للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على المنار

سيدي الأستاذ محرر (المنار) : اطلعت على دعوتكم إلى نقد (المنار)
وعلى فاتحة المجلد التاسع عشر فلم يسعني إلا تحرير هذا الكتاب لفضيلتكم ورائدي
الإخلاص وتعضيد ما ينفع الناس.
فأما عن نقد (المنار) فحسبي أن أقول: إن المجلة التي كادت تبلغ ربع قرن
من حياتها لا بد وأن تكون قد جمعت من أسباب الحياة ما فيه الكفاية، وإن ما ألم بها
أخيرًا من العسر المالي الذي يرجع بعضه إلى أزمة الحرب ليس غير مجرد مرض
عادي إذا عُولج علاجًا ناجعًا عادت إلى المجلة نضرتها السابقة، وعندي أن هذا
المرض محصور في اضطراب إدارة المجلة، وفي عدم تمشيها مع الزمن بخلاف
عادتها في سالف السنين، ولبيان ذلك أقول: إن إدارة المجلة على ما يظهر لي
كثيرة التساهل مع المشتركين، فإني لا أتذكر أني تلقيت أخيرًا من حضرة مدير
(المنار) طلبًا بدفع الاشتراك كما هي عادة جميع المجلات الراقية عربية كانت أم
إفرنجية.
وقد كنت أباهي بشدة تدقيقي في حسابي، ولكن شواغل الحياة متى تعددت
أصابت الإنسان بالنسيان وسلبته بعض نظامه مهما يكن يقظًا، فبت ولا أدري بماذا
أدين إليكم؟ والنفقة التي تنفقونها في سبيل تذكير كل مشترك مرة في السنة بموعد
تجديد اشتراكه لا يساوي شيئًا في جنب الفائدة المادية التي تحصلون عليها. ولولا
أن هذه الطريقة الإدارية ذات نتيجة محسوسة لما استمرت على اتباعها جميع
الصحف المعتبرة، زد على ما تقدم أن المجلة لا تُرسل إليّ بانتظام وهذا ضار
بمصلحتها؛ لأني إذا كنت لا أتردد لحظة في دفع ما تطلبون إلى دفعه حتى، ولو
استلمت عددًا واحدًا فقط منها في السنة كلها. معتمدًا على جميع بقية الأعداد منكم
متى عدت إلى القاهرة، فلا شك عندي أن كثيرين غيري يتنصلون من الدفع بهذه
الحجة، فتكون خسارتكم حينئذ غير قليلة. وهذه نقطة جوهرية يحسن بسادتكم
النظر فيها، لأن نظام العمل من أقوى الدعائم لنجاحه.
مباحث المجلة في تعريفكم ليست قاصرة على فلسفة الدين بل هي تشمل أيضًا
شئون الاجتماع والعمران، ولكنكم قلما تطبقون ذلك. لا أنكر أنكم أحسنتم كثيرًا
بنشر المقالات الصحية المفيدة التي وضعها الدكتور توفيق صدقي، كما أن لكم
جولات رائقة في غير مباحث الدين، ولكني لا أعرف لكم أبوابًا ثابتة في كل عدد
سوى باب تفسير القرآن، بخلاف ما أشاهده في مثل (المقتطف) أو (رعمسيس)
أو (الهلال) وبخلاف ما أشاهده في المجلات الدينية المسيحية الراقية التي تصدر
بالإنكليزية، حتى كأن تلك المجلات الدينية، تخوض في كل علم، وترمي إلى
تطبيق العلم على الدين.
ومثل هذا التطبيق في رأي بعض المفكرين تضليل. ولكني لا أرى ذلك إذا
كان المطبق مخلصًا في عمله؛ لأن رجل الدين متى اعتقد أن العلم هو أحد أركان
الدين، وجب عليه أن يجمع بينهما حتى يخلِّص المعتقدات الدينية من خرافات
الجهلاء المدعين الذين يتاجرون باسمها أو يبنون شهرتهم الكاذبة على حسابها، وقد
لاحظ كثيرون تحاشيكم إيضاح (المنار) بالصور حتى رسوم من تُوُفُّوا من علماء
الإسلام، فعد ذلك دليلاً على كره الإسلام للتصوير في العصر الحاضر أيضًا.
وأما عن دار الدعوة والإرشاد التي تقصدون بها تربية أساتذة لتهذيب العامة،
ونشر المبادئ الأدبية النافعة والقضاء على أباطيل الأولين، فلا يحاربها رجل بعيد
النظر، حتى ولا من أنكر ذات الخالق؛ لأني إذا قلت: إن الطبقة المتعلمة من
الأمة قد تجد من تعليمها العالي المبادئ الأدبية الكافية لصيانة أخلاقها، ولو كانت
غير متدينة بدين سماوي، فيصعب علي جدًّا أن أتصور جواز هذا الحكم على عامة
الناس الذين لا تثمر مبادئ الإلحاد بينهم إلا فوضى أدبية مريعة. فيجب إذن تعضيد
رؤساء الأديان الذين يسيرون بها دائمًا إلى الأمام، وقصدهم التعليم والتربية: وإذا
عد نفر من السنين يتحقق هذا الحلم.
فإذا فرضنا أن تحقيقه في حكم المستطاع - والناس كثيرًا ما يختلفون حتى
على البديهات. وفي خلال كل هذا الزمن، يلبث الدين قرين اللغة من مشخصات
الأمة ومظهر من مظاهرها - فحري بكل ذي وطنية صحيحة أن يمعن النظر في
هذه المسألة الحيوية.
هذا وإني لا أذهب مذهب مكاتبكم الفاضل في خاتمة المجلد السابق، بل لا
أشك في حسن مستقبل الشرق، ولكل أمة دور من صعود وهبوط، ولا خوف
عندي على مثل (المنار) أو (دار الدعوة والإرشاد) فلا بد أن يأتي وقت قريب،
يُعطى فيه خليفة الإمام محمد عبده حقه من الإنصاف على ما خدم به الأمم الإسلامية
من الإرشاد النافع حتى صارت فتاويه مرجع كل مصلح اجتماعي جريء.
وبات (تفسير المنار) معدودًا أعظمَ تفسير للقرآن الشريف لجمعه بين علوم
السلف والخلف، ولما تضمنه من خلاصة العلوم الحديثة، التي يجب أن تكون هُدى
المفسر لكتاب يعد قانون الله الذي خلق الكون ودبره. فما العلوم الطبيعية إلا
خلاصة ما وصل إليه العقل الإنساني في دروس سنن الكائنات بتدقيق وأمانة؛ لهذا
كانت تفاسير القرآن التي خطها الجاهلون بهذه العلوم أولى بالتلف منها بالصيانة،
فإنها عار للعلم والدين معًا.
فاسمح لي إذًا يا سيدي الأستاذ أن أهنئكم على استقبال (المنار) لسنة جديدة
من سِنِي حياته المباركة، راجيًا أن تكون فاتحة رقي متواصل له ونجاح ثابت
ونصرة للفضيلة والآداب.
... ... ... ... ... ... نادي، مستشفى سانت جورج بلندن
... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي
... ... ... ... ... ... ... ... (طبيب)
(المنار)
نشرنا رسالتكم برمتها، وإن كان موضوع باب الانتقاد على المنار خاصًّا
بانتقاد مسائله دون إدارته. ونشكر لكم تهنئتكم وثناءكم، وكل ما كتبتم بمداد
الاستقلال والإخلاص، ولا أنكر ما عرض من الخلل على إدارة المنار ولا سيما
إهمال التحصيل، وأذكر من سببه خيانة بعض الوكلاء وتركي الأشراف عليها،
وتعدد من تولى أمرها منذ الانقلاب العثماني الذي فتح لي أبواب الأسفار إلى سورية
ثم الآستانة، ثم الهند وعمان والعراق، والاشتغال بمشروع الدعوة والإرشاد،
وستعود إلى الانتظام في هذا العام - إن شاء الله تعالى -.
وأما سبب قلة تنوع موضوعات المنار كتنوع غيره من المجلات فهو أن
محرره واحد له أعمال كثيرة أخرى، ومحرروها كثيرون. ولا يتسع هذا الجزء
للخوض معكم في سائر المسائل التي أودعتموها في رسالتكم المفيدة.