للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


المعرفة بالله تعالى

بيَّن ابن القيم في باب المعرفة من الجزء الثالث من (مدارج السالكين)
الفرق بين المعرفة والعلم لغة وشرعًا من خمسة وجوه، ثم بيَّن معناها في اصطلاح
الصوفية، وكلام أئمتهم فيها، ثم شرح ما قاله شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي
فيها، ونحن ننقل ما هو خاص بالتصوف،أي ما بعد الفروق الخمسة وهذا نصه:
والفرق بين العلم والمعرفة عند أهل هذا الشأن، أن المعرفة عندهم هو العلم
الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده، بل
لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالمًا بالله، وبالطريق الموصل إليه، وبآفاتها،
وقواطعها، وله حال مع الله، فتشهد له بالمعرفة، فالعارف عندهم من عرف الله
سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في
قصوده ونياته، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه
ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته، ثم دعا إليه على بصيرة بدينه
وآياته، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله، ولم يشبها بآراء الرجال
وأذواقهم، ومواجيدهم، ومقاييسهم، ومعقولاتهم، ولم يزن بها ما جاء به الرسول
عليه من الله أفضل صلواته، فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة، إذا سمي
به غيره على الدعوى والاستعارة [١] .
وقد تكلموا على المعرفة بآثارها وشواهدها فقال بعضهم: من أمارات المعرفة
بالله حصول الهيبة منه، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته. وقال أيضًا:
المعرفة توجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته، وقال لي بعض
أصحابنا: ما علامة المعرفة التي يشيرون إليها؟ فقلت له: أنس القلب بالله، قال
لي: علامتها أن يحس بقرب قلبه من الله فيجده قريبًا منه، وقال الشبلي: ليس
لعارف علاقة [٢] ، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا
لأحد من الله فرار، وهذا كلام جيد، فإن المعرفة الصحيحة تقطع من القلب العلائق
كلها، وتعلقه بمعروفه، فلا يبقى فيه علاقة بغيره، ولا تمر به العلائق إلا وهي
مجتازة، لا تمر مرور استيطان، وقال أحمد بن عاصم: من كان بالله أَعْرَفَ،
كان له أخوف، ويدل على هذا قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: ٢٨) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له
خشية "، وقال آخر: من عرف الله تعالى ضاقت عليه الدنيا بسعتها، وقال غيره:
من عرف الله تعالى اتسع عليه كل ضيق، ولا تنافي بين هذين الأمرين؛ فإنه
يضيق عليه كل مكان لا يساعد فيه على شأنه ومطلوبه، ويتسع عليه ما ضاق على
غيره؛ لأنه ليس فيه، ولا هو مساكن له بقلبه، فقلبه غير محبوس فيه، والأول
في بداية المعرفة، والثاني في نهايتها التي يصل إليها العبد، وقال آخر: من
عرف الله تعالى صفا له العيش، فطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه
خوف المخلوقين، وأنس بالله، وقال غيره: من عرف الله قرت عينه بالله، وقرت
به كل عين، ومن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات، ومن عرف الله لم
يبق له رغبة في سواه، ومن ادعى معرفة الله وهو راغب في غيره كَذَّبَتْ رغبتُهُ
معرفتَهُ، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به، وخافه، ورجاه، وتوكل عليه
وأناب إليه، ولهج بذكره، واشتاق إلى لقائه، واستحيا منه، وأجلَّه، وعظَّمه على
قدر معرفته، وعلامة العارف أن يكون قلبه مرآة إذا نظر فيها رأي فيها الغيب الذي
دُعي إلى الإيمان به، فعلى قدر جلاء تلك المرآة يتراءى له فيها الله سبحانه، والدار
الآخرة، والجنة، والنار، والملائكة، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
كما قيل:
إذا سكن الغدير على صفاء ... وجُنب أن يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي ... يُرَى في صفوها الله العظيم
وهذه رؤية المثل [٣] الأعلى كما تقدم، ومن علامات المعرفة أن يبدو لك
الشاهد، وتفنى الشواهد، وتنحل العلائق، وتنقطع العوائق، وتجلس بين يدي
الرب تعالى، وتقوم وتضطجع على التأهب للقائه، كما يجلس الذي شد أحماله
وأزمع السفر على التأهب له، ويقوم على ذلك، ويضطجع عليه، كما ينزل
المسافر في المنزل فهو قائم وجالس ومضطجع على التأهب، وقيل للجنيد: إن
أقوامًا يدعون المعرفة يقولون إنهم يصلون بترك الحركات من باب البر والتقوى،
فقال الجنيد: هذا قول أقوام تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي
يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن
الله، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن
يحال بيني وبينها.
ومن علامات العارف أنه لا يطالب، ولا يخاصم، ولا يعاقب، ولا يرى له
على أحد فضلاً، ولا يرى له على أحد حقًّا، ومن علاماته أن لا يأسف على فائت
ولا يفرح بآت؛ لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الفناء والزوال؛ لأنها في الحقيقة
كالظلال والخيال، وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفًا، حتى يكون كالأرض
يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يُظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا
يحب، وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولم يَقْضِ وطره من شيئين:
بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه، وهذا من أحسن الكلام؛ فإنه يدل على معرفته
بنفسه، وعيوبه، وآفاته، وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله، فهو شديد الإزراء
على نفسه، لهج بالثناء على ربه، وقال أبو زيد: إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم
والوقوف مع ما له، يريد تضييع حظوظهم والوقوف مع حقوق الله سبحانه تعالى؛
فتغنيهم حقوقه عن حظوظهم.
وقال آخر: لا يكون العارف عارفًا حتى لو أعطي مُلك سليمان لم يشغله عن
الله طرفة عين، وهذا يحتاج إلى شرح، فإن ما هو دون ذلك يشغل القلب لكن
يكون اشتغاله بغير الله لله، فذلك اشتغال به سبحانه؛ لأنه إذا اشتغل بغيره لأجله لم
يشتغل عنه، قال ابن عطاء: المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة والحياء والأنس،
وقيل لذي النون: بم عرفت الله ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما
عرفت ربي، وقيل لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال بأنه فوق سمواته
على عرشه بائن من خلقه، فأتى عبد الله بأصل المعرفة التي لا يصح لأحد معرفة
ولا إقرار بالله سبحانه إلا به، وهو المباينة، والعلو على العرش.
ومن علامات العارف أن يعتزل الخلق بينه وبين الله حتى كأنهم أموات لا
يملكون له ضرًّا، ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نشورًا، ويعتزل نفسه بينه
وبين الخلق حتى يكون بينهم بلا نفس، وهذا معنى قول من قال: العارف يقطع
الطريق بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق، وقيل: العارف ابن
وقته، وهذا من أحسن الكلام وأخصره، فهو مشغول بوظيفة وقته عما مضى
وصار في العدم، وعما لم يدخل بعد في الوجود، فَهَمُّهُ عمارة وقته الذي هو مادة
حياته الباقية، ومن علاماته أنه مستأنس بربه، مستوحش ممن يقطعه عنه، ولهذا
قيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول، يعني أن العالم علمه أوسع من
حاله وصفته، والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره، وقال أبو سليمان الداراني:
إن الله تعالى يفتح للعارف على فراشه ما لم يفتح له وهو قائم يصلي، وقال غيره:
العارف تنطق المعرفة على قلبه وحاله وهو ساكت، وقال ذو النون: لكل شيء
عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله.
وقال بعضهم: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين، وهذا كلام ظاهره
منكر جدًّا يحتاج إلى شرح، فالعارف لا يُرائي المخلوق طلبًا للمنزلة في قلبه،
وإنما يكون رياؤه نصيحة وإرشادًا وتعليمًا ليقتدي به، فهو يدعو إلى الله بعلمه كما
يدعو إليه بقوله، فهو ينتفع بعمله وينفع به غيره، وإخلاص المريد مقصور على
نفسه، فالعارف جمع بين الإخلاص والدعوة إلى الله، فإخلاصه في قلبه، وهو
يظهر عمله وحاله ليُقتدى به، والعارف ينفع بسكوته، والعالم إنما ينفع بكلامه،
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائق.
وقال ذو النون: الزهاد ملوك الآخرة، وهم فقراء العارفين، وسئل الجنيد
عن العارف فقال: لون الماء لون إنائه، وهذه كلمة رمز بها إلى حقيقة العبودية،
وهو أن يتلون بتلون أقسام العبودية، فبينا تراه مصليًا إذ رأيته ذاكرًا، أو قارئًا،
أو معلمًا، أو متعلمًا، أو مجاهدًا، أو حاجًّا، أو مساعدًا للضعيف، أو مغيثًا
للملهوف، فيضرب في كل غنيمة من الغنائم بسهم، فهو مع المتسببين متسبب، ومع
المتعلمين متعلم، ومع الغزاة غازٍ، ومع المصلين مصلٍّ، ومع المتصدقين متصدق،
فهو ينتقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية، وهو مقيم على معبود واحد لا
ينتقل عنه إلى غيره.
وقال يحيى بن معاذ: العارف كائن بائن، وهذا يُفسر على وجوه (منها) أنه
كائن مع الخلق بظاهره، بائن عنهم بسره وقلبه، و (منها) أنه كائن بربه، بائن
عن نفسه و (منها) أنه كائن مع أبناء الآخرة، بائن عن أبناء الدنيا، و (منها)
أنه كائن مع الله بموافقته بائن عن الناس في مخالفته، و (منها) أنه داخل في
الأشياء خارج منها، فإن من الناس من هو داخل فيها لا يقدر على الخروج منها،
ومنهم من هو خارج عنها لا يقدر على الدخول فيها، والعارف داخل فيها خارج
منها، ولعل هذا أحسن الوجوه.
وقال ذو النون: (علامة العارف ثلاثة: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه،
ولا يعتقد باطنًا من العلم ينقضه عليه ظاهر من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله
على هتك أستار محارم الله) ، وهذا من أحسن الكلام الذي قيل في المعرفة، وهو
محتاج إلى شرح، فإن كثيرًا من الناس يرى أن التورع عن الأشياء من قلة المعرفة؛
فإن المعرفة متسعة الأكناف، واسعة الأرجاء، فالعارف واسع موسع، والسعة
تطفئ نور الورع، فالعارف لا تنقص معرفته ورعه، ولا يخالف ورعه معرفته،
كما قال بعضهم [٤] العارف لا ينكر منكرًا، لاستبصاره بسر الله في القدر، فعنده أن
مشاهدة القدر والحقيقة الكونية هو غاية المعرفة، وإذا شاهد الحقيقة عذر الخليقة؛
لأنهم مأسورون في قبضة القدر، فمن يعذر أصحاب الكبائر والجرائم، بل أرباب
الكفر فهو أبعد خلق الله عن الورع، بل ظلام معرفته قد أطفأ نور إيمانه
قوله [٥] : باطن العلم الذي ينقضه ظاهر الحكم، فإنه يشير به إلى ما عليه
المنحرفون ممن ينسب إلى السلوك؛ فإنهم يقع لهم أذواق ومواجيد وواردات تخالف
الحكم الشرعي، وتكون تلك معلومة لهم لا يمكنهم جحدها فيعتقدونها ويتركون
ظاهر الحكم، وهذا كثير جدا، وهو الذي نفاه أئمة الطريق على هؤلاء وصواحبهم
من كل ناحية، وبدعوهم وضللوهم به، قوله (ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك
محارم الله) كثرة النعم تطغي العبد، وتحمله على أن يصرفها في وجوهها وغير
وجوهها، وهي تدعو إلى أن يتناول العبد بها ما حل وما لا يحل، وأكثر المُنْعَم
عليهم لا يقتصرون في صرف النعمة على القدر الحلال بل يتعداه [٦] إلى غيره
وتسول له نفسه أن معرفته بالله ترد عليه ما انتهبته منه أيدي الشهوات والمخالفات،
ويقول: العارف لا تضره الذنوب كما تضر الجاهل، وربما يسول له أن ذنوبه
خير من طاعات الجهال، وهذا من أعظم المكر، والأمر بضد ذلك، فيُحتمل من
الجاهل ما لا يحتمل من العارف، وإذا عوقب الجاهل ضِعْفًا، عوقب العارف
ضِعْفين، وقد دل على هذا شرع الله وقدره، ولهذا كانت عقوبة الحُر في الحدود
مثلي عقوبة العبد، وقال تعالى في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ
النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (الأحزاب:
٣٠) فإذا كملت النعمة على العبد فقابلها بالإساءة والعصيان كانت عقوبته أعظم
فدرجته أعلى، وعقوبته أشد.
وقال أيضًا [٧] ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند
أبناء الدنيا؟ يريد أنه ليس من المعرفة وصف المعرفة لغير أهلها سواء كانوا عبادًا
أو من أبناء الدنيا.
وقال أبو سعيد: المعرفة تأتي من عين الوجود [٨] ، وبذل المجهود، وهذا
كلام حسن يشير إلى أن المعرفة ثمرة بذل المجهود في الأعمال، وتحقق الوجود في
الأحوال، فهي ثمرة عمل الجوارح، وحال القلب لا ينال بمجرد العلم والبحث،
فمن ليس له عمل ولا حال فلا معرفة له، وسئل ذو النون عن العارف فقال: كان
ها هنا فذهب، فسئل الجنيد عما أراد بكلامه هذا فقال: لا يحصره حال عن حال،
ولا يحجبه منزل عن التنقل في المنازل، فهو مع كل أهل منزل بمثل الذي هم فيه،
يجد مثل الذي يجدون، وينطق بمعالمها لينتفعوا، وقال محمد بن الفضل:
المعرفة حياة القلب مع الله، وسئل أبو سعيد: هل يصل العارف إلى حال يجفو
عليه البكاء؟ فقال: نعم! إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله؛ فإذا نزلوا بحقائق
القرب، وذاقوا طعم الوصول من بره زال عنهم ذلك، وقال بعض السلف: نوم
العارف يقظة، وأنفاسه تسبيح، ونوم العارف أفضل من صلاة الغافل: إنما كان
نوم العارف يقظة لأن قلبه حي فعيناه تنامان وروحه ساجدة تحت العرش بين يدي
ربها وفاطرها، جسده في الفرش، وقلبه حول العرش، وإنما كان نومه أفضل من
صلاة الغافل؛ لأن بدن الغافل واقف في الصلاة وقلبه يسبح في حشوش الدنيا
والأماني؛ ولذلك كانت يقظته نومًا لأن قلبه موات، وقيل: مجالسة العارف تدعوك
من ست إلى ست: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة
إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع،
ومن سوء الطوية إلى النصيحة.
***
فصل
قال صاحب المنازل (المعرفة على ثلاث درجات، والخلق فيها على ثلاث
فرق: الدرجة الأولى معرفة الصفات والنعوت، وقد وردت أساميها بالرسالة،
وظهرت شواهدها في الصنعة، بتبصر [٩] النور القائم في السر، وطيب حياة
العقل لزرع الفكر، وحياة القلب بحسن النظر بين التعظيم وحسن الاعتبار، وهي
معرفة العامة التي لا تنعقد شرائط اليقين إلا بها، وهي على ثلاثة أركان: إثبات
الصفات باسمها من غير تشبيه، ونفي التشبيه عنها من غير تعطيل، والإياس من
إدراك كنهها، وابتغاء تأويلها) .
قلت: الفرق بين الصفة والنعت من وجوه ثلاثة (أحدها) أن النعت يكون
بالأفعال التي تتجدد كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} (الأعراف: ٥٤) ، -وقوله:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا
وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} (الزخرف: ١٠-١٢) ونظائر ذلك،
والصفة هي الأمور الثابتة اللازمة للذات كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ
القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ} (الحشر: ٢٢-٢٣) ،
ونظائر ذلك.
(الفرق الثاني) أن الصفات الذاتية لا يطلق عليها اسم النعوت كالوجه
واليدين والقدم والأصابع، وتسمى صفات، وقد أطلق عليها السلف هذا الاسم،
وكذلك متكلمو أهل الإثبات سَمَّوْها صفات، وأنكر بعضهم هذه التسمية كأبي الوفاء
بن عقيل وغيره، وقال: لا ينبغي أن يقال نصوص الصفات بل: آيات الإضافات؛
لأن الحي لا يوصف بيده، ولا بوجهه؛ فإن ذلك هو الموصوف، فيكف تسمى
صفة؟ وأيضًا فالصفة معنى يعم الموصوف، فلا يكون الوجه واليد صفة،
والتحقيق أن هذا نزاع لفظي في تسميته، فالمقصود إطلاق هذه الإضافات عليه
سبحانه، ونسبتها إليه، والإخبار عنه بها منزهة عن التمثيل والتعطيل، سواء
سُميت صفات أو لم تسمْ.
(الفرق الثالث) أن النعوت ما يظهر من الصفات، ويشتهر، ويعرفه
الخاص والعام، والصفات أعم، فالفرق بين النعت والصفة فرق ما بين الخاص
والعام، ومنه قولهم في تحلية الشيء: نعته كذا وكذا - لما يظهر من صفاته، وقيل:
هما لغتان لا فرق بينهما، ولهذا يقول نحاة البصرة (باب الصفة) ، ويقول نحاة
الكوفة (باب النعت) ، والمراد واحد، والأمر قريب ونحن في غير هذا.
فلنرجع إلى المقصود، وهو أنه لا يستقر للعبد قدم في المعرفة، بل ولا في
الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل
بربه، فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان وشجرة ثمرة
الإحسان، فمن جحد الصفات؛ فقد هدم أساس الإسلام، والإيمان وثمرة شجرة
الإحسان، فضلاً عن أن يكون من أهل العرفان، وقد جعل اللهُ سبحانه منكر صفاته
مسيء الظن به، وتوعده بما لم يتوعد به غيره من أهل الشرك والكفر والكبائر
فقال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ
وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ
أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ} (فصلت: ٢٢-٢٣) فأخبر سبحانه أن إنكارهم
هذه الصفة من صفاته من سوء ظنهم به، وأنه هو الذي أهلكهم، وقد قال في
الظانين به ظن السوء: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (الفتح: ٦) ولم يَجِئْ مثل هذا الوعيد في غير من ظن
السوء به سبحانه، وجحد صفاته، وإنكار حقائق أسمائه من أعظم ظن السوء به.
ولما كان أحب الأشياء إليه حمده ومدحه والثناء عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله
كان إنكارها وجحدها أعظم الإلحاد والكفر به، وهو شر من الشرك، فالمعطل شر
من المشرك؛ فإنه لا يستوي جحد صفات الملك، وحقيقة ملكه، والطعن في
أوصافه هو، والتشريك بينه وبين غيره في الملك، فالمعطلون أعداء الرسل بالذات،
بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل؛ فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن
السوء به لما أشرك به، كما قال إمام الحنفاء وأهل التوحيد لقومه: {أَئِفْكاً آلِهَةً
دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الصافات: ٨٦-٨٧) أي فما
ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟ وما [١٠] الذي ظننتم به حتى جعلتم معه
شركاء؟ أظننتم أنه يخفى عليه أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها
كالملوك؟ أم لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاسٍ
فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من
القلة، ويتعزز به من الذلة؟ أم يحتاج إلى الولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منها ومنه؟
تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرًا، والمقصود أن التعطيل مبدأ الشرك وأساسه،
فلا تجد معطلاً إلا وشركه على حسب تعطيله، فمستقل ومستكثر.
***
فصل
والرسل من أولهم إلى خاتمهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - أرسلوا
بالدعوة إلى الله، وبيان الطريق الموصل إليه، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم
إليه، فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول فعرفوا الرب
المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفًا مفصلاً، حتى كأن العباد يشاهدونه
سبحانه، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه يكلم ملائكته، ويدبر أمر مملكته،
ويسمع أصوات خلقه، ويرى أفعالهم وحركاتهم، ويشاهد بواطنهم كما يشاهد
ظواهرهم، يأمر ويَنْهَى، ويرضى ويغضب، ويحب ويسخط، ويضحك من
قنوطهم وقرب غيره، ويجيب دعوة مضطرهم، ويغيث ملهوفهم ويعين محتاجهم،
ويجبر كسيرهم، ويغني فقيرهم، ويميت ويحي، ويمنع ويعطي، يؤتي الحكمة
من يشاء [١١] ، وينزع المُلك ممن يشاء ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير
وهو على كل شيء قدير، كل يوم هو في شأن، يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويفك
عانيًا، وينصر مظلومًا، ويقصم ظالمًا، ويرحم مسكينًا، ويغيث ملهوفًا، ويسوق
الأقدار إلى مواقيتها، ويجريها على نظامها، ويقدم ما يشاء تقديمه، ويؤخر ما
يشاء تأخيره، فأزمَّة الأمور كلها بيده، ومدار تدبير الملك كلها عليه، وهذا مقصود
الدعوة، وزبدة الرسالة.
(القاعدة الثانية) تعريفهم بالطريق الموصل إليه، وهو صراطه المستقيم
الذي نصبه لرسله وأتباعهم، وهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإيمان بوعده
ووعيده.
(القاعدة الثالثة) تعريف الحال بعد الوصول، وهو ما تضمنه اليوم الآخر
من الجنة والنار، وما قبل ذلك من الحساب والحوض والميزان والصراط.
فقعدت المعطلة والجهمية على رأس القاعدة الأولى فحالوا بين القلوب وبين
معرفة ربها، وسموا إثبات صفاته وعلوه فوق خلقه واستوائه على عرشه - تشبيهًا
وتجسيمًا وحشوًا، فنفروا عنه صبيان العقول، وسموا نزوله إلى سماء الدنيا،
وتكلمه بمشيئته، ورضاه بعد غضبه، وغضبه بعد رضاه، وسمعه الحاضر
لأصوات العباد، ورؤيته المقارنة لأفعالهم ونحو ذلك - حوادث، وسموا وجهه
الأعلى ويديه المبسوطتين وأصابعه التي يضع عليها الخلائق يوم القيامة - جوارح
وأعضاء، مكرًا منهم كُبارا بالناس، كمن يريد التنفير عن العسل فيمكر في العبارة
ويقول: مائع أصفر يشبه العذرة المائعة، أو ينفر عن شيء مستحسن، فيسميه
بأقبح الأسماء فعل الماكر المخادع، فليس مع مخالف الرسل سوى المكر في القول
والعمل.
فلما تم للمعطلة مكرهم وسلك في القلوب المظلمة الجاهلة بحقائق الإيمان وما
جاء به الرسول - ترتب عليه الإعراض عن الله، وعن ذكره ومحبته والثناء عليه
بأوصاف كماله ونعوت جلاله، فانصرفت قوى حبها وشوقها وأنسها إلى سواه.
وجاء أهل الآراء الفاسدة، والسياسات الباطلة، والأذواق المنحرفة، والعوائد
المستمرة، فقعدوا على رأس هذا الصراط، وحالوا بين القلوب وبين الوصول إلى
نبيها وما كان عليه وأصحابه، وعابوا من خالفهم في قعودهم عن ذلك ورغب عما
اختاروه لأنفسهم، ورموه بما هم أولى به منه كما قيل: رمتني بدائها وانسلَّتْ.
وجاء أصحاب الشهوات المعتنون بها الذين يعدون حصولها كيف كان الظفر
في هذه الحياة والبغية فقعدوا على رأس طريق المعاد والاستعداد للجنة ولقاء الله،
وقالوا: اليوم خمر، وغدًا أمر، اليوم لك ولا تدري غدًا لك أو عليك، وقالوا: لا
نبيع ذرة منقودة، بدرة موعودة.
خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وقالوا للناس: خلوا لنا الدنيا، ونحن قد خلينا لكم الآخرة، فإن طلبتم منا ما
بأيدينا أحلناكم على الآخرة.
أناس [١٣] يُقضون عيش النعيم ... ونحن نحال على الآخرة
فإن لم تكن مثلما يزعمون ... فتلك إذا كرة خاسرة
فالإيمان بالصفات، ومعرفتها، وإثبات حقائقها، وتعلق القلب بها، وشهوده
لها هو مبدأ الطريق ووسطه، وغايته، وهو روح السالكين، وحاديهم إلى الوصول،
ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على
الشواهد، فمن كان لا شاهد له فلا سير ولا طلب ولا سلوك له، وأعظم الشواهد
صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا
إليه، كما قالت عائشة رضي الله عنها (من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقد رآه غاديًا رائحًا لم يضع لبنة على لبنة، ولكن رفع له علم فشمر إليه) ولا
يزال العبد في التواني والفتور والكسل حتى يرفع الله عز وجل له بفضله ومنه علَمًا
يشاهده بقلبه فيشير إليه ويعمل عليه، فإن عطلت شواهد الصفات ووضعت أعلامها
عن القلوب، وطمست آثارها وضربت بسياط البعد، وأسبل دونها حجاب الطرد،
وتخلفت مع المتخلفين، وأَوْحَى إليها القدر أن اقعدي مع القاعدين، فإن أوصاف
المدعو إليه ونعوت كماله وحقائق أسمائه هي الجاذبة للقلوب إلى محبته وطلب
الوصول إليه؛ لأن القلوب إنما تحب من تعرفه وتخافه وترجوه، وتشتاق إليه،
وتلتذ بقربه، وتطمئن إلى ذكره، بحسب معرفتها بصفاته، فإذا ضرب دونها
حجاب معرفة الصفات، والإقرار بها، امتنع منها بعد ذلك ما هو مشروط بالمعرفة
وملزوم لها، إذ وجود الملزوم بدون لازمه، والمشروط بدون شرطه ممتنع.
فحقيقة المحبة والإنابة والتوكل ومقام الإحسان ممتنع على المعطل امتناع
حصول المغلّ من معطل البذر، بل أعظم امتناعًا، كيف تصمد القلوب إلى من
ليس داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، ولا مباينًا له
ولا محايثًا، بل حظ العرش منه كحظ الآبار والوهاد والأماكن التي يرغب عن
ذكرها؟ وكيف تأله القلوب من لا يسمع كلامها، ولا يرى مكانها، ولا يحِب ولا
يحَب، ولا يقوم به فعل البتة، ولا يتكلم ولا يكلم، ولا يقرب من شيء ولا يُقْرَب
منه شيء، ولا يقوم به رأفة ولا رحمة ولا حنان، ولا له حكمة ولا غاية يفعل
ويأمر لأجلها؟ فكيف يتصور التوكل على ذلك، ومحبته والإنابة إليه، والشوق إلى
لقائه، ورؤية وجهه الكريم في جنان النعيم، وهو مستوٍ على عرشه فوق جميع
خلقه؟ أم كيف تأله القلوب من لا يحب ولا يحب، ولا يرضى ولا يغضب ولا
يفرح ولا يضحك؟ فسبحان من حال بين المعطلة وبين محبته ومعرفته والسرور
والفرح به، والشوق إلى لقائه، وانتظار لذة النظر إلى وجهه الكريم، والتمتع
بخطابه في محل كرامته ودار ثوبه! فلو رآها أهلاً لذلك لمَنَّ عليها به، وأكرمها به،
إذ ذاك أعظم كرامة يُكْرِم بها عبده، والله أعلم حيث يجعل كرامته، ويضع نعمته
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: ٥٣) ، {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ
مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: ١٢٤) ، - {أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: ٣٢) وليس جحودهم صفاته سبحانه، وحقائق أسمائه في الحقيقة تنزيهًا،
وإنما هو حجاب ضرب عليهم فظنوه تنزيهًا، كما ضرب حجاب الشرك، والبدع
المضلة، والشهوات المردية على قلوب أصحابها، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوها
حسنة.
عدنا إلى شرح كلامه، قوله: (وقد وردت أساميها بالرسالة) إلى آخره،
ذكر أن إثبات الصفات دل عليها الوحي الذي جاء من عند الله على لسان رسوله،
والحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة؛ فاستدل بها على صفات صانعها،
والعقل الذي طابت حياته بزرع الفكر، والقلب الذي حيي بحسن النظر بين التعظيم
والاعتبار، فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتًا مفصلاً على وجه أزال
الشبهة، وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقيني، ورفع الشك والريب، فثلجت له
الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر به الإيمان في نصابه، ففصلت الرسالة
الصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل
تقرير في أبلغ لفظ وأبعده من الإجمال والاحتمال وأمنعه من قبول التأويل، وكذلك
كان تأويل آيات الصفات وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات
المعاد وأخباره، بل أبعد منه لوجوه كثيرة ذكرتها في كتاب (الصواعق المرسلة،
على الجهمية والمعطلة) بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائقها كتأويل
آيات الأمر والنهي، فالباب كله باب واحد، ومصدره واحد، ومقصوده واحد،
وهو إثبات حقائقه، والإيمان بها.
ولذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم وقالوا: فعلنا فيها كفعل المتكلمين في
آيات الصفات، بل نحن أعذر؛ فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات والعلو
وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير، فإذا ساغ لكم تأويلها، فكيف
يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد؟ وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات
الأمر والنهي وقالوا: فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها وتنوعها.
وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية - قالوا - وما يظن أنه معارض من
العقليات لنصوص الصفات فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد من جنسه أو
أقوى منه، وقالوا [١٤] متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها وظواهرها [١٥] التي
سوغ لنا [١٦] هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا، وجعلتموها أصلاً نرجع
إليها فلما طردناها كان طردنا أن الله ما تكلم بشيء قط ولا يتكلم، ولا يأمر ولا
ينهى، ولا له صفة تقوم به، ولا يفعل شيئًا، وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات
الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب.
وقد ذكرنا في كتاب (الصواعق) أن تأويل آيات الصفات وأخبارها بما
يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين، وزوال الممالك، وتسليط أعداء
الإسلام عليه إنما كانت بسبب التأويل، ويعرف هذا من له اطلاع وخبرة بما جرى
في العالم، ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم لصحته؛ لأنه سبب
لفساد العالم، وتعطيل الشرائع، ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن
والسنة علم قطعًا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها؛ فإنها وردت على وجه لا
يحتمل معه [١٧] التأويل بوجه، فانظر إلى قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ
المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الأنعام: ١٥٨) هل يحتمل
هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب جل جلاله بإتيان ملائكته أو آياته؟ وهل
يبقى مع هذا السياق شبهة أصلاً أنه إتيانه بنفسه؟ وكذلك قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: ١٦٣) - إلى أن قال: {وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: ١٦٤) ففرق بين الإيحاء العام، والتكليم الخاص،
وجعلهما نوعين، ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون،
وكذلك قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً} (الشورى: ٥١) فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة، وتكليم بغير واسطة،
وكذلك قوله لموسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} (الأعراف: ١٤٤) ففرق بين الرسالة والكلام، والرسالة إنما هي بكلامه،
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنكم ترون ربكم عيانًا، كما ترون القمر ليلة
البدر في الصحو ليس دونه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوًا ليس
دونها سحاب) [١٨] ومعلوم أن هذا البيان والكشف والاحتراز تنافي إرادة التأويل
قطعًا، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين.
قوله: (وظهرت شواهدها في الصنعة) هذا هو الطريق الثاني من طرق
إثبات الصفات، وهو دلالة الصنعة عليها؛ فإن المخلوق يدل على وجود خالقه
وعلى حياته، وعلى قدرته، وعلى علمه ومشيئته؛ فإن الفعل الاختياري يستلزم
ذلك استلزامًا ضروريًّا، وما فيه من الإتقان والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه ما
يدل [١٩] على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع ووصول المنافع
العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه وإحسانه وجوده، وما فيه من آثار
الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال، وخالق الأسماع
والأبصار والنطق أحق بأن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا، وخالق الحياة والعلوم
والقدر والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات شيء [٢٠]
من أنواع التخصيصات من أدل شيء [٢١] على إرادة الرب سبحانه ومشيئته وحكمته
التي اقتضت التخصيص، وحصول الإجابة عقيب سؤال المطلوب على الوجه
المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات، وعلى سمعه لسؤال عبيده وعلى
قدرته على قضاء حوائجهم، على رأفته ورحمته بهم، والإحسان إلى المطيعين
والتقرب إليهم، والإكرام، وإعلاء درجاتهم، يدل على محبته، ورضاه، وعقوبته
للعصاة والظلمة، وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب
والسخط، والإبعاد والطرد والإقصاء يدل على المقت والبغض، فهذه الدلالات من
جنس واحد عند التأمل، ولهذا دعا سبحانه في كتابه عباده إلى الاستدلال بذلك على
صفاته، فهو يثبت العلم بربوبيته ووحدانيته، وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة.
والقرآن مملوء بذلك، فيظهر شاهد اسم الخالق من نفس المخلوق، وشاهد
اسم الرازق من وجود الرزق والمرزوق، وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة
المبثوثة في العالم، واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة
واحدة، واسم الحليم من حِلْمه عن الجناة والعصاة وعدم معاجلتهم، واسم الغفور
والتواب من مغفرة الذنوب وقبول التوبة، ويظهر شاهد اسمه الحكيم من العلم بما
في خلقه وأمره من الحكم والمصالح ووجوه المنافع، وهكذا كل اسم من أسمائه
الحسنى له شاهد في خلقه وأمره يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله، فالخلق
والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته، وكل سليم العقل والفطرة يعرف قدر
الصانع وحذقه وتبريزه على غيره، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة
صنعته، فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي، وهذه المخلوقات
من بعض صنعه.
وإذا اعتبرت المخلوقات والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت
والصفات وحقائق الأسماء الحسنَى، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمًى
بمكابرة، ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ
تُبْصِرُونَ} (الذاريات: ٢١) فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب جل جلاله
ونعوته وأسمائه، فهي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها، وتنادي عليها،
وتدل عليها، وتخبر بها بلسان النطق والحال كما قيل:
تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل
فلست ترى شيئًا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها
ونعوت كماله وحقائق أسمائه، وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها، فهي تدل عقلاً
وحِسٍّا، وفطرة، ونظرًا، واعتبارًا [٢٢] .
قوله (بتبصير النور القائم في السر) يعني أن النور الإلهي الذي جعله الله
لعبده، ويلقيه إليه، ويودعه في سره هو الذي يبصره بشواهد صفاته، فكلما قوي
هذا النور في قلب العبد كان بصره بالصفات أتم وأكمل، وكلما قل نصيبه من هذا
النور، وطُفئ مصباحه في قلبه، طُفئ نور التصديق بالصفات، وإثباتها في قلبه.
فإنه إنما يشاهدها بذلك النور، فإذا فقده لم يشاهدها وجاءت الشبه الباطلة مع تلك
الظلمة فلم يكن له نصيب منها سوى الإنكار.
قوله (وطيب حياة العقل لزرع الفكر) أي يدرك الصفات بذلك النور القائم في
سره وطيب حياة عقله التي طيبها زرع الفكر الصحيح المتعلق بما دعا الله سبحانه
عباده إلى الفكر فيه بقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (آل
عمران: ١٩١) ، - وقوله {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} (الروم: ٨) ، - وقوله - {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (البقرة: ٢١٩-٢٢٠) [٢٣]
فيتفكرون في الآيات التي بَيَّنَها لهم فيستدلون بها على توحيده، وصفات كماله،
وصدق رسله، والعلم بلقائه، ويتفكرون في الدنيا وانقضائها واضمحلالها وآفاتها،
والآخرة ودوامها وبقائها وشرفها، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: ٢١) فالفكر الصحيح المُؤَيَّد بحياة القلب، ونور البصيرة يدل على إثبات
صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأما فكر مصحوب بموت القلب، وعمى
البصيرة؛ فإنما يعطي صاحبه نفيها وتعطيلها.
قوله (وحياة القلب بحسن النظر بين التعظيم وحسن الاعتبار) يعني أنه
ينضاف إلى نور البصيرة، وطيب حياة العقل حياة القلب بحسن النظر الدائر بين
تعظيم الخالق جل جلاله، وحسن الاعتبار بمصنوعاته الدالة عليه، فلا بد من
الأمرين؛ فإنه إن غفل بالتعظيم عن حسن الاعتبار، لم يحصل له الاستدلال على
الصفات، وإن حصل له الاعتبار من غير تعظيم الخالق سبحانه لم يستفد به إثبات
الصفات، فإذا اجتمع له تعظيم الخالق وحسن النظر في صنعه أثمر له إثبات
صفات كماله ولا بد، والاعتبار هو أن يعبر نظره من الأثر إلى المؤثر، ومن
الصنعة إلى الصانع، ومن الدليل إلى المدلول، فينتقل إليه بسرعة لطف إدراك،
فينتقل ذهنه من الملزم إلى لازمه، قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) والاعتبار افتعال من العبور، وهو عبور القلب من الملزوم إلى
لازمه، ومن النظير إلى نظيره، وهذا الاعتبار يضعف ويقوى حتى يستدل
صاحبه بصفات الله تعالى وكماله على ما يفعله لحسن اعتباره، وصحة نظره،
وهو اعتبار الخواص واستدلالهم؛ فإنهم يستدلون بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وأنه
يفعل كذا ولا يفعل كذا، فيفعل ما هو موجب حكمته وعلمه وغناه وحمده، ولا يفعل
ما يناقض ذلك، وقد ذكر سبحانه هذين الطريقين في كتابه فقال تعالى في الطريق
الأول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:
٥٣) ، - ثم قال في الطريق الثانية [٢٤] {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ} (فصلت: ٥٣) فمخلوقاته دالة على ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأسماؤه
وصفاته دالة على ما يفعله ويأمر به، وما لا يفعله ولا يأمر به.
مثال ذلك أن اسمه الحميد - سبحانه - يدل على أنه لا يأمر بالفحشاء والمنكر،
واسمه الحكيم يدل على أنه لا يخلق شيئًا عبثًا، واسمه الغني يدل على أنه لم
يتخذ صاحبة ولا ولدًا، واسمه الملك يدل على ما يستلزم حقيقة ملكه من قدرته
وتدبيره، وعطائه ومنعه، وثوابه وعقابه، وبث رسله في أقطار مملكته، وإعلام
عبيده بمراسيمه وعهوده إليهم، واستوائه على سرير مملكته الذي هو عرشه المجيد،
فمتى قام بالعبد تعظيم الحق جل جلاله، وحسن النظر في الشواهد والتبصر
والاعتبار بها صارت الصفات والنعوت مشهودة لقلبه قبلة له.
قوله (وهي معرفة العامة التي لا تنعقد شرائط اليقين إلا بها) لا يريد بالعامة
الجهال الذين هم عوام الناس، وإنما يريد أن هذه هي المعرفة التي وقف عندها
العموم ولم يتعدوها، وأما معرفة أهل الذوق والمحبة الخاصة فأخص من هذا كما
سيأتي.
قوله: وهي على ثلاثة أركان إثبات الصفة من غير تشبيه إلى آخره - هذه
ثلاثة أشياء:
(أحدها) إثبات تلك الصفة فلا يعاملها بالنفي والإنكار.
(الثاني) أنه لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم
كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة ولا يغير اسمها ويعيرها اسمًا آخر، كما
تسمي الجهمية والمعطلة سمعه، وبصره، وقدرته، وحياته، وكلامه أعراضًا،
ويسمون وجهه، ويديه، وقدمه سبحانه جوارح وأبعاضًا، ويسمون حكمته،
وغاية فعله المطلوبة عللاً وأغراضًا، ويسمون أفعاله القائمة به حوادث، ويسمون
علوه على خلقه واستواءه على عرشه تحيزًا، ويتوصلون بهذا المكر الكبار إلى
نفي ما دل عليه الوحي والعقل والفطرة وآثار الصنعة من صفاته، فيسطون بهذه
الأسماء التي سموها هم وآباؤهم على نفي صفاته وحقائق أسمائه.
(الثالث) عدم تشبيهها بما للمخلوق، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا
في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فالعارفون به المصدقون لرسله
المقرون بكماله يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات،
فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم
حسنة بين سيئتين، وهدى بين ضلالتين، فصراطهم صراط المنعم عليهم،
وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضالين، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا
نُزِيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين، وقال التشبيه أن تقول: يد
كيدي، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
قوله (والإياس من إدراك كنهها، وابتغاء تأويلها) يعني أن العقل قد يئس من
تعرفه كنه الصفة وكيفيتها؛ فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف،
(بلا كيف) أي بلا كيف يعقله البشر؛ فإن من لا يعلم حقيقة ذاته وماهيته كيف
يعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها،
فالكيفية وراء ذلك، كما أنَّا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم
الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته مع قرب ما بين المخلوق، فعجزنا عن معرفة
كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم، فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود
في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها،
والعظمة كلها، والكبرياء كلها، من لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سُبُحاته
السموات والأرض، وما فيهما، وما بينهما، وما وراء ذلك، الذي يقبض سمواته
بيده، فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا، الذي نسبة علوم الخلائق كلها إلى
علمه أقل من نسبة نقرة عصفور من بحار العالم، الذي لو أن البحر يمده من بعده
سبعة أبحر مداد، وأشجار الأرض من حين خلقت إلى قيام الساعة أقلام، فني
المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلماته، الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى
آخرها، إنسهم وجنهم، وناطقهم وأعجمهم، جعلوا صفًّا واحدًا ما أحاطوا به
سبحانه، الذي يضع السموات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع
والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك.
فقاتل الله الجهمية والمعطلة! أين التشبيه هاهنا، وأين التمثيل؟ لقد اضمحل
هاهنا كل موجود سواه فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال، ويشابهه
فيه، فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاها ما تولت من وقوفها مع
الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها، ولما فهمت هذه الطائفة من
الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين فرت إلى إنكار حقائقها، وابتغاء
تحريفها، وسمته تأويلاً، فشبهت أولاً، وعطلت ثانيًا، وأساءت الظن بربها
وبكتابه وبنبيه وبأتباعه، أما إساءة الظن بالرب؛ فإنها عطلت صفات كماله ونسبته
إلى أنه أنزل كتابًا مشتملاً على ما ظاهره كفر وباطل، وأن ظاهره وحقائقه غير
مرادة، وأما إساءة ظنها بالرسول فلأنه تكلم بذلك، وقرره وأكده، ولم يبين للأمة
أن الحق في خلافه وتأويله، وأما إساءة ظنها بأتباعه فنسبتهم لهم إلى التشبيه
والتمثيل والجهل والحشو، وهم عند أتباعه أجهل من أن يكفروهم، إلا من عاند
الرسول، وقصد نفي ما جاء به، والقوم عندهم في خفارة جهلهم قد حجبت قلوبهم
عن معرفة الله، وإثبات حقائق أسمائه وأوصاف كماله.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))