز المرضى، وقد ثبت أنه يعيش في قذارة المراحيض من ٣ إلى ٥
أيام؛ ولكن يوجد في هذه المواد القذرة من الميكروبات ما يقتله بعد ذلك.
وإذا عُرِّض هذا الميكروب لنور الشمس مات بعد ٤ ساعات، وقد يبقى إلى
٨ ساعات، وإذا وجد في الأرض مختبئًا عاش شهرين كاملين.
ومن الناس من يحمل الميكروب في جسمه عدة أشهر، بل عدة سنوات بعد
الشفاء من الحمى، ويكون سببًا في عدوى الكثيرين ببوله وبرازه [٢] ، ومن المحقق
أن المرارة هي غالبًا مسكن الميكروب في هؤلاء الحَمَلَة (خصوصًا من النساء)
وفيها يتكاثر بعد الشفاء (راجع ١٦ و ١٧ من هذا الجزء) .
والطريق الوحيد للعدوى بهذا المرض هو الجهاز الهضمي؛ فإذا وصل إلى
أي جزء منه كالفم مثلاً إذا ذرته الرياح فدخل غباره في جوف الإنسان فمن الجائز
أن يصاب بهذا المرض، وإن كان الغالب في العدوى أن يزدرده الإنسان في الطعام
أو الشراب.
الأعراض:
مدة التفريخ تكون في أكثر الأحوال نحو أسبوعين، وقد تكون ٥ أيام فقط،
أو ٢٢ يومًا، ويبتدئ المرض بإحساس المريض تدريجًا بضعف وتكسر في الجسم،
ويسأم العمل، ويشعر بصداع، وآلام في الأطراف والظهر، وبالإقهاء (فقد
شهوة الطعام) وقد يحصل له غثيان أو قيء، وفي أغلب الأحوال لا يمكن
للمريض أن يعين بالضبط مبدأ لهذه الأعراض بخلاف بعض الحميات الأخرى التي
تبتدئ فجأة ويكون الصداع شديدًا (وأكثر شكوى المريض منه) وفي كثير من
الأحوال يحصل له إسهال، وقد يحاول المريض في أول الأمر أن لا ينقطع عن
عمله إلا أنه في أواخر الأسبوع الأول يضطر إلى ذلك، ويلجأ إلى الفراش، وكذلك
تبتدئ الحرارة بالتدريج حتى تصير بعد أيام قلائل نحو ٤٠، ويسرع النبض،
وتزداد مرات التنفس، وفي نحو اليوم السابع أو العاشر يكون عند المريض ذهول،
وضعف شديد، ويحتقن خداه، ويجف اللسان، ولا يزال يشتكي من الصداع،
ويحصل له أحيانًا عرق غزير، أو رعاف، ومن اليوم السادس إلى اليوم الثاني
عشر يظهر الطفح القرنفلي المخصوص، وهو نقط أو بقع صغيرة وردية مستديرة
مرتفعة قليلاً عن سطح الجلد تزول بالضغط عليها، ولا يحصل فيها نزف كما في
التيفوس، وتشاهد هذه النقط على البطن والصدر، وقد تُرى أيضًا على الجنبين
والظهر، أو العضدين والفخذين، ويتراوح عددها بين ٦ إلى ٢٠ أو ٣٠، وقد
تزيد على ذلك بكثير، وفي بعض الأحوال لا يكون لهذا الطفح وجود خصوصًا في
مصر، وهو لا يظهر دفعة واحدة بل تدريجيًّا، وتمكث كل نقطة ٣ أو ٤ أيام، ثم
تزول، ويخلفها غيرها حتى نهاية الأسبوع الثالث أو بعده، وبعد الموت تزول هذه
النقط.
وفي الأسبوع الثاني يكون البطن منتفخًا، وبه آلام، وبالضغط على الحفرة
الحرقفية اليمنى يشعر المريض بالألم القليل، وقد يحس الطبيب بقراقر مخصوصة،
ويشتد الإسهال؛ ولكن في بعض الأحوال خصوصًا في مصر يكون البطن معتقلاً
من أول المرض إلى آخره، وللبراز في هذا المرض رائحة كريهة مخصوصة،
ولون أصفر يشبه حساء (شوربا) العدس المصري، وقد يحصل نزف من البطن
يكون سببًا في الموت أحيانًا، ويكبر الطحال، ويقل البول.
أما الصداع فإنه لا يمكث عادة بعد اليوم العاشر، وقد يصاب بالصمم الوقتي،
وفي أواخر الأسبوع الثاني تبتدئ الحرارة في النزول تدريجيًّا حتى تصبح طبيعية،
هذا في الأحوال الحسنة.
أما في الأحوال السيئة؛ فيشتد الهذيان والنعاس الذي تعقبه الغيبوبة ويحصل
الاهتزاز الوتري، وتجتمع الأوساخ على الأسنان والشفتين وغيرهما ويضعف القلب،
ويكثر السعال، ويعسر الشفاء.
وقد يُنْكَس الإنسان بعد الشفاء من هذا المرض، فإنه لوحظ أن نحوًا من ١١
مريضًا في المئة يُنْكَسون، وقد تكون الفترة بين المرة الأولى والثانية ١١ يومًا،
وفي الغالب تكون مدة النكس مثل المدة في طولها؛ ولكنها أخف منها، وقد ينكس
ثانية وثالثة ورابعة.
وأهم تغير يحصل في الجسم بهذا المرض هو التهاب بقع (بايير) المذكورة
والغدد المنعزلة، وفي اليوم العاشر أو بعده بقليل تتقرح هذه الأجزاء، وقد ينثقب
البريتون؛ فتخرق الأمعاء، ويحصل التهاب بريتوني شديد يعقبه الموت، أما
التغيرات في بقية الأعضاء فهي كما ذكر سابقًا في المقدمة، وكثيرًا ما يشاهد في
التيفود إذا طالت مدته تغير العضلات الذي ذكره (زنكر zenker) فتستحيل
أليافها إلى مادة شفافة كالشمع، ثم تتفتت، وتصير حبيبات صغيرة، وبذلك تفسد
العضلات، وقد يتولد فيها خراج.
المضاعفات والأشكال المختلفة:
مضاعفات هذا المرض كثيرة، منها النزلة الشعبية، والالتهاب الرئوي، أو
البليوراوي، أو البريتوني، أو السحائي، وغير ذلك كثير.
ومن أنواعها ما لا يمكث إلا عشرة أيام، ويسمى بالنوع المجهض
(abortive) أو يطول إلى ٦ أسابيع، ومن الناس من لا يشعر بالمرض لشدة
خفته؛ ولكنه قد تُثقب أمعاؤه فجأة فيموت، وإذا شفي المريض لا تعود إليه قواه
العقلية والجسمية إلا تدريجًا؛ فيحتاج في الأحوال البسيطة إلى ثلاثة أشهر من مبدأ
المرض إلى تمام نقاهته، أما في الحالات الشديدة، أو المتضاعفة، أو ذات النكس
فيحتاج إلى٥ أو ٦ أشهر من مبدأ المرض.
الإنذار [٣] :
عدد الوفيات بهذا المرض هو من خمس إلى عشرين في المئة، ومن أشد
الأشياء خطرًا على الحياة ثقب الأمعاء، والنزف.
المعالجة:
هي كما سبق في باب الحميات، إنما نُذَكِّر هنا بعدة مسائل:
(١) أن لا يُعطى المريض مسهلاً إلا في أول المرض، وأفضل المسهلات
عندئذ زيت الخروع، ولا يجوز بحال من الأحوال إعطاء مسهل شديد
ألبتة.
(٢) يجب التزام الراحة التامة على الظهر؛ حتى يتبرز المريض في
إناء مفرطح منعًا لكل حركة، ويجب بقاء المريض على الغذاء السائل مدة ١٠ أيام
على الأقل بعد نهاية المرض، والغرض من ذلك كله منع الانثقاب والنزف.
(٣) من الأطباء من يعطي أدوية مطهرة للأمعاء (كالسالول) والزئبق
الحلو بمقادير صغيرة، ولكن نفع هذه الأشياء قليل، وغاية الأمر أنها قد تقلل
الإسهال والرائحة الكريهة للبراز.
(٤) إذا زاد الإسهال عن أربع مرات يوميًّا، وجب العلاج وإلا
فلا.
(٥) لا بأس من شرب الماء بكثرة؛ فإنه منعش، ويغسل سموم الجسم في
العرق والبول، وماء الجير نافع جدًّا إذا مُزج باللبن؛ فإنه يسهل هضمه، ويمنع
الغثيان، والقيء، ويمسك البطن، ويقوي خلايا الجسم؛ فإن الجير لازم لحياة جميع
الخلايا.
(٦) يُعالج الصداع بوضع الماء المثلوج على الرأس، أو بتعاطي
الفيناستين (بقدر٥ - ١٠ قمحات) أو غيره.
للوقاية:
(١) تطهر جميع مواد البراز والبول وغيرهما بوضع مثل الفنيك عليها
بنسبة ٥ في المئة لمدة ساعتين على الأقل قبل إلقائها في المراحيض.
(٢) يُغلى كل ما يستعمله المريض من ملبس، وفرش، وأواني، وغيرها
مدة نصف ساعة على الأقل.
(٣) يجتنب إلقاء أي شيء مما يخرج من المريض، أو يمسه في مجاري
ماء الشرب، أو تركه مكشوفًا بحيث ينقله الذباب أو الريح، بل يجب تغطية
أواني البراز بخرقة مغمسة بمحلول الفنيك بنسبة ٥ في المئة أيضًا منعًا لانتقال
الميكروب بواسطة الذباب إلى أهل المنزل.
(٤) يجب غسل يدي كل من خالط هذا المريض بالماء والصابون، ثم
بمحلول السليماني ١ في ١٠٠٠، أو بمحلول الفنيك، أو بالغول (الكحول)
النقي بوضعهما فيه خمس دقائق قبل أن يمس أي شيء من طعامه.
(٥) في وقت انتشار هذا الوباء يجب غلي كل طعام وشراب، وأحسن
طريقة لتطهير الخبز ونحوه إمراره في لهب الكحول، أو وضعه على الفحم
الملتهب، وينبغي أيضًا الامتناع عن أكل الخضر كالفجل والجرجير والفاكهة إلا
إذا غسلت جيدًا بالماء الغالي، وأزيلت قشورها، وكذلك يجب اجتناب أكل
الحيوانات البحرية المذكورة سابقًا واللبن المثلوج.
(٦) يُلقح السليم بالحقن تحت الجلد بميكروب الحمى التيفودية بعد قتله،
وذلك بأن يربى ميكروب التيفود لمدة ٤٢ ساعة، ثم يوضع في محلول الطعام ١
في ١٠٠ ويقتل بعد ذلك بحرارة درجتها ٥٣ سنتيجراد لمدة ساعة، وليحترس من
رفع الحرارة أكثر من ذلك؛ لأنها تفسد مادة التطعيم، ويحقن المريض مرتين
بينهما فترة عشرة أيام، وعدد الميكروبات التي يجب أن تحقن في المرة الأولى
٥٠٠ مليون، وفي الثانية نحو ١٠٠٠ مليون، ويوصي بعضهم بحقنة ثالثة من
٢٠٠٠ مليون، وللحقن في زمن انتشار الوباء عيب، وهو أن القابلية للمرض
تزداد بعد الحقن لمدة قصيرة؛ فيكون الإنسان عُرضة للإصابة، وأحسن الأوقات
للحقن ما كان قبل قيام المسافر ونحوه إلى مكان الوباء ببضعة أيام.
(٧) تطهر الأواني إذا تعسر غليها بمحلول حامض الكبريتيك بنسبة ٢ في
المئة ومزيته أن الآثار التي تبقى منه لا تضر صحة الإنسان مطلقًا بل إن طعمه
الحمضي مما يحرض شهوة الطعام، ويعين على الهضم.
(٨) لا يجوز للناقهين التبول، أو التغوط في الطرقات، ولذا يجب
تقصير الثياب وخلع المرء نعليه عند دخوله حجرات منزله، ولا يخفى أن من
آداب الإسلام تقصير الثياب فإن في إطالتها إسرافًا وخيلاء وضررًا صحيًّا
عظيمًا.
(٩) تتقى مخالطة الناقهين مدة ثلاثة أشهر على الأقل أو إلى أن يُظْهِر
البحث البكتيريولوجي طهارتهم من الميكروبات تمامًا بعد عمله عدة مرات متباعدة،
وإلا وجب منعهم عن مس أي طعام أو شراب، وتطهير أيديهم، وملابسهم،
وفرشهم، أو مفرزاتهم دائمًا، وغلي كل طعام أو شراب مسوه قبل تناوله.
***
طريقة فيدال لتشخيص الحميات
TEST WIDAL'S
هذه الطريقة مبنية على أن مصل دم المرضى بالتيفود يبطل حركة ميكروباته
في بعض دقائق، ثم يتراكم بعضها على بعض؛ فيتكون منها أكوام، وذلك ما يسمى
بالإفرنجية (Agglutination) وهي كلمة لاتينية معناها الحرفي (التغرية) ؛
لأن الميكروبات في اجتماعها تكون كأنها غريت بعضها ببعض بعد أن بطلت
حركتها، والأحسن أن نسمي ذلك (بالارتكام) والميكروبات في هذه الحالة لا تكون
ميتة كما يتوهم بعض الناس، وملخص هذه الطريقة عملاً أن يؤخذ جزء من دم
المريض في أنبوبة دقيقة مطهرة، ثم تمزج نقطة من مصله بجزء أكبر من السائل
الذي ربي فيه الميكروب بنسبة مخصوصة أفضلها ما كان (من ١ إلى ٣٠)
وينظر إليه بالميكروسكوب بطريقة (النقطة المعلقة) فبعد نصف ساعة أو ساعة لا
يشاهد غالبًا ميكروب واحد منفردًا، وقد فسر العلماء ذلك بعدة تفاسير لا حاجة
لذكرها؛ لأن الحقيقة مجهولة، وهذه الطريقة لا تنجح إلا بعد مضي بضعة أيام من
المرض، والأحسن أن يؤخذ الدم بعد الأسبوع الأول، وفي بعض الأحوال لا تنجح
مطلقًا وتكون الحمى حينئذ شديدة ومميتة، وفي البعض الآخر يستمر نجاحها لعدة
أشهر بعد انتهاء المرض، وهي تستعمل في الحميات الأخرى التي عُرِف ميكروبها
باليقين كالحمى المالطية، ويؤخذ الدم من شحمة الأذن أو الإصبع بالوخز بإبرة أو
نحوها.
ولا يتعين استعمال المصل في طريقة فيدال هذه، بل يجوز أن تعمل بدم
متجمد؛ فيذاب بقليل من الماء المقطر، ويستعمل كالمصل، ويجوز أيضًا استعمال
الميكروب الميت؛ فإنه يتراكم أيضًا، وكذلك الميكروبات غير المتحركة.
الحمى الباراتيفودية typhoid - para:
كلمة (بارا) يونانية معناها (قريبة) ؛ لأن هذه الحمى تقرب جدًّا من
التيفودية في أعراضها وسيرها، بل في جميع مميزاتها تقريبًا غير أنها تكون عادة
أخف وطأة، وأقصر مدة، والبطن يكون - في النوع الأول منها - غالبًا معتقلاً،
وهي غير مميتة إلا نادرًا، وتنتشر أحيانًا بشكل وبائي، وقد تحصل في جميع بقاع
الأرض، وأهم الأسباب في انتشارها الماء الملوث، وميكروبها كميكروب الحمى
التيفودية إلا في بعض أشياء قليلة من الوجهة البكتريولجية، أما في الشكل والحركة
فهما سيان، وهذا الميكروب لا يتراكم بمصل دم الحمى التيفودية، وهو نوعان:
النوع الأول يسمى (أ) والثاني (ب) أما (أ) فإنه أشد شبهًا بميكروب التيفود،
وأما (ب) فإنه أضر، إذا مات الشخص بسبب هذه الحمى كان غالبًا مصابًا
بميكروب (ب) وقد تخرق أمعاء المصاب بسبب تقرح اللفائف؛ ولكن تكون بقع
بايير سليمة وفي بعض الحالات لا يوجد شيء في الأمعاء، وفي إصابة واحدة
شوهدت ضخامة غدد المساريقا، وفي كثير من الإصابات يكبر الطحال.
أما المعالجة والوقاية فهي كالتيفودية سواء بسواء، هذه الحمى تقي من أصيب
بها من مثلها، ولا تقي من التيفود.
الحمى المالطية Fever Malta:
تسمى هذه الحمى أيضًا بحمى البحر الأبيض المتوسط؛ لأنها كثيرة الحصول
في شواطئه، وفي جزائره؛ ولكنها توجد أيضًا في جنوب أفريقية، والهند،
والصين، وغير ذلك.
الأعراض:
طور التفريخ يتراوح بين بضعة أيام و ٣ أو ٤ أسابيع، وتبتدئ الأعراض
تدريجيًّا كما في الحمى التيفودية؛ ولكن لا يظهر فيها طفح، ويكون البطن ممسكًا،
ولا تتقرح فيه بقع (بايير) ولا تضخم، والوفيات فيها قليلة (نحو ٢ في المئة) ؛
ولكنها تطول جدًّا فقد تمتد إلى ٩ أشهر، ويشفى منها المريض بالتدريج، ويصير
ضعيفًا أصفر اللون وقد تلتهب مفاصله أو خصيتاه.
أسبابها:
لهذه الحمى ميكروب من النوع البزري، وهو لا حركة له، ولا أهداب (وإن
ادعى بعض الباحثين أن له أهدابًا) أما ما يُشاهد فيه من الحركة فهي حركة برون
(Brown) وهو اسم امرئ نباتي يسمى (روبرت برون) شاهدها في قطرات
الندى؛ ولكنها ظاهرة طبيعية يمكن مشاهدتها في كل سائل فيه ذرات دقيقة؛ فتهتز
هذه الذرات مع حركة رحوية قليلة حول نقطة معينة، وسببها اختلاف درجة
الحرارة في السائل بالتبخر القليل الذي يحصل من سطحه.
وأعظم ما ينقل ميكروب هذه الحمى إلى الإنسان هو لبن الماعز فإن الماعز
تصاب كثيرًا بهذا الميكروب في جزائر البحر الأبيض، وفي جنوب أفريقية
وغيرها بدون أن يظهر فيها عرض ما لهذا المرض (إلا ضعفًا في بعضها أو
التهابًا في ضروعها) ؛ ولكنها تفرز في لبنها كثيرًا من هذا الميكروب.
وللوقاية منه يجب اجتناب أكل أو شرب هذا اللبن أو ما يصنع منه كالزبدة أو
الجبن الحالوم إلا إذا كان اللبن غلي قبل صنع الجبن منه، ويجوز أن يدخل
الميكروب من جرح بالجلد إذا مسه هذا اللبن، أو ينتقل بواسطة الحشرات الماصة
للدم كالبعوض مثلاً فإن الميكروب يعيش فى جسمه أربعة أيام أو خمسة.
وهذه الحمى تصيب الذكر والأنثى على السواء تقريبًا، وهي أكثر حدوثًا في
سن الشباب منها في الكبر، ويكثر حصولها في أيام الحر.
***
الدفثيريا
Diphtheria
الدفثيريا كلمة يونانية معناها الغشاء، وهي عبارة عن مرض معدٍ رديء،
أهم مميزاته أنه يصيب الأغشية المخاطية للفم، أو الحلق، أو الأنف، أو الحنجرة،
أو غير ذلك فيتكون غشاء أبيض فوق هذه الأجزاء الملتهبة، وقد يصيب هذا
الغشاء أيضًا سحجات الجلد أو جروحه، وإذا أصاب الملتحمة (غشاء العين) أتلفها
في ٢٤ ساعة.
الأسباب:
هذا المرض يصيب الأطفال خصوصًا بين السنة الثانية والعاشرة أو الثانية
عشرة، ويندر حصوله لغيرهم، وهو ينتشر بالهواء لمسافات قصيرة، ويخرج
الميكروب في إفرازات المصاب أثناء عطاسه أو سعاله مثلاً، أما نَفَسه الهادئ فلا
يضر، ويعيش ميكروب الدفثيريا مدة طويلة إذا سكن في طيات الثياب، وهي مما
ينقله إلى مسافات أبعد من مسافة انتقاله في الهواء، ويعدي هذا المرض حتى في
مبدئه قبل أن تظهر جميع أعراضه، ورطوبة المنازل، والأهوية الفاسدة مهيئات
له، وكذلك أمراض الحلق كالتهاب اللوزتين، وقد ينتقل الميكروب بالطعام أيضًا
إلى مسافات بعيدة، وتصاب بعض الحيوانات به خصوصًا القطط والبقر؛ فيعدي
لبنها حينئذ إذا لم يُغلَ، ويصاب الحمام، والدجاج، والخيل، والغنم بمرض يشبهه
والقول الراجح عند العلماء الآن إن مرض هذه الحيوانات المذكورة أخيرًا لا علاقة
له بمرض الإنسان، ولا ينتقل إليه، ولكن لا خلاف بينهم في إصابة القطط والبقر
به؛ فتظهر بثور وقروح دفثيرية في ضروعها، والفئران لا تصاب به، أما تلك
الحيوانات الداجنة التي لا تصاب به فقد تتلوث بميكروب دفثيريا الإنسان، وتكون
كحاملي الأمراض؛ فتنقله من مكان إلى آخر، ومن إنسان إلى إنسان.
ويرى بعض العلماء أن ميكروبها يعيش مدة طويلة في الطين، والهواء
المحتبس في جوف الأرض يخرجه منها إذا ارتفعت مياهها - كما سبق - ويكثر
هذا المرض في فصلي الخريف والشتاء، وهو الزمن الذي تكثر فيه القرمزية،
والتهاب الحلق، أو الحنجرة، أو اللوزتين.
ويجوز أن يعود المرض للمرء بعد شفائه، وميكروب هذا المرض يوجد في
الطبقات العليا للأغشية المذكورة، وإذا طال المرض وجد في الرئة والطحال
والكليتين، بل ربما وجد في الدم أيضًا، وهو من الشكل الباسيلي اكتشفه كل من
(كلبز klebs) سنة ١٨٨٣ (ولفلر loiffler) سنة ١٨٨٤، وهما عالمان من
علماء الألمان، وطول هذا الميكروب يختلف من ٣ إلى ٤ ميكرون، وهو غير
متحرك، ولا حبيبات له، بل يتكاثر بالانقسام، ويعيش في الهواء؛ ولكنه يمكنه
أن يعيش في غير الهواء حتى في الفراغ، ويبقى في السوائل المغذية وغيرها من
المزارع مدة شهر، وإذا جفف عاش ٣ أو ٤ أسابيع، ويقف نموه إذا زادت
الحرارة عن ٤٠ْ أو نقصت عن ٢٠ْ سنتجراد.
وإذا شفي المصاب وجد الميكروب في حلقه في نصف عدد الناقهين لمدة ٣
أيام، وفي أحوال قليلة يبقى ٣ أسابيع، وقد يستمر إلى ٥ أشهر، بل ١٥ شهرًا،
ومن ذلك يُعلم خطر الإسراع في خلط المصاب بغيره من الأطفال قبل مضي مدة
طويلة، والأفضل أن يفحص حلق الطفل أو أي موضع آخر للإصابة مرتين أو
ثلاثًا فحصًا بكتيريولوجيًّا بأخذ جزء من إفرازاته، فإذا لم يوجد الميكروب بعد
الفحص مرتين أو ثلاث مرات متفرقة يؤذن للطفل بأن يختلط بغيره.
وممن يختلط بالمصاب أناس (٨-٣٠%) أصحاء يحملون الميكروب في
حلوقهم وأفواههم [٤] لغيرهم ويبقون أصحاء؛ ولكن بعد زمن يصبح ميكروبهم غير
خطر غالبًا على غيرهم لفقده قواه السامة، ويسمي الأطباء مثل هؤلاء الناس
بالحملة الأصحاء، ويرى بعض العلماء أن باسيل هوفمان (Hofmann) الكاذب
الذي يوجد أحيانًا في حلوق الأصحاء وأنوفهم قد ينقلب فيصير صادقًا محدثًا
للدفثيريا الحقيقية.
الأعراض:
مدة التفريخ تختلف من يومين إلى ستة أيام، وقد تكون يومًا أو ثمانية،
ويبتدئ المرض بالإقهاء، وبسآمة وصداع، أو بغثيان وقيء ورعدة، ثم لا يلبث
المريض أن يشتكي من ألم في الحلق، فإذا نظر إلى حلقه في هذا الوقت شوهد
احمرار فيه وفي اللهاة، وانتفاخ أو احمرار والتهاب في اللوزتين، وبعد وقت
قصير يرى الغشاء يتكون على سطح الأغشية الملتهبة، وقد يظهر في وقت واحد
على اللوزتين معًا، وقد يبدأ بواحدة منهما قبل الأخرى، ومن الجائز أن يظهر على
غيرهما من أجزاء الحلق؛ وبسبب هذا الالتهاب تلتهب بعض الغدد اللمفاوية التي
في العنق [٥] ، وقد يحدث من ذلك خراج فيها، أو تموت الغدد، وتسقط.
وحرارة الدفثيريا لا نظام لها، فقد تزيد عن ٤٠ْ، ولكن الأغلب أنها تكون
أقل من ذلك، وهذا الارتفاع تصحبه الأغراض الأخرى للحمى، وفي كثير من
الإصابات يشتمل البول على زلال في وقت اشتداد المرض، أما إذا أصابت الأنف
فيعسر التنفس منه، وينتفخ غشاؤه المخاطي، ويسيل منه مخاط وقيح، أو دم
وصديد؛ فيتقرح بذلك جانبا الأنف وما جاورهما من الشفة، وخطر الالتهاب الأنفي
الغشائي نادر جدًّا ولا عواقب له، ويندر أن يعدي الآخرين، ولو أن الميكروبات
تكون فيه كثيرة كغيره.
وإذا أصابت الدفثيريا الحنجرة (وهذا ما يسمى بالخُناق) كثر السعال،
وصار له صوت مخصوص، وعسر التنفس، وبح الصوت، وكثيرًا ما يشتد
الضيق حتى يختنق المريض.
وفي الأحوال الحنجرية يكون هذا الضيق غالبًا هو السبب في الموت، وإذا
عُمل للمريض فتح في القصبة الهوائية؛ فقد يموت بسبب المضاعفات الرئوية أو
الضعف العام مع شلل القلب.
أما في الأحوال الحلقية فالموت فيها يكون بشلل القلب، وهو يحصل بسرعة
عجيبة.
المضاعفات:
كثيرة منها التهابات الرئة، والبليورا، والالتهاب الكلوي، والشلل الدفثيري،
وأهم أعراضه شلل في سقف الحلق الرخو؛ فيرجع الماء وغيره من السوائل من
الأنف ويصاب المريض بالحُنة أو الغُنة - وهي خروج صوته من أنفه - وتضعف
رجلاه فلا يقوى على المشي طويلاً، ولا القيام، ويصاب بالحَوَل لشلل بعض
عضلات العين، إلى غير ذلك من الأعراض التي تصيبه بسبب تأثير سم المرض
في الأعصاب، وهذه الأعراض تبتدئ بعد الشفاء الظاهري بأيام أو أسابيع.
المعالجة:
يُعْزَل المريض، وتعطى له السوائل المغذية، والمنعشات المنبهة للقلب؛ فإنه
عرضة لأن تحصل فيه استحالة شحمية، وتجب المبادرة إلى حقن المريض بمصل
الدفثيريا، وذلك من اختصاص الطبيب الذي يقدر الكمية المناسبة لحالة المريض،
ويجري عمل الحقن طبق الأصول الطبية.
والمبادرة إلى حقن المريض من أوجب الواجبات؛ لأن التأخير يفسد خلايا
الأعضاء وخصوصًا القلب، حتى إذا عُمل للمريض الحقن بعد ذلك لا ينفعه شيئًا،
والمصل يبقى نافعًا مدة سنة على الأقل إذا لم تفتح زجاجاته، وحفظ في مكان مظلم
بارد.
ويطهر الحلق بطرق كثيرة، ومن أحسنها استعمال أقراص (الفرمانت)
(Formamint) لسهولة تعاطيها عند الأطفال، وإذا احتيج إلى تطهير أقوى
ونزع لتلك الأغشية من الحلق، فالأَوْلَى أن يخدر الطفل بالكلورفورم لينظف حلقه
تنظيفًا تامًّا بغير إجهاد له.
أما الشلل الذي يعقب المرض؛ فإنه يزول من نفسه في شهرين، أو أربعة
أشهر، ومما يعجل في شفائه الراحة، والمقويات، والكهرباء، والأغذية الجيدة،
والهواء النقي.
الوقاية:
تُعرف من الكلام على أسباب هذا المرض، وإذا حقن الطفل الذي اختلط
بمريض وَقَتْهُ الحقنةُ لمدة ٣ أسابيع تقريبًا، والكمية اللازمة للوقاية هي ٥٠٠ إلى
١٠٠٠ وحدة، أما الوحدة وتسمى وحدة (إرليخ [٦] Ehrlich) وهو عالم ألماني
يهودي - فهي الكمية التي إذا مُزجت بمائة ضعف للكمية الكافية لقتل خنزير الهند
البالغ وزنه ٢٥٠ جرامًا في ٤ أيام وَقَتْهُ من الموت إذا حقنت تحت جلده.
***
سوء استعمال الحقن الواقي من الدفثيريا وغيرها
سبق قولنا إنه إذا أصيب طفل بهذا المرض بقي الميكروب في حلقه مدة
مختلفة بعد شفائه قد تمتد إلى عدة شهور، فقد روى العلَّامة هيولت الإنكليزي
(Howleltt) حادثة وجود الميكروب في أحد المصابين بعد شفائه بخمسة عشر
شهرًا.
فالواجب إذًا عزل المصاب عن غيره عزلاً تامًّا، وتطهير كل ما لامسه، أو
خرج منه تطهيرًا تامًّا، وعدم السماح له بالاختلاط بغيره إلا بعد فحص حلقه فحصًا
بكتيريولوجيًّا دقيقًا نحو ثلاث مرات متفرقات، والتيقن من عدم وجود الميكروب.
أما الحقن بمصل الدفثيريا للوقاية فله عيب كبير، ذلك أن الوقاية به لا
تتجاوز ثلاثة أسابيع، فإذا أصيب الطفل الذي عُمل له هذا الحقن بمرض الدفثيريا
بعد نهاية الثلاثة الأسابيع مثلاً، وعالجناه من مرضه بالحقن فقد يصاب الطفل فوق
مرضه بمرض آخر يسمى (مرض المصل) (Serum disease) أو (زيادة
التأثر بالحقن) (Supersensitiveness) وهذا المرض كثيرًا ما يكون خطرًا،
ولعله أحد أسباب كثرة المتوفين من الأطفال حتى بعد الحقن بمصل الدفثيريا.
وأعراضه هي: غثيان وقيء، وضعف في النبض مع سرعته، وإحساس
بالضجر والاختناق، وسرعة في التنفس مع ضيقه وهمود (هبوط) وتشنجات،
بل وغيبوبة، وهذه الأعراض تزول عادة بعد ساعة أو ساعتين؛ ولكنها قد تميت
الشخص خصوصًا بالاختناق لانقباض الشعب الرئوية الصغيرة، هذا ولو كان
الشخص المحقون مرتين سليمًا فما بالك إذا كان مصابًا مع هذه الأعراض بالدفثيريا
فإن الوفاة تكاد تكون محققة.
والمراد بهذا المرض المذكور هنا هو غير ما يحدث من الحقن (لنحو ٧%)
في نهاية الأسبوع الأول، أو بعده مثل ظهور طفح متنوع الشكل، وألم في
المفاصل مع تورم فيها، وحمى خفيفة؛ فإن هذه الأعراض لا أهمية لها، وتزول
في نحو ثلاثة أيام، ولا خطر منها عادة.
أما المرض الذي نحن بصدده فيحدث إذا حقن شخص مرة للوقاية مثلاً من
الدفثيريا، ثم مضت مدة بعد حقنه نحو ١٢ يومًا أكثر، ثم عدنا إلى الحقن مرة ثانية،
وقد يحدث هذا المرض حتى إذا كانت الفترة بين الحقنين أربع سنوات، أو أكثر.
وهذا المرض لا ينشأ عن سم في المصل، بل عن نفس المصل، بحيث إذا
حقن مصل أي حيوان سليم مرتين متفرقتين بتلك الفترة، فقد يحدث هذا المرض،
لذلك ولغيره لا يجوز معاجلة النزف بالحقن بالمصل، أو بالدم كما سبق في صفحة
٤٩ من الجزء الأول.
ومن طرائق اتقاء المرض المذكور أن يحقن نوعان مختلفان من المصل،
أعني أن يحقن للوقاية مصل مستخرج من الثور مثلاً، وللعلاج مصل آخر
مستخرج من الحصان كما هو المعتاد، وكذلك استعمال لبنات الكالسيوم قبيل الحقن
أو في أيام استعماله؛ فإن هذا الملح كثيرًا ما يمنع هذه الأعراض الخطرة، أو
يخفف من وطأتها، بل قد يمنع الأعراض الأخرى المذكورة كالطفح، وألم المفاصل،
وغيرهما أيضًا، ومقدار هذا الملح في كل جرعة من ١٠ إلى ٣٠ قمحة أي
يختلف باختلاف السن، وهو يذوب في الماء، ويسهل امتصاصه في البنية، وإذا
تعسر إعطاؤه من طريق الفم كما في الدفثيريا أذيب في الماء، وحقن في الشرج،
أو أعطي مع اللبن؛ فإن المريض لا يشعر به.
ومن الطرق أيضًا لاتقاء تلك الأعراض التخدير العام بالأثير مثلاً وقت الحقن
الثاني؛ ولكنها طريقة رديئة جدًّا، وغير ميسورة في أكثر إصابات الأطفال
خصوصًا إذا أصابت الدفثيريا حناجرهم.
ويقال: إن الحقن بالمصل الذي أزيل منه بعض المواد الزلالية الأولية
(Proteins) يقلل التعرض للإصابة بتلك الأعراض، واعلم أن المصل الرقيق
الذي لم يتكاثف بالتبخر أسهل امتصاصًا من الغليظ، هذا ولا يتوهم القارئ أني أنفر
الناس من الحقن في الدفثيريا لعلاجها كلا! ثم كلا! بل الواجب المبادرة إلى الحقن
بالمصل المشتمل على وحدات كثيرة بحسب ما يراه الطبيب في الحالة [٧] وإنما
كلامي السابق هو لبيان مضار الحقن للوقاية لا للعلاج.
وكذلك يجب حقن مُصُول أخرى كالمصل المضاد لسم البزور السلسلية إذا
وجدت في الحلق بالبحث الميكروسكوبي، أو عرفت بمثل الأعراض الآتية:
وهذه الميكروبات تصاحب ميكروب الدفثيريا في بعض الأحوال، فتكون
الحمى فيها شديدة، ورائحة الحلق كريهة جدًّا، فإن لم يعمل هذا الحقن أيضًا كان
مصل الدفثيريا وحده غير وافٍ بالغرض.
***
الطاعون
Plague
الطاعون - وقانا الله منه - داء اشتُهر كثيرًا حتى بين الأمم الغابرة، وكانوا
يخشونه أشد خشية لشدة فتكه بهم وسرعة انتشاره بينهم، ومن أشهر أوبئته التي
حدثت في أوربة ما حدث في عصر يوستنيانوس الروماني في القرن السادس بعد
الميلاد.
الأسباب:
هذا المرض ينشأ من ميكروب باسيلي اكتشفه (كيتاساتو) (Kitasato)
الياباني سنة ١٨٩٤، وهو يوجد أثناء حياة المريض في الدم، وفي الغدد الملتهبة،
وفي البراز، والبول، وفي اللعاب إذا التهبت الرئة، وبعد الموت يوجد في جميع
أعضاء الجسم تقريبًا، طول هذا الميكروب من ١ إلى ١. ٥ ميكرون، وهو لا
حبيبات له، ولا حركة، وإن زعم بعضهم أن له أهدابًا.
ينتقل هذا الميكروب من شخص إلى آخر بسرعة عظيمة، خصوصًا إذا
ساءت الأحوال الصحية بالازدحام، ونقص التهوية، وزيادة القاذورات في الأماكن
والملابس وغيرها، وهو يصيب الناس في جميع الأعمار إلى الخمسين، وبعد ذلك
يقل كثيرًا، والإصابة به مرة تحمي عادة من الإصابة ثانية، وشدة الحر تعوق
سيره أكثر من البرد.
هذا المرض يصيب كثيرًا من الحيوانات مثل القردة، والقطط، والجرذان
(جمع جُرَذ وهو الفأر الكبير) أما الخيل والأنعام فهي لا تصاب به إلا قليلاً، وكذلك
الطيور.
أهم مدخل لميكروب هذا المرض في الجسم طريقان: وهما طريق الرئة
وطريق الجلد، أما طريق المعدة، أو الأمعاء فهو من الندرة بمكان بحيث لا يستحق
الذكر.
وكيفية وصوله من طريق الرئة أن يستنشقه الإنسان مع الهواء الملوث به من
نفثات المصاب بالطاعون الرئوي، أما طريق الجلد فهو من أعظم الطرق لنشر هذا
المرض، ولإيضاح ذلك نقول: إن الفئران كثيرًا ما تصاب به فتموت، والفئران
يأكل بعضها بعضًا - كما سبق - فينتشر المرض بينها لهذا السبب ولغيره،
وللفئران براغيث تنتقل منها إلى الإنسان؛ فتلقحه بها، وكذلك تلقح الفئران الأخرى،
وقد تلقح شخصًا من شخص؛ ولكنه نادر، واسم هذا النوع من البراغيث
بالإفرنجية (Cheopis Pulex) وهو أشهر أنواع البراغيث التي تعيش بدم
الفئران في البلاد الحارة، ويتكاثر الميكروب في معدة البرغوث وأمعائه، ويخرج
في برازه فقط، فإذا علق بخرطومه، ووخز به إنسان لقحه بالمرض، وقد يتلوث
مكان الوخز من الإنسان ببراز البرغوث الذي فيه كثير من ميكروبات الطاعون،
ويبقى البرغوث قادرًا على التلقيح لمدة تتراوح بين سبعة أيام، و١٥ يومًا، وقد
ينقل البق أيضًا ميكروب الطاعون، ويُحتمل أيضًا أن يدخل الميكروب من بعض
الجروح والسحجات كما في الأقدام الحافية، فإن لم تُوقِف الغدد اللمفاوية
الميكروبات وصلت إلى الدم، وأحدثت تسممًا عامًّا كما سيأتي.
الأعراض:
مدة التفريخ من يومين إلى خمسة:
ولهذا المرض ثلاثة أشكال شهيرة وهي: الطاعون الدملي، والطاعون
الدموي، والطاعون الرئوي.
أما أعراض الشكل الأول - وهو أكثر حدوثًا - فهي الإحساس بالضعف العام،
والكلل، والصداع، والدوار، والرعدة التي يعقبها ارتفاع في الحرارة، وفي
بعض الأحوال يُصاب المريض في هذا الطور بشيء من الذهول، مع مشية كمشية
النشوان، وارتعاش في حديثه، وقد يصاب بتهيج ورعب لا يُعْرَف سببه، أو
يصاب بالغثيان، والقيء، أو الإسهال.
وتكون الحمى في هذا المرض عالية، ويصاحبها باقي أعراض الحمى
كجفاف اللسان واسوداده، ثم يصير المرء في حالة تشبه المصاب بالتيفوس،
فيهذي كثيرًا، ثم تصيبه الغيبوبة، وتكثر الأوساخ على الشفتين والأسنان،
ويضعف النبض، وتبرد الأطراف، ويقل البول، بل قد لا يُفْرَز مطلقًا في بعض
الأحوال المميتة، وبعد يومين أو ثلاثة تضخم الغدد اللمفاوية في الأُرْبيّة، أو الإبط،
أو العنق.
والغالب أن تصاب الغدد في جهة واحدة وهي الأربية، وحجم الورم الناشئ
من ذلك يكون كحجم بيضة الدجاجة، ويصحبه ألم شديد، وإذا طالت حياة المرء
حصل له خُراج في تلك الغدد في اليوم السابع عادة، وفي هذا الوقت قد تظهر
دمامل في الجلد أو جمرات خصوصًا في الأطراف السفلى، أو الأَلْيَتَيْنِ، أو القفا،
وفي الأحوال الشديدة جدًّا يحصل نزف تحت الجلد قُبيل الموت، أو يكون النزف
كنقط صغيرة كلدغ البراغيث، وكلاهما قد يعم الجسم كله، أو يكون ظاهرًا حول
الغدد الملتهبة، وقد يصاب المرء أيضًا بالرعاف، أو النزف الرئوي، أو المعدي،
أو المعوي.
والموت يحصل عادة قبل اليوم السادس، والشفاء يبتدئ من اليوم السادس
إلى العاشر؛ ولكن إذا تقيحت الغدد قد تطول مدة المرض بسبب المدة التي فيها.
أما أعراض الشكل الدموي فيصاب المرء فجأة بأعراض الحمى البالغة، وقد
يموت في ظرف ٢٤ ساعة لتسمم دمه، وفي هذا الشكل قد تَرِمُ الغدد قليلاً؛ ولكن
لا تصل إلى حجم النوع الأول مطلقًا، ويسمى هذا النوع بالطاعون الصاعق؛ فإن
المريض يُصعق به فجأة؛ فيغيب عن الوجود، وترتفع حرارته؛ فيموت سريعًا.
أما أعراض الشكل الثالث فتبتدئ كالشكل الأول؛ ولكن بعد يوم أو يومين
تظهر الأعراض الرئوية؛ فيسرع التنفس، ويكثر السعال مع النفث الكثير المشوب
بالدم، ويزول النوم، ويكثر الهيجان والهذيان، ويموت المريض في ظرف ثلاثة
أيام، وتكون الرئة في هذا النوع مصابة بالتهابات متعددة في فصيصاتها.
ولا توجد الخيرجلات (وهي التهاب الغدد اللمفاوية) عادة في هذا الشكل،
وفيه يوجد الميكروب في القطع الملتهبة من الرئة، وفي البصاق.
وهناك نوع آخر لا يهمنا كثيرًا لقلته، وفيه تكون الحمى قليلة، والأعراض
خفيفة بحيث يمكن للمريض أن يغدو ويروح مدة من أيام مرضه، ويسمى هذا
الضرب بالطاعون الجولاني.
الإنذار:
عدد الوفيات في هذا المرض كثير جدًّا، فقد تصل إلى ٥٠%، بل إلى
٨٠ %، والموت بين الجنس الأبيض في الظروف الصحية الجيدة أقل منه في
غير ذلك.
المعالجة:
تُعالج الأعراض كل بما يناسبه حسب الأصول الطبية، وللطاعون مصل
كمصل الدفثيريا [٨] يحقن منه في اليوم الأول ثلاثة مقادير كل منها خمسون سنتي
مترًا مكعبًا تحت الجلد أو في الأوردة - وهو الأفضل في الأحوال الشديدة -
ويتكرر بعد ذلك حقن مقادير صغيرة بضعة أيام، ومن أحسن أنواع هذا المصل
مصل) يرسين Yersin) ، ولكن فائدته ليست بكبيرة.
الوقاية:
تكون بأشياء كثيرة أهمها ما يأتي:
(١) عزل المصاب.
(٢) النظافة التامة في كل شيء
(٣) إبادة الفئران، وأحسن طريقة لذلك أن تُصطاد بالأشراك، أو تسمم
بالزرنيخ أو الفسفور، إما اصطيادها بالقطط فعيبه أنها هي نفسها قد تصاب
بالطاعون؛ فتكون من العوامل الناشرة للمرض بدل المقللة له.
(٤) تنظيف الملابس ليتقي وجود البراغيت فيها.
(٥) إبادة الحشرات الأخرى بقدر الإمكان كالبق؛ فإنه قد ينقل الميكروب
من شخص إلى آخر.
(٦) يُحقن الأصحاء مرتين إذا حصل الوباء بلقاح الطاعون، وهو
ميكروبه المقتول بالحرارة؛ فتحصل المناعة بسرعة حتى لا يخشى كثيرًا من
حصول المرض قبلها.
(٧) يُطهر كل ما يوجد في غرفة المريض بالغلي، أو الحرق، أو غيرهما
وقتل الميكروب الذي يوجد في إفرازاته بالأدوية المطهرة وبالحرق.
(٨) لا يختلط المريض بالأصحاء إلا بعد شهر من شفائه؛ لأن الميكروب قد
وجد في دم المطعون بعد النقاهة بثلاثة أسابيع.
(٩) على الممرِّض للمطعون بالنوع الرئوي أن يتكمم بالقطن المنفوش ليحول
دون وصول الميكروب إلى رئته، ثم يحرق القطن.
(١٠) تسد شقوق وفروج المنازل لكيلا تأوي إليها الجُرذان.
((يتبع بمقال تالٍ))