للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الزار
وهل اعتقاد تأثير الولي
والعِفريت فيه شرك جلي؟

(س٩) مِن أحد المشتركين في القاهرة - ع. م
حضرة الأستاذ العلامة المفضال السيد رشيد رضا المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني أهنئكم أولاً بسلامة العودة من الأقطار الحجازية المباركة وأدعو
لكم الله -سبحانه وتعالى- أن يجعله حجًّا مبرورًا إن شاء الله.
سيدي استشكل علي أمر بخصوص ما يسمونه (الزار) الذي يستشفي به
بعض (الجاهلات) من النساء من أمراضهن العصبية فأحببت أن أعرضه عليكم
راجيًا التكرم بالإجابة ولو تأشيرًا على هذا بصفة خصوصية.
(إحدى السيدات مصابة بمرض عصبي: يأتيها غالبًا على نوبات ربو وآلام
شديدة بالمعدة والكليتين مع الصداع وسُعال وضعف عمومي شديد، وخصوصًا في
ابتداء كل مرة من الحمل، عَرَتها هذه الحالة منذ خمسة عشر عامًا بعد زواجها بقليل
ثم إنها على صلاح وتقوى، وقد كانت لا تعتقد بمسألة الزار ولكنها تحت تأثير
كلام النساء خصوصًا أقاربها من والدة وأخوات اعتقدت أخيرًا وتوهمت أن أحد
الأولياء أو أحد العفاريت هو الذي أصابها بهذا المرض الهستيري من زمن
وصممت على عمل حفلة الزار بمصاريف من عند أهلها في منزلهم لا في منزل
زوجها الذي عارض في ذلك بشدة لعدم اعتقاده بمثل هذه الخرافات، ولم يرضَ
بخسارة دينه في مصاريف باطلة على عقيدة باطلة) .
والآن ألا ترى سيادتكم أن اعتقاد هذه السيدة تأثير الولي الفلاني أو العفريت
الفلاني يؤدي بها إلى الشرك الجلي، وفي هذه الحالة تصبح محرمة على زوجها
المسلم الصحيح (غير الجغرافي أو السياسي) الذي لا يعتقد بتأثير وليّ أو نبيّ؟
فتفضلوا بإفادتي عن ذلك ولو كلفكم الجواب شيئًا من التفصيل. وتفضلوا بقبول
مزيد تشكراتي وجزيل ممنونيتي سلفًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(ج) يذكر جمهور علماء الكلام أن الإيمان بوحدانية الأفعال عبارة عن
التصديق الجازم بأنه لا فعل لغير الله -تعالى- في الحقيقة، فكل ما يقع في
الكون من خير وشر ونفع وضر فهو من فعل الله -تعالى- وحده، ويصرح
الأشعرية في كتب العقائد بأن الأسباب الظاهرة للحوادث - ومنها كسب الإنسان
وغير الإنسان من الملائكة والجان - لا تأثير لها في نفسها، وإنما يخلق الله
المسببات والمكسوبات عندها لا بها، فلا فرق بين النار والماء في حصول
الإحراق والإرواء، إلا أن عادة الله قد جرت بخلق الإحراق عند مس النار
واتصالها بالجسم القابل للاحتراق وخلق الإرواء عقب خلق شرب الماء، ولكن
الشرع أمر بالكسب، كالتداوي والأكل والشرب، فينبغي القيام بالمشروع منه
وهو ما جرت سنة الله -تعالى- بجعله سببًا مطردًا، وما كان سببًا غير مطرد
كرُقية الملسوع وما في حكمه فإتيانه ينافي التوكل وكمال الإيمان والتوحيد،
وما كان دون ذلك مما لم يثبت كونه سببًا ألبتة أو قامت عليه شبهات وهمية
باطلة اغتر بها بعض العوام في بعض البلاد -كالزار في بلاد مصر
والسودان فلا عذر لمؤمن في الإقدام عليه أي لأنه من الجبت [١] الذي هو
عبارة عن خرافات الكهنة والسحرة، ومن اعتقد أن ولي الزار أو شيخه ينفع،
ولو بقدرة خلقها الله فيه ومزية أعطاه إياها وأن عفريتة يضر ولو بقدرة خلقها
الله فيه أيضًا - فهو عند هؤلاء المتكلمين مشرك بالله -تعالى- فالخطر
على منتحلي خرافات الزار وغيرها شديد في مذهب هؤلاء المتكلمين الذين
ينتمي إليهم أكثر الخرافيين.
وأما مذهب غير هؤلاء من المتكلمين ومحققي أهل الأثر من الحنابلة وغيرهم
فهو أن الله -تعالى- جعل الأسباب مؤثرة بخواص من خلقها فيها كالإحراق في
النار والإرواء في الماء، ومقاومة سير المرض في الدواء، ومنها إرادة
الإنسان وعمله الاختياري، ولكن هؤلاء يقولون كغيرهم: إن الأسباب تعرف
بالتجارب والاختيار، وتكون مشتركة بين جميع المجربين من الناس،
واتخاذ الأسباب الوهمية مذموم شرعًا وعقلاً، وأنه لا تأثير لمخلوق فيما وراء
الأسباب التي جرت سنة الله في الخلق بربط المسببات بها، فمن اعتقد أن غير
الله -تعالى- ينفع أو يضر بذاته دون ما جرت به سنته -تعالى- في الأسباب أو
بتأثيره في إرادة الله -تعالى- وقدرته، بأن يفعل الله -تعالى- بتأثيره عنده
شيئًا لم يكن لولاه ليفعله بمحض إرادته حسب علمه الأزلي- فهو مشرك بالله
كافر بوحدانيته، لاعتقاده أن لغيره فعلاً وتأثيرًا معه بقدرته الذاتية - وهو
المنفرد بذلك- أو بتأثيره في إرادته - والإله الخالق القديم لا يكون محلاًّ
للتأثيرات الحادثة، ويستحيل أن تكون إرادته تابعة لإرادة أحد من خلقه، الذين هم
تحت تصرف قدرته وقهره.
إذا تدبر السائل هذا ظهر له أن التصديق بخرافة الزار خطر على الدين،
وأنه ليس من شأنه أن يقع من أهل التوحيد الصحيح، لا على مذهب المتكلمين،
ولا على مذهب الأثريين، وإنما يقع مثله ممن يأخذون دينهم عن أمثالهم من
الجاهلات والجاهلين، كغوغاء العوام الذين يقلد بعضهم بعضًا في أمور الدنيا
والدين، كالعادات السخيفة والعلاجات الضارة، المبنية على تجارب فاسدة
ناقصة.
ولكننا مع هذا كله لا نجزم بكفر امرأة تصدق ببدعة الزار، ولا نجعلها
به مشركة بالله -عز وجل-، بل يجب أن نحتاط في مثل هذا الحكم، وندفع
الجزم به قبل العلم بحقيقة اعتقاد المرأة ولو بالشبهات، كما يجب أن تحتاط
تلك المرأة باتقاء التصديق بهذه الخرافات، التي يخشى أن تكون شركًا جليًّا أو
خفيًّا ولو على بعض الأقوال، فنقول نحن عملاً باحتياطنا: يجوز على هذه
المرأة أن تؤمن إيمانًا جازمًا بأن الله -تعالى- خالق كل شيء وهو على كل
شيء وكيل، وأن ما اقتضته إرادته وجرى به قَدَره من ربط الأسباب
بالمسببات، هو عامّ مطرد في المخلوقات، وأنه لا قدرة لمخلوق على شيء
خارج عن سنته -تعالى- في الكائنات. بل جميع الخلق سواء في العجز عما
وراء الأسباب، كما أنهم سواء في جريانها فيهم وخضوعهم لها، وانحصارهم
في حظيرة قهرها. ويجوز أن يعرض لها وهي على هذا الاعتقاد مرض
فيخبرها من تظن فيهم الصدق وعلم التجربة والاختبار، أن سبب هذا المرض
ملابسة عفريت من الجن لها، وأن غيرها قد أصيب بمثله قبلها، وأنهم جربوا
له كل علاج فلم ينجح فيه إلا تلك الفعلة الشنعاء وحدها، وأن علة نفعها أن
العفريت الذي يلابس المريض في هذا المرض يزعجه ما يكون في حفلة الزار،
من الذنوب والأوزار، حتى يلجئه إلى الفرار، بين تلك الأغاني والمعازف،
والعزائم والعزائف، والقرابين والذبائح، وما في التضمخ بدمها من الفضائح،
ويجوز على هذا المرأة أن تصدق هؤلاء المخبرين الضالين المضلين، ولا سيما
بعد اليأس من معالجة الأطباء المشهورين، وأن تعتقد أن ذلك لا ينافي
الإيمان؛ لأن طرد الشياطين من الأبدان، كطرد الجراد ونحوه من المزارع
والغيطان، فهو من الأسباب الكسبية، التي جرت بها السنن الإلهية، ويجوز
أيضًا أن تعلم أن عمل الزار حرام، وأن المستحل لما يعتقد حرمته يعد مرتدًّا
عن الإسلام، كالجاحد للمعلوم من الدين بالضرورة من مسائل الإجماع، ثم
تقول: إنني لا أستحله، ولكنني آخذ بقول من قال: إن التداوي بالمحرم جائز
إذا لم يوجد غيره.
فإذا جاز أن تعتقد المرأة ما ذكرنا، وإن كان باطلاً في نفسه فكيف تتجرأ
على الإفتاء بردتها، وبطلان عقد نكاحها، وسائر ما يترتب على الردة من
الأحكام؟
أما ما يحسن أن توعظ به امرأة تدرك ما ذكرنا فهو أن خرافة الزار القبيحة
المنكرة ليست سببًا من أسباب الشفاء من هذا المرض، وإن ما يُدعى من التجربة
المثبتة لنفعه باطل، وأنه عُمل لكثيرات فلم يفد، وأن من اتفق أنهن شُفين
بعده لم يكن شفاؤهن به بل بأسباب أخرى حقيقية أو وهمية، وأنه لو
كان علاجًا نافعًا بالتجربة الصحيحة لعملت به جميع الشعوب التي فاقت غيرها
في العلوم والمعارف، المبنية على إتقان التجارب، ولكننا نرى هؤلاء
يسخرون من هذه الخرافة وأهلها، التي هي محصورة في مصر والسودان بل
في الطبقة الجاهلة من أهلهما، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تقدم العمل بخرافة
أدنى ما يقال فيها: إنها مشتملة على عدة بدع محرمة في الدين، محتقرة عند
جميع المرتقين.