للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فوائد شتى [*]

بسم الله الرحمن الرحيم
العمل بالحديث الصحيح
قال السِّندي في حواشيه على فتح القدير من كتب الحنفية: الحديث حجة في
نفسه، واحتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به، وهو
منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح: لا
يَعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان، فإنما يقال له: انظر هل هو منسوخ
أم لا؟ . أما إذا كان الحديث قد اختلِفَ في نسخه، فالعامل به في غاية العذر، فإن
تطرُّق الاحتمال إلى خطإ المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من
الحديث. قال ابن عبد البر: يجب على من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه
حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه، وأيضًا فإن المنسوخ من السنة في غاية
القلة حتى عده بعضهم أحدًا وعشرين حديثًا، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول
المفتي، بل يجب عليه مع احتمال خطإ المفتي فكيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا
فهم معناه وإن احتمل النسخ؟
ولو كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوغ العمل بها بعد
صحتها حتى يعمل بها فلان، لكان قولهم شرطًا في العمل بها، وهذا من أبطل
الباطل.
وقد أقام الله - تعالى - الحجة برسوله - صلى الله عليه وسلم - دون آحاد
الأمة، ولا يعرض احتمال الخطإ لمن عمل بالحديث، وأفتى به بعد فهمه إلا
وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه، ويجري
عليه التناقض والاختلال، ويقول القول ويرجع عنه، ويحكى عنه في المسألة عدة
أقوال.
وهذا كله فيمن له نوع أهلية، أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله -
تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) وإذا جاز
اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه، وإن علا فَلأَنْ
يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أولى بالجواز، ولو قُدِّر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل
من يعرفها، فكذلك الحديث. انتهى كلام السندي ملخصًا، وقد أطال من هذا النفس
العالي - رحمه الله تعالى ورضي عنه -.
***
الفقه في الدين والاجتهاد
قال الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد من أئمة الشافعية في خطبة (شرح الإلمام)
كما نقله عنه السبكي في طبقاته في ترجمته: إن الفقه في الدين منزلة لا يخفى
شرفها وعُلاها، ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواؤها، وأرفعها بعد فهم
كتاب الله المنزَّل، البحث عن معاني حديث نبيه المرسل؛ إذ بذاك تثبت القواعد
ويستقر الأساس، وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس، لكن شرط ذلك عندنا أن
يحفظ هذا النظام، ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإمام، وترد المذاهب إليه،
وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه.
وأما أن يُجعل الفرع أصلاً، ويرد النص إليه بالتكلف والتحيّل، ويحمل على أبعد
المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل. ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذّلول،
ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول، فذلك عندنا من أردأ
مذهب وأسوأ طريقة، ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة،
وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه؟ وأنَّى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه؟
ومتى يُنصف حاكم ملَكَته غضبة الصبية؟ وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة
بالحمية؟ .. . إلخ (الفتوى في الإسلام صحيفة ٤٤) .
***
السؤال عما لم يقع
قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن، ولم
يمض به كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع؛ لأن الاجتهاد
إنما أُبيح للضرورة، ولا ضرورة قبل الواقعة، وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا
يغنيهم ما مضى من الاجتهاد، واحتج في ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) انتهى (الفتوى في الإسلام
صحيفة ٤٥) .
***
معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)
سئل أحمد بن عطاء أبو عبد الله الروزبادي المتوفى سنة ٣٦٩ قال الحافظ
ابن عساكر: وفي مروياته أحاديث وهم فيها وغلط غلطًا فاحشًا عن قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - (إن الله خلق آدم على صورته) فقال: إن الله جل ثناؤه
خلق الخلق مرتبة بعد مرتبة، ونقله من حال إلى حال كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون: ١٢-
١٣) - إلى قوله- {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: ١٤) وخلق آدم
ليس على هذه الأحوال، وإنما خلق صورته كما هي، ثم نفخ فيه من روحه؛
فلأجله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق آدم على صورته)
اهـ مختصر تاريخ ابن عساكر جزء صحيفة ٣٩٤) .
***
نشوء علم الفلسفة
قال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في آخر الكلام على الطبقة السادسة من
طبقاتهم: وكان في زمان هؤلاء خلائق من أئمة الحديث ومن أئمة المقرئين كوَرْش
واليزيدي والكسائي وإسماعيل بن عبيد الله المكي القسط، وخلق من الفقهاء كفقيه
العراق محمد بن القاسم، وخلق من مشايخ القوم كشقيق البلخي وصالح المري
الواعظ والفضيل والدولة لهارون الرشيد والبرامكة ثم بعدهم اضطربت الأمور،
وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين - رحمه الله - فلما قتل واستخلف المأمون على
رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته، وبَزَغ فجر الكلام، وعُرِّبت حكمة
الأوائل ومنطق اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد مُرْدٍ مُهلك
لا يلائم عِلم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين، قد كانت الأمة منه في عافية.
وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق
القرآن ودعاهم إليه فامتحن العلماء، فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ إن من البلاء أن
تعرف ما كنت تُنكر وتُنكر ما كنت تعرف، وتقدم عقول الفلاسفة، ويعزل منقول
أتباع الرسل، ويُمارى في القرآن، ويتبرم بالسنن والآثار، وتقع في الحيرة،
فالفرارَ الفرارَ قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول،
{وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (آل عمران: ١٠١) (تذكرة
الحفاظ جزء ١ ص ٣٠٠) .
***
كتاب المهذب للذهبي
وجدت بدار الكتب المصرية كتاب (المهذب) للذهبي بخطه، وعلى ظهر
المجلد الأول ما نصه بخطه - رحمه الله تعالى -: (المجلد الأول من كتاب
المهذب في اختصار السنن الكبير، تأليف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين
بن علي البيهقي - رحمه الله تعالى - اختصار كاتبه محمد بن أحمد بن عثمان
بن الذهبي غفر الله له) وتحت ذلك بخطه - رضي الله عنه - أيضًا ما نصه:
قال ابن الذهبي: لم أختصر من أحاديث الكتاب شيئًا بل اختصرت الأسانيد،
فإن بها طال الكتاب، وبقيت من السند ما يُعرف به مخرج الحديث، وما حذفت من
السند إلا ما قد صح إلى المذكور، فأما متونه فأتيت بها إلا في مواضع قليلة جدًّا من
المكرر، قد أحذفها إذا قرب الباب من الباب، وآتي ببعض المتن، وقد تكلمت على
كثير من الأسانيد بحسب اجتهادي، والله الموفق.
وقد رمزت على الحديث بمن خرجه من الأئمة الستة (خ م د ت س ق) ولم
أتمم هذا، فإن فَسَحَ الله في الأجل طالعت عليه الأطراف لشيخنا أبي الحجاج الحافظ
إن شاء الله - تعالى -، وهذا أمر بيِّنٌ هيِّن، كل من هو محدث فإنه يقدر على
رمز أحاديث الكتاب من الأطراف، وما خرج عن الكتب الستة فقد بينت لك إسناده
ومخرجه، فاكشف عليه، إن شئت من كُتب الجرح والتعديل، فالرجال ثلاثة، إما
موثَّق مقبول، وإما مضعَّف غير حُجَّة، وإما مجهول، لكن كل قسم من الثلاثة
على مراتب في القوة واللِّين والجهالة، انتهى. والنسخة نفيسة جدًّا، كلها بخطه
خمسة مجلدات تنقص الثاني، والموجود منها أربعة، وفق الله لنا من يطبعه،
وينشره آمين.
***
كتاب الجمع بين الصحيحين
وجدت بدار كتب رواق الأروام بالأزهر جزءًا من الجمع بين الصحيحين
للحميدي وهو السادس، وقد أحببت نقل خاتمته لما فيها من النفائس، قال - رحمه
الله تعالى -:
(تم جميع الكتاب بحمد الله وعونه، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصًا
لوجهه، إنه ولي التوفيق، وهو على كل شيء قدير، وهو حسبي ونِعم الوكيل،
ثم قال عقب ذلك:
(وهذه الأصول تتصل بآخر ما في الصحيحين من مسند الصحابة - رضي
الله عنهم - وهو آخر ما قصدنا إليه من الجمع بين الصحيحين، وتمييز ما اتفقا
عليه من المتون المخرَّجة فيهما، وما انفرد به أحدهما منها مستقصًى على شرطنا
مرتبًا على ما بدأناه به وبيناه مع الاختصار المعِين على سرعة الحفظ والتذكار، ولم
يبق للباحث المجتهد إلا النظر فيها والتفقه في معانيها، ومراعاة حفظها وإقامة
الحُجّة بها، فإلى هذا قصد المتقدمون من أئمة الدين في حفظ إسنادها للمتأخرين؛
لتكون حاكمة بين المختلفين وشواهد صدق للمتناظرين - رضي الله عنهم أجمعين
ووفق التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين -.
فأما إسنادنا في هذين الكتابين فقد روينا كتاب الإمام أبي عبد الله البخاري
بالمغرب من غير واحد من شيوخنا بأسانيد مختلفة تتصل بأبي عبد الله محمد بن
يوسف بن مطر الفربري عن البخاري، ثم قرأته بمكة - أعزها الله - على المرأة
الصالحة كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي غير مرة لعلو إسنادها فيه،
كأنا قرأناه على أبي ذر عبد بن أحمد الهروي عن أبي الهيثم بن المكي بن محمد بن
زراع الكُشميهني عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشير بن
إبراهيم الفربري عن أبي عبد الله محمد بن الفرج بن عبد المولى الأنصاري، وهو
روايته عن أبي العباس أحمد بن الحسن الحافظ الرازي، سمعه منه بمكة سنة ست
وأربعمائة.
قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي قال:
أنا الفقيه أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، قال: سمعته من الإمام
أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنه -.
***
فصل
(وقد استشرف بعض الطالبين إلى معرفة الأسباب الموجبة للاختلاف بين
الأئمة الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - مع إجماعهم على الأصل المتفق
المستبين، حتى احتيج إلى تكلف التصحيح في طلب الصحيح، وقرَّبت على هذا
الطالب معرفة بعض العُذر في اختلاف المتأخرين لبُعدهم عن المشاهدة، وإنما تعذر
عليه معرفة الوجه في اختلاف الصحابة - رضوان الله عليهم - مع مشاهدتهم نزول
التنزيل وأحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحرصهم على الحضور لديه،
والكون بين يديه، والأخذ عنه والاقتباس منه، وهذا الذي وقع لهذا الطالب الباحث
قد وقع لمن قبله الخوض فيه والبحث عنه.
وخرّج في هذا المعنى بعض الأئمة من علماء الأمة فصلاً رأينا إثباته ههنا
(كذا) [١] هذا الشبه عن هذا الطالب الباحث وغيره ممن يخفى ذلك عليه ويتطلع
إلى معرفة الوجه فيه، وبهذا الفصل يتصور (كذا) لك كل [٢] صورة وقوع ذلك
منهم وكيفية اتفاقه لهم، حتى كأنه شاهده معهم) .
وهذا أول الفصل المخرّج في ذلك أوردناه بلفظ مصنفه -رحمة الله عليه-
(قال لنا الفقيه الحافظ أبو محمد بن علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي
-رضي الله عنه- في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه) .
***
سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة
(تطلعت النفس بعد تيقُّنها أن الأصل المتَّفق عليه المرجوع إليه أصل واحد
لا يختلف وهو ما جاء عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - إما في القرآن،
وإما من فعله أو قوله، الذي لا ينطق عن الهوى فيه، لما رأت وشاهدت من
اختلاف علماء الأمة في ما سبيله واحدة وأصله غير مختلف فبحثت عن السبب
الموجب للاختلاف، ولترك من ترك كثيرًا مما صح من السنن، فوضح لها بعد
التفتيش والبحث أن كل واحد من العلماء ينسى كما ينسى البشر، وقد يحفظ الرجل
الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يَعرِض هذا في آي القرآن.
(ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - أمَر على المِنبر ألا يُزاد في مهور
النساء على عدد ذكره مَيلاً إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد على ذلك
العدد في مهور نسائه حتى ذكرته امرأة من جانب المسجد بقول الله - عز وجل -:
{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً} (النساء: ٢٠) فترك قوله، وقال: كل أحد أعلم منك
حتى النساء.
وفي رواية أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. علمًا منه - رضي الله عنه
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يزد في مهور النساء فإنه لم يمنع
مما سواه والآية أعم، وكذلك أمر - رضي الله عنه - برجم امرأة ولدت لستة أشهر
فذكَّره علي قول الله - تعالى - {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف:
١٥) مع قوله - تعالى - {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} (البقرة:
٢٣٣) فرجع عن الأمر برجمها، وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ جفا عليه حتى
ذكره الحُر بن قيس بقول الله - عز وجل - {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩) فأمسك عمر. وقال - رضي الله عنه - يوم مات رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا حتى
قُرئت عليه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: ٣٠) فرجع عن ذلك، وقد كان
علم الآية، ولكنه نسيها لعظيم الخطب الوارد عليه، فهذا وجه عمدته [٣] (كذا)
الخلاف للآية أو للسنة بنسيان لا بقصد.
وقد يذكر العامل الآية أو السنة لكن يتأول فيها تأويلاً من خصوص أو نسخ
أو معنًى ما، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل، ولا شك أن الصحابة - رضي الله
عنهم - كانوا بالمدينة حوله - عليه السلام - مجتمعين، وكانوا ذوي معايش،
يطلبونها، وفي ضَنْك من القوت فمن متحرف في الأسواق ومن قائم على نخله،
ويحضره - عليه السلام- في كل وقت منهم طائفة إذا وجدوا أدنى مما هم بسبيله،
وقد نص على ذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - فقال: إن إخواني من المهاجرين
كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على
نخلهم وكنت امرءًا مسكينًا أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء
بطني.
وقد قال عمر - رضي الله عنه -: ألهاني الصفق في الأسواق في حديث
استئذان أبي موسى، فكان - عليه السلام - يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم،
ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيحفظه من حضره ويغيب عن من غاب عنه، فلما
مات - عليه السلام - وولي أبو بكر - رضي الله - عنه كان إذا جاءت القضية
ليس عنده فيها نص، سأل من بحضرته من الصحابة فيها، فإن وجد عندهم نصًا
رجع إليه، وإلا اجتهد في الحكم فيها، ووجه اجتهاده واجتهاد غيره منهم - رضي
الله عنهم - رجوع إلى نص عامّ أو إلى أصل إباحة متقدمة أو إلى نوع من هذا
يرجع إلى أصله.
ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد أحد منهم هو أن يشرع شريعة باجتهاده،
أو يخترع حُكمًا لا أصل له، حاشَ لهم من ذلك، فلما ولي عمر - رضي الله عنه -
فُتحت الأمصار وتفرق الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو
بغيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نص حُكِمَ به، وإلا
اجتهدوا في ذاك، وقد يكون في تلك القضية نص موجود عند صاحب آخر في بلد
آخر- وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر
الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر
الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المدني.
كل هذا موجود في الآثار وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من مغيب بعضهم عن
مجلسه -عليه السلام- في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر
وحضور الذي غاب، فيدري كل واحد منهم ما حضره ويفوته ما غاب عنه، وقد
كان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر، وابن مسعود حتى قالا: لا
يتيمم الجُنُب ولو لم يجد الماء شهرين، وكان حكم المسح على الخفين عند علي
وحذيفة ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة على أنهم مدنيون، وكان
توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وغاب عن أبي موسى، وكان حكم
الاستئذان عند أبي موسى وأُبيّ وغاب عن عمر، وكان حكم الإذن للحائض في أن
تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سلمة ولم يعلمه عمر وزيد بن ثابت،
وكان حكم تحريم المُتعة والحُمُر الأهلية عند علي وغيره، ولم يعلمه ابن عباس،
وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة وابن
عباس وابن عمر، وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس
وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم، ومثل هذا كثير.
فمضى الصحابة - رضي الله عنهم - على هذا.
ثم خَلَفَ بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي
ذكرنا، فإنما تفقَّهوا مع من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدَّون فتاويهم، لا
تقليدًا ولكن لأنهم أخذوا وروَوْا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير مَن كان في
بلادهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن
عمر، واتِّباع أهل مكة فتاوى ابن عباس، واتِّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن
مسعود، ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسُفيان، وابن أبي
ليلى بالكوفة وابن جُريج بمكة، ومالك وابن الماجِشون بالمدينة، وعثمان البَتِّي
وسوَّار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجرَوْا على تلك الطريقة، من
أخذ كل واحد من التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن الصحابة - رضوان الله
عليهم - في ما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم، وهو موجود عند
غيرهم ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها.
وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه أجرين ومأجور فيما خفي عليه،
ولم يبلغه أجرًا واحدًا. قال الله - تعالى - {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (الأنعام:
١٩) .
وقد يبلُغ الرجل ممن ذكرنا نصان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما
بضرب من الترجيحات، ويميل غيره إلى النص الذي ترك الآخر بضرب من
الترجيحات أيضًا، كما رُوي عن عثمان في الجمع بين الأختين: أحلَّتهما آية
وحرَّمتهما آية. وكما مَالَ ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله -
تعالى - {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: ٢٢١) وقال: لا أعلم
شِركًا أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربُّها. وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة
في الآية الأخرى، ومثل هذا كثير.
فعلى هذه الوجوه ترك بعض العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات،
وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم لأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك
هؤلاء، لا قصدًا إلى خلاف النصوص، ولا تركًا لطاعتها كذا، ولكن لأحد الأعذار
التي ذكرنا، إما من نسيان، وإما أنها لم تبلغهم، وإما لتأويل ما، وإما لأخذ بخبرٍ
ضعيفٍ، لم يَعلم الآخذ به ضعف رواته وعلمه غيره، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه أو
بظاهر آية.
وقد يشتبه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى، ويلوح له حكم بدليل ما
ويغيب كذا غيره، ثم كثرت الرِّحل إلى الآفاق، وتداخل الناس وانتدبت أقوام لجمع
حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وضمه وتقييده، ووصل من البلاد البعيد إلى
من لم يكن عنده، وقامت الحُجة على من بلَغه شيء منه، وجمعت الأحاديث المبينة
لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف
الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ترك
عمله، وسقط العُذر عمن خالف ما بلغه من السُّنن ببلوغها إليه، وقيام الحُجة بها
عليه، فلم يبق إلا العِناد والتقليد.
وعلى هذه الطريقة كان الصحابة - رضوان الله عليهم - وكثير من التابعين
يرحلون في طلب الحديث الأيامَ الكثيرةَ طلبًا للسُّنن والتزامًا لها، وقد رحل أبو
أيوب من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد إلى عقبة بن عامر، وقد رحل
علقمة والأسْوَد إلى عائشة وعمر، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام، وكتب
معاوية إلى المغيرة اكتب إليّ بما سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -
ومثل هذا كثير.
(قال أبو عبد الله) : فقد بيَّنَّا - والحمد لله - وجه من ترك بعض الحديث،
والسبب الموجب للاختلاف، وشفينا النفس مما اعترض فيها، ورفعنا الإشكال عنها،
والله - عز وجل - المعين على البحث والهادي إلى الرشد بمنِّه.
وبهذا البيان كشف به هذا الإمام في هذا الفصل صورة الحال في أسباب
الاختلاف الواقع بين الصحابة فمن دونهم، صح للأئمة المتقدمين - رضي الله عنهم
أجمعين - وجوب طلب التصحيح للنصوص الواردة في شرائع الدين، لتقوم الحُجة
بما صح منها على المختلفين، وقد قام الكل منهم في ذلك بما قدر عليه، وانتهت
استطاعته إليه، إلى أن انفرد بالمَزِيَّة في الاجتهاد، والرحلة إلى البلاد، في جمع
هذا النوع من الإسناد، بعد التَّتبُّع والانتقاد، الإمامان أبو عبد الله البخاري وأبو
الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنهما -، فحازا قَصَب السَّبْق
فيه في وقتهما، ولفَرْط عنايتهما وبلوغهما غاية السعي والتشمير فيه قويت هممهما
في الإقدام على تسمية كتابيهما بالصحيح، وعلم الله - عز وجل - صِدق نيتهما فيه
ومشقة قيامهما به وحُسن انتقادهما له، فبارك لهما فيه ورزقهما القبول شرقًا
وغربًا، وصرف القلوب إلى التعويل عليهما والتفضيل لهما، والاقتداء في شروط
الصحيح بهما، وتلك عادة الله فيمن أحبه، أن يضع له القبول في الأرض كما جاء
في الخبر الصادق عن المبعوث الحق - صلى الله عليه وسلم -، فهنيئًا لهما،
ولمن اهتدى في ذلك بهُداهما، والواجب علينا وعلى من فهم الإسلام، وعرف قدْر
ما حَفِظَا من الشرائع والأحكام، أن يخلِص الدعاء [٤] لهما، ولسائر الأئمة الناقلين
إليهما وإلينا قواعد هذا الدين، وشواهد أحكام المسلمين. ونحن نبتهل إلى الله -
تعالى - في تعجيل الغُفران لهما ولهم، وتجديد الرحمة والرضوان عليهما وعليهم،
وأن يبوئ الكل منهم في أعلى درجات الكرامات، من غُرُفات الجنات، وأن يوفقنا
أجمعين للاقتداء بهم، والسلوك في سبيلهم، والدعاء إليه وإلى رسوله، والانقياد
لمحكمات تنزيله، والتفقه في دينه، والإخلاص في عبادته، والانقطاع إليه،
وصِدْق التوكل عليه، حتى يتوفانا مسلِمين مسلَّمين، غير مبدِّلين ولا مغيِّرين، وأن
يغفر لنا ولآبائنا ولجميع المسلمين.
تم الجزء السادس وبتمامه تم الكتاب. والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا
محمد نبيه، وآله وصحبه وسلامه. وافق الفراغ من نسخه لخمس ليالٍ بَقِين من ذي
القَعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة.