للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: القاسمي


الخطب الدينية
(٣)

خطبة من خطب القاسمي
في النهي عن الحلف بالله والطلاق
الحمد لله الذي خلق الخلق على الإطلاق، فاطر السموات والأرض، وباسط
الأرزاق، فسبحانه هو العلي الرزاق، لا تنفد خزائنه بكثرة الإنفاق، أحمده وأشكره،
وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الخلاق،
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد العالمين بالاتفاق، صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم التلاق، وسلم تسليمًا.
أما بعد أيها الناس، عليكم بالتقوى فإنها ترضي الملك الخلاق، واحذروا من
أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم؛ فإن أيمان الحنث تمحق بركة الأرزاق، واحذروا
من الحلف بالطلاق؛ فإنه يمين الفسَّاق، فمن حلف بغير الله فقد عظمه، ومن عظم
غير الله صار من أهل النفاق، وخالف الكتاب والسنة، ومن خالفهما فليس له في
الآخرة من خلاق، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إن الله ينهاكم
أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال صلى الله عليه
وسلم: (لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) ، وقال صلى الله عليه
وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا حلفت
على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير) واعلموا
أن من حنث في يمينه؛ فعليه أداء الكفارة وهي عتق رقبة، أو إطعام عشرة
مساكين، أو كسوتهم، فإن عجز فصوم ثلاثة أيام، ولا يجب التتابع في الصيام،
ويكفي في الكسوة ثوب أو سراويل أو قميص، يوزع من كل عشرة على المساكين
الذين ورد فيهم التنصيص، ومن طلَّق زوجته ثلاث تطليقات شرعيات غير
بدعيات فلا تحل لهإلا بنكاح جديد، ومن أمسكها بعد الثلاث فقد خالف أمر الله المجيد،
وتعرض للوعيد الشديد، ومن لعب بالطلاق، أو طلق امرأته من غير ما بأس فقد
نقض الميثاق، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته
ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان، ثم قال أتلعبون بكتاب الله، وأنا بين أظهركم،
وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس
فحرام عليها رائحة الجنة) وقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: ٢٢٩) وقال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً} (النساء: ٣٤) أي بالفراق، فاتقوا الله عباد الله في النساء وحقوق
الزوجية، وقوموا من مكارم الأخلاق مع الأهل بالسنة النبوية، فقد قال صلى الله
عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) واشكروا نعمة الله في
الأزواج أيها المؤمنون، فقد قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: ٢١) .
***
خطبة أخرى له
في آداب الكسب والمعاش
الحمد لله الذي رفع السماء لعباده سقفًا مبنيًّا، ومهد الأرض بساطًا لهم وفراشًا،
وكور الليل على النهار، فجعل الليل لباسًا، وجعل النهار معاشًا، لينتشروا في
ابتغاء فضله وينتعشوا به عن ضراعة الحاجات انتعاشًا، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي يصدر المؤمنون عن
حوضه رواء بعد وردهم عليه عطاشى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين
لم يدعوا (؟) في نصرة دينه تشمرًا وانكماشًا.
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن رب الأرباب، ومسبب الأسباب،
جعل الآخرة دار الثواب والعقاب، والدنيا دار التمحل والاضطراب، والتشمر
والاكتساب، وليس التشمر في الدنيا مقصورًا على المعاد دون المعاش، بل المعاش
ذريعة إلى المعاد ومعين عليه، فالدنيا مزرعة الآخرة، ومدرجة إليها، والناس
ثلاثة: رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين، ورجل شغله معاده عن
معاشه فهو من الفائزين، والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغله معاشه لمعاده
فهو من المقتصدين، ولن ينال رتبة الاقتصاد، من لم يلازم في طلب المعيشة منهج
السداد، ولم ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة، ما لم يتأدب في
طلبها بآداب الشريعة، وقد ورد في فضل الكسب والحث عليه آيات وأخبار، قال
الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: ١٩٨) ،
وقال تعالى: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: ١٠) ،
وقال صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق يُحشر يوم القيامة مع الصديقين
والشهداء) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يسعى على نفسه ليكفها عن
المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى على أبوين ضعيفين،
أو ذرية ضعاف ليغنيهم، ويكفيهم فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى تفاخرًا
وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان) ، وقال عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن
طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة،
ويجب على التاجر أن ينصح في المعاملة، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يحل
له أن يثني على السلعة بما ليس فيها، ولا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئًا،
ولا يكتم في وزنها ومقدارها شيئًا، ومن خالف ذلك كان ظالمًا غاشًّا، والغش حرام،
قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ، وقال تعالى: {وَيْلٌ
لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ} (المطففين: ١-٣) ، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (الإسراء: ٣٥) وعلى التاجر
الرفق في التعامل والإحسان فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ سهل
البيع، سهل الشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء) وقال صلى الله عليه وسلم:
(من أَنْظَرَ معسرًا، أو ترك له أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)
وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ} (الأعراف: ٥٦) .
***
خطبة له
في فضل الأخوة والصحبة والألفة
الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طولاً وامتنانًا، وألف
بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا، ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا
أصدقاء وأخدانًا، وفي الآخرة رفقاء وخلانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلى الله عليه،
وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه واقتدوا به قولاً وفعلاً وعدلاً وإحسانًا.
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن التحاب في الله تعالى، والأخوة
في دينه من أفضل القربات، وألطف ما يُستفاد من الطاعات في مجاري العادات،
وقد ورد في فضل الأخوة آيات كريمات، وأخبار عاليات، قال الله تعالى: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن
أَلِفٌ مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف) ، وعنه صلى الله عليه وسلم:
(من أراد الله به خيرًا رزقه خليلاً صالحًا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه) ، وعنه
صلى الله عليه وسلم: (ما زار رجل رجلاً في الله شوقًا إليه، ورغبة في لقائه،
إلا ناداه مَلَك من خلفه طبت وطاب ممشاك، وطابت لك الجنة) ، واعلم أن لأخيك
عليك في أخوته وصحبته حقوقًا يجب الوفاء بها، فمنها حق في المال، بأن تقوم
بحاجته من فضل مالك، أو تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه
رتبة الصديقين، وحق في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات مع البشاشة وإظهار
الفرح، وحق على اللسان في السكوت عن عيوبه، وفي ترك مماراته، وفي
النطق بالمحاب توددًا إليه، وتفقدًا لأحواله، وحق في العفو عن الزلات والهفوات،
وحق في الدعاء له في حياته ومماته كما يدعو لنفسه، وحق في الوفاء والإخلاص،
وذلك بالثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه،
وحق في التخفيف، وترك التكلف والتكليف، فلا يكلف أخاه ما شق عليه، بل
يروح سره من مهماته وحاجاته، وجملة حقوق المسلم أن تسلم عليه إذا لقيته،
وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات،
وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا
غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتحاسدوا،
ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله) فاتركوا
الضغائن من قلوبكم والأحقاد، وتصافحوا على المحبة وسلامة الصدر والإيثار
وصدق الوداد، وليعتذر كل منكم لأخيه عما فرط منه، ليفوز برضاء الله عنه،
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس،
واصطناع المعروف إلى كل بَرّ وفاجر) ، وقال صلوات الله عليه لمعاذ: (أوصيك
بتقوى الله، وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ
الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وخفض الجناح) .