للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حرب أمم المدنية لا الملل الدينية
تسمي الجرائد العربية والأوربية هذه الحرب المشتعلة في أوربة حرب الأمم،
ولا نرى لها مخالفًا في صحة هذه التسمية، فقد أجمع الناس على أن جميع الأمم
الأوربية المتحاربة موافقة لدولها على الاستمرار على هذه الحرب إلى أن يفنى آخر
رجل يقدر على استعمال السلاح فيها، ويُنفق آخر دينار في صناديقها، أو تقهر
عدوها قهرًا يخضع به لحكمها، ويذعن صاغرًا لشروط الصلح التي تضعها
حكومتها، وينقلون لنا أن النساء موافقات للرجال في هذا الأمر، وأن القسيسين
والرهبان والاشتراكيين أيضًا متفقون فيه مع رجال الحرب، إلا ما تنقله الجرائد آنًا
بعد آن عن بعض النساء والاشتراكيين في ألمانية من الرغبة في عقد الصلح كراهة
للحرب، وأطيطًا من أوزارها، وأنينًا من أهوالها وسوء آثارها، ولعل هذا من
قبيل ما كانت تنقله في أول الحرب من كراهة الشعب الألماني كله لها ورغبته عنها،
وكون عاهله هو الذي ساقه إليها سوقًا، بل دعَّه إليها دعًّا، وكنا أول من خالفهم
في ذلك.
على أن المعقول الذي لا يُعقل غيره هو أنه يوجد في كل أمة مُحارِبة كثيرٌ
حتى من أهل الرأي يكرهون الحرب لذاتها، ويتمنون الصلح على علاته،
والمعقول أن يكون أكثر هؤلاء الناس من أفراد الحكماء الراسخين، ومن النساء
والاشتراكيين، ومن المتدينين الذين يفهمون أن الديانة المسيحية ديانة سلم وتواضع
وزهد في المال والجاه والرياسة والملك - وما أكثر المنتمين إليها على هذا الفهم -
فحيث يكثر هؤلاء يكثر الميل إلى الصلح، والجنوح إلى السلم، وإن لم تعن
الجرائد بنقل أخبار هؤلاء في بلادها وبلاد أحلافها، لئلا يغتر أعداؤها ويظنون أن
أممهم غير متفقة على تأييد حكوماتها، وهي إنما تنقل عن شعوب أعدائها الميل إلى
الصلح في سياق ذمها بالعجز والضعف، لا في سياق مدحها بكراهة القسوة
والوحشية والإفساد في الأرض، واستقباح الطمع المفضي إلى إهلاك الحرث
والنسل؛ ولذلك كانت تقول في أول الحرب: إن الشعوب الجرمانية كارهة له مُكْرَهة
عليه، ويوشك أن تخرج على حكومتها وتثور عليها، ثم رجعوا عن ذلك،
ووصفوها بضده، فالجرائد السياسية لا تكتب إلا ما يمليه عليها الهوى، فهي تابعة
لمهابّ أهوائه تميل معها كيفما أمالتها.
إلا أنها صادقة في قولها إن السواد الأعظم من الأمم الأوروبية مؤيد لدولها
بمالها ورجالها وإجماعها على الاستمرار في الحرب، إلى أن تنال ما ترجو من
النصر، وتكون كلمتها هي العليا، وكلمة أعدائها هي السفلى؛ فإن من يوجد في كل
منها من محبي السلم بباعث الدين، أو حب الإنسانية والميل إلى التواضع والقناعة
مغلوبون على أمرهم، ووجودهم لا ينافي ما أجمع عليه الكتاب من أن هذه الحرب
هي حرب الأمم لا الدول؛ فإن العبرة بالغالبِ، والنادرُ لا حكم له، وقد جرت عادة
الناس أن يطلقوا على جملة الأمة ما فشا فيها وثبت لأكثرها من الأعمال، أو
اتصفت به من الصفات والأخلاق، ولن تستطيع دولة من دول أوربة الاستمرار
على الحرب إذا كان الرأي الغالب في الأمة لا يؤيدها، إلا أن تكون الدولة الروسية
التي ليس لأمتها رأي غالب.
ومن أعجب ما نقل إلينا عن الحكومة الإنكليزية - ويحسن عده في هذا المقام
من فضائلها التي تجري فيها على عرق - أنها حكمت أخيرًا بوجوب التجنيد
الإجباري على العزاب، إلا من يرى ذلك مخالفًا لوجدانه واعتقاده، وقد سبق لسلفها
مثل ذلك في قانون وجوب التلقيح للوقاية من الجدري، وهذه الفضيلة مما امتاز به
الإنكليز على غيرهم، وهم موافقون فيه لقاعدة من قواعد الإسلام تركها حكام
المسلمين منذ قرون.
إن ما أجمع عليه الناس من تسمية هذه الحرب حرب الأمم قد استثنوا منه
الأمة العثمانية بالنقل، كما استثنينا منه بعض الأفراد من كل أمة بحكم العقل، فقد
نقلت إلينا بلاغات دول الحلفاء الرسمية، والبرقيات العامة والجرائد الغربية
والشرقية، أن الشعب العثماني كاره لهذه الحرب، بل قالوا مرارًا إن السلطان
وولي عهده، وسائر أهل بيته، وأكثر رجال دولته كانوا معارضين فيها، وما زالوا
كارهين لها، بل قالوا أيضًا إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي كانوا وما
زالوا كذلك، وإن السبب المباشر لإيذان دول الأحلاف الدولة بالحرب - وهو
اعتداء البارجتين الألمانيتين (غوبن وبرسلو) على ثغور روسية - لم يكن بإذن
من السلطان، ولا الصدر الأعظم، بل لم يعلما به إلا بعد وقوعه، وقد وعدا سفراء
دول الأحلاف بعدم العود إلى مثله، وإن أنور باشا ناظر الحربية هو الذي اتفق مع
ألمانية على ضم الدولة إليها في هذه الحرب، فغلب نفوذه على نفوذ غيره من
زعماء جمعيته بمساعدة الألمان، الذين كان قد وكل إليهم أمر إصلاح الجيش
العثماني بعد حرب البلقان. ولا تزال الجرائد تتخوَّلنا بأخبار كراهة العثمانيين لهذه
الحرب في عاصمة الدولة وولاياتها، وما يأتمرون به لإسقاط الحكومة الاتحادية
وإنشاء حكومة جديدة تصالح الأحلاف وتتفق معهم، وبسعي صباح الدين أفندي -
ابن أخت السلطان - إلى ذلك واتفاق حزبه أخيرًا مع حزب المشير شريف باشا
وبعض رجال حزب الحرية والائتلاف على ذلك.
أنا لم أُصَدِّق كل ما نشرته الجرائد في هذا الموضوع، وإن كان بعضه رسميًّا،
ولا أكذبه كله، وإن كان سنده ضعيفًا واهيًا، وأعتقد أن أهل الحل والعقد من
زعماء جمعية الاتحاد والترقي كانوا وما زالوا متفقين مع الألمان، وأن السواد
الأعظم من العثمانيين كاره لهذه الحرب في كل مكان، فهي حرب الدولة التي يتولى
إدارتها الاتحاديون، لا حرب الأمة العثمانية وإن أقرها المبعوثون، فإن المبعوثين
في هذا العهد لا يمثلون الشعوب العثمانية، ولا يعبرون عن رأيها، بل أكثرهم
ألسنة لجمعية الاتحاد والترقي، ومظهر لإرادتها.
إذا تمهد هذا فاعلم أيها القارئ أنني لم أقصد به المدح أو الذم للأمم المتفقة
على الحرب أو المختلفة فيها، ولا التخطئة أو التصويب لموقدي نارها، وإنما أريد
أن أثبت أنها حرب المدنية الأوربية الحديثة، لا حرب دينية ولا مذهبية، وهذه
المدنية مادية لا روحية، دنيوية لا دينية، وغاية أصحابها ومقصدهم منها هو
التمتع بالشهوات البدنية، والعلو والعظمة في الأرض، والتكاثر في الأموال
وضروب الزينة، فهي لا تتفق مع شرعة المسيح (عليه السلام) في ورد ولا
صدر، ولا تسير في منهاجه في مبدأ ولا غاية، ولو كان روح المسيحية الحق له
سلطان غالب في أوربة لما وقعت هذه الحرب البتة، كلا إن روح المسيحية مغلوب
على أمره لسلطان المدنية المادية، فموقدو نار الحرب إما من خلص الماديين، وإما
من متبعي أهوائهم في فهم الدين، ولكن أهوال الحرب قد أيقظت في جمهور كل
أمة منهم شعور الدين، وكثر فيهم من يصلون ويدعون الله أن ينصرهم على
أعدائهم، كما هو شأن البشر في حال الكروب والخطوب {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ
كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ
بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: ٣٢) * {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا
لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ
زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يونس: ١٢) .
فهل يَعْتَبِر بهذه الحرب أولئك الخادعون المخدوعون الذين كانوا يعيبون
الأديان، بزعمهم أنها مثار البغي والعدوان، ومسعر نيران الحرب بين الإنسان
وأخيه الإنسان، وأنه لولاها لآخت المدنية بين الناس، وجمعت بين ما تفرق من
الأجناس؟ كلا إن الحياة المدنية هي التي تولد في النفوس المطامع التي لا حد لها،
وتقرن التنافس بالتحاسد، وتسوق الحسد إلى البغي والتقاتل، وإن الدين ينهى عن
ذلك كله، ولكن الناس كثيرًا ما يخطئون في فهمه، وكثيرًا ما يتعمدون تحريف
كلمه عن مواضعه، فهم يسيئون استعماله كما يسيئون استعمال الحواس والعقل
وغير ذلك من نعم الله تعالى، فمن مقاصد الدين إزالة الخلاف من بين الناس
فاتخذوه سببًا من أسباب الخلاف {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: ١٩) فالحرب سُنة من سنن الاجتماع، قد
يخفف الدين شرورها بقدر ارتقائه واستمساك أهله به كما بيناه في مقالة نشرناها في
الجزء الثالث عنوانها (حرب المدنية الأوربية، والمقارنة بينها وبين المدنية
الإسلامية والفتوحات العربية) .
وليس للمدنية المادية مثل هذا التأثير في نفسها، فإن وجد في أمم المدنية من
يقبح الحرب، أو يقبح ارتكاب القسوة فيها غيرة على العمران، ومحافظة على
حقوق البشر غير مهتدٍ في ذلك بتربية الدين، ولا متأثر بفضائله، فهو لا يكون إلا
كالتاجر الخوَّان لا يحجم عن صفقة إلا خوفًا من الخسارة، فمتى غلب على ظنه أنه
فيها لا يبالي ما يفعل، اللهم إلا الأفراد من الحكماء الذين رجح العقل والفضيلة في
نفوسهم على الأهواء، كالفيلسوف هربرت سبنسر الإنكليزي الذي أهدى إليه عاهل
الألمان وسامًا علميًّا فلم يقبله منه؛ لأنه قيصر حرب، وهو عدو للحرب، وإياك
أن تظن في هذا الحكيم الكبير أنه كان يبغض الألمان بغضًا سياسيًّا لمناظرتهم لقومه،
فليس عليهم وعلى الناس بما ادعاه من سبب رفض الوسام، فكان ذلك من الرياء
الفِرّسي الذي يغمز به الإنكليز منتقدوهم كما صرحوا به في هذه الأيام [١] ، فإن هذا
الحكيم الكبير قد نصح لليابانيين بأن لا يولوا قومه الإنكليز شيئًا من شؤون بلادهم؛
لأن ذلك يكون ذريعة لعبثهم باستقلالهم، فأي استقلال في الرأي وإخلاص في
النصح أدل على الحكمة والفضيلة من هذا؟
على أن هذا الفيلسوف لم يكن ماديًّا بل كان يشكو من انتصارالمطامع المادية
في البلاد الأوربية - حتى في بلاده - على الفضيلة كما حدثنا عنه شيخنا الأستاذ
الإمام، وإننا نذكر في هذا المقام بعض ما دار بين حكيمي الشرق والغرب في
زيارة الأول للثاني بداره في ١٠ أغسطس سنة ١٩٠٣: بدأ المزور الزائر بسؤاله
عما رأى من تغير الأفكار في إنكلترة، وعما دخل الشرق من الأفكار الأوربية،
وشكا إليه من سريان الأفكار المادية إلى قومه، وما يخشى من إضعافها للفضيلة،
ثم دار بينهما ما يأتي.
قال الفيلسوف: الحق عند أوربة للقوة، قال الأستاذ الإمام: هكذا يعتقد
الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوربيين فيما لا
يُفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها، قال الفيلسوف: مُحي الحق بالمرة من
عقول أهل أوربة، وسترى الأمم يختبط بعضها ببعض ليتبين من هو الأقوى فيكون
سلطان العالم، قال الأستاذ: عندي أمل أن همم الفلاسفة واجتهادهم في تقرير
مبادئ الحق يحول دون ذلك، فقال الفيلسوف كلامًا يدل على يأسه من ذلك، وقد
كتب الأستاذ في مذكرته بعد الإشارة إلى هذه المذاكرة ما نصه:
(ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف (الحق للقوة) إلخ؟ جاءت منه مصحوبة
بشعاع الدليل، فأثارت حرارة، وهاجت فكرًا، لو جاءت من ثرثار غيره كانت
تأتي مقتولة ببرد التقليد، فكانت (تكون) جيفة تعافها النفس فلا تحرك إلا
اشمئزازًا وغثيانًا.
هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان،
وتوفير راحته، وتغزير نعمته (أعجزهم) أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها
على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من
الحديد اللامع المضيء، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة
الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني؟ حار الفيلسوف
في حال أوربا، وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء؟ الرجوع إلى الدين إلخ،
الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية، وعرفها إلى أربابها في كل زمان؛ لكنهم
يعودون فيجهلونها) . اهـ.
الظاهر أن الأستاذ كان يريد أن يتوسع في هذا الموضوع كما يشير إلى ذلك
قوله في مذكرته (إلخ) ولعله كان ينتظر فرصة مناسبة للمقام سواء كانت عملية
كهذه الحرب، أو قولية كمقال ينشر في الصحف في تفضيل المدنية المادية على
المدنية الدينية؛ فيكتب مقالاً يبيِّن فيه الحق ويزيل فيه الالتباس مُؤيَّدًا بالحكمة
الصحيحة وشواهد التاريخ، وقد بيَّنا شيئًا من المقابلة بينها وبين المدنية الإسلامية
في المقالة التي أشرنا إليها آنفًا.
إن أصحاب النظر والاستقلال من هؤلاء العشاق للمدنية المادية - وقليل ما
هم - كانوا يغرقون في حسن الظن بالمدنية المادية وبأهلها إغراقًا بعثهم على الجزم
بأن فكرة الحرب قد قضي عليها في أوربة قضاء مبرمًا، فلن تُوقد لها هنالك نار،
وكانوا يقولون: إن وجد من الملوك والرؤساء من يسعى لها سعيها، ويحاول أن
يقدح لها زندها؛ فإن شعبه هو الذي يضرب على يده، ويفت في عضده، وقد كنا
نخالف هؤلاء في الرأي، ومنهم من هو أعلم منا بحال القوم؛ ولكن رأيهم في ذلك
خالف رأي من هو أعلم منا ومنهم بحال أوربة وفلسفتها، ألا وهو شيخ فلاسفتها
الأكبر، هربرت سبنسر.
كان أولئك المحسنون للظن، من ذوي الاستقلال في الرأي، لا ينكرون
كالمقلدين سيئات هذه المدنية المادية؛ ولكنهم يقولون إنها إذا قيست بسيئات المدنية
الدينية كانت أقل منها وأخف ضررًا، ونحن نخالفهم في هذا أيضًا، ونقول ما كل
سيئات المدنية القديمة صادرة عن الدين والفلسفة الروحية، وما كل حسنات المدنية
الحديثة صادرة عن الإلحاد والفلسفة المادية، ولا تضاد بين العلوم والأعمال المادية،
وبين العقائد والأعمال الدينية، وإنما نعني بالمدنية المادية المذمومة ما كان مبنيًّا
على جحود حياة بعد هذه الحياة الدنيا، وحصر ثمرات أعمال البشر في التمتع
باللذات الدنيوية من طعام وشراب وفراش وزينة ورياسة، وإنما نعني بالمدنية
الدينية ما كان مبنيًّا على أن للإنسان حياتين يجب عليه أن يأخذ حظه من أولاهما
الدنيا بالمعروف، ويستعد فيها للأخرى بالعمل الصالح، على حد قوله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ
إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (القصص: ٧٧) فإن
أصول الدين التي دعا إليها الرسل هي الثلاثة المنصوصة في قوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٦٢) .
من البديهي أن من لم يكن له حظ من وجوده، إلا التمتع بلذات الدنيا وزينتها
لا يكون له هم من حياته إلا تحصيل المال والجاه الموصل إليها بحق أو بغير حق،
وأن الحق يكون عنده تابعًا للقوة دون العكس، فإن وجد في أهل هذه المدنية المادية
من يعترف بحق لضعيف؛ فإما يعترف به لمنفعة يراعيها، أو لمفسدة يتقيها، ولو
تنازع أقوياء هؤلاء على الضعفاء، لما سلم ضعيف من الإيذاء، وقد كان من
المصالح جعل بعض الدول الصغيرة في أوربة حاجزًا بين الكبيرة المتعادية منها،
وتعاهدوا على أن تكون حرمًا آمنًا لا يُجْنَى عليها؛ ولكنهم لم يَرْعَوْا هذه العهود
ولا غيرها عند حاجتهم إلى نقضها في هذه الحرب، والدين لا يبيح ذلك، قال
تعالى في العهود بين المسلمين والمشركين: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ
يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُتَّقِينَ} (التوبة: ٤) ، وقال في المؤمنين الذين لم يهاجروا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم
مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال: ٧٢) .