للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(١٥)

المعالجة- يجب البدء بعلاج مدخل هذا الميكروب في الجسم، بأن يعالج
الإحليل في الذكر مثلاً علاجًا فعالاً، وتعالج المفاصل بالقلويات وبيودور البوتاسيوم.
وينبغي مراعاة القوانين الصحية باستنشاق الأهوية الجيدة وتعاطي الأغذية السهلة
الهضم والمقويات كمركبات الحديد وزيت السمك ونحوهما، ويدلك المفصل ببعض
المراهم المسكنة أو الزئبقية، أو يدهن بصبغة اليود. وتجب إراحته من الحركة
مطلقًا، ولكن بعد زوال الالتهاب الحاد ينبغي دلك المفصل وتكبيسه وتليينه باليد.
والعلاج باللقاح أفاد في بعض الأحوال خصوصًا في الإصابات المزمنة أي
التي طالت مدتها، والأفضل أن يؤخذ الميكروب من نفس المريض، ولكن هذا
العلاج يحتاج إلى مدة طويلة.
ويجب البدء بحقن مقادير صغيرة من اللقاح ثم تُزاد بالتدريج، ولا يجوز
الحقن الثاني إلا بعد تمام زوال كافة الأعراض التي قد تنشأ من الحقن الأول.
وهناك مصل لعلاج هذا الداء أيضًا لا يخلو من الفائدة.
***
استدراكان
(الأول) جاء في مجلة [اللانست Lancet] الطبية الإنكليزية الصادرة في
١٢ أغسطس سنة ١٩١٦ رأي لأحد أطباء الإنكليز في عدوى الالتهاب السحائي
الوبائي، وملخصه: أن ميكروب هذا الداء هو عين ميكروب السَّيَلان- لا شبيهًا به
فقط كما قلنا سابقًا- وأن قمل الجسم هو الذي ينقله من شخص إلى آخر إما
بامتصاص دم المصاب بالالتهاب السحائي وتلقيح الآخرين به إذا انتقل القمل إليهم.
أو بتلوث القمل به مما يسيل من المصاب بالسيلان في ملابسه من الصديد ونقله إلى
غيره فيدخل الميكروب تحت الجلد ويسير في الأوعية اللمفاوية إلى السحايا وغيرها
كالمفاصل التي قد تلتهب أيضًا في هذا المرض، وأنكر هذا الطبيب انتقال
الميكروب في الهواء ودخوله من الفم والأنف.
وقال: إن المصاب بالسيلان ذاته عنده شيء من المناعة فلا تصاب سحاياه
إلا قليلاً. فإذا صح هذا الرأي- والغالب أنه صحيح- سهلت مقاومة هذا الداء
الخبيث وتيسر اجتنابه. ومن هذا الرأي تفهم بعض حكم الاستنجاء وطهارة الثوب
ونظافته، ونظافة الجسم بالغسل والحلق، وغير ذلك من شرائع الديانة
الإسلامية الغرَّاء التي شرحناها سابقًا. وترى مما تقدم أن القمل يقتل بالحمى
التيفوسية والراجعة وبالالتهاب السحائي أكثر مما تقتل العقارب والثعابين. وذلك
يحقق أيضًا المثل العامي القائل: (وضع -تعالى- سره في أضعف خلقه) وترى
منه أيضًا مقدار الخطر الذي يتهدد كل من يتردد إلى مواخير الفسق، فإن أكثر
الزواني مصابات بالسيلان الحاد أو المزمن، وبعضهن يُرى بملابسه وفراشه القمل.
(الثاني) إن من أسهل الطرق لتطهير الماء والخضر ونحوها من
الميركوبات أن يذاب في الماء [بي سلفات الصوديوم] وتسمى أيضًا [كبريتات
الصوديوم الحمضية] بنسبة ٢: ١٠٠٠ ويترك الماء مدة نصف ساعة، فإن حامض
الكبريتيك الذي يوجد فيه يقتل تلك الأحياء الدنيئة وأجنة ديدان [البهارسية
Mieracidia Cercariae] ولا ضرر من شرب هذا الماء...... وإذا نقعت
فيه الخضر مدة نصف وساعة تطهرت كذلك. ويجوز أن تطهر به الأواني الخزفية
والزجاجية ونحوها ما عدا المعدنية فإن الأفضل تطهيرها بالغلي. وهذه الطريقة
نافعة جدًّا إذا اتبعت في زمن انتشار أوبئة الحمى التيفودية والكوليرا والدوسنطاريا
وغيرها مما يتلوث به الماء والخضر، فإنها كافية للتطهير بدل الغلي الذي لا يحسن
لبعض الخضر والفاكهة.
***
تسمم الدم
لهذا الداء ثلاثة أشكال:
(الشكل الأول) : أن تدور سموم الميكروبات في الدم، ويسمى ذلك
باليونانية [سيريميا Sapraemia] ومعناها حرفيًّا: الدم الفاسد.
(الشكل الثاني) : أن تدور الميكروبات مع سمومها في الدم، ويسمى ذلك
باليونانية [سبتيسيميا Sepaticaemia] ومعناها حرفيًّا: الدم المتعفن.
(الشكل الثالث) : مثل الشكل الثاني غير أنه يزيد عليه بتكون أخرجة في
عدة أجزاء من الجسم، ويسمى ذلك باليونانية [بيميا Pyaemia] ومعناها حرفيًّا:
الدم الصديدي.
وجميع هذه الأشكال تنشأ من ميكروبات الصديد وهي على الأكثر من الشكل
البزري، ومنها ما يكون عنقوديًّا أو سلسليًّا. والسلسلية هذه أشدها خطرًا كما سبق
ومن الميكروبات العنقودية ما يكون لونه أبيض أو أصفر، ويشاهد ذلك إذا
تجمعت منها جموع كثيرة في المزارع الصناعية. وهناك بعض ميكروبات لها
أشكال أخرى تحدث الصديد كباسل الصديد الأزرق [Pyocyaneus] ومن
ميكروبات الأمراض الأخرى ما يحدث الصديد أيضًا كميكروب الحمى التيفودية
والدرن.
والميكروبات البزرية المذكورة منتشرة كثيرًا وهي من أكبر ما يخشاه
الجراحون في عملياتهم فيتقونها بالتطهير التام بالغلي وغيره، فإنها إذا وجدت أي
سحج أو جرح في الجلد أو الأغشية المخاطية دخلت فيه وأحدثت التهابًا فتقيحًا،
وتذوب الأنسجة ويتجمع بسببها عدد لا يحصى من الكريات البيضاء فينشأ من ذلك
المدة والصديد ونحوهما. فإذا أصابت سطح الجلد نشأت منها الدمامل والبثور
ونحوها، وإذا أصابت الأنسجة الغائرة نشأت الأخرجة وما شاكلها، وإذا أصابت
الأغشية المخاطية التهبت وحدث منها الزكام ونحوه.
وإذا كانت الإصابة صغيرة ومحدودة ولم يدخل الميكروب إلى الدم قل حصول أي
توعك أو حمى؛ لأن السموم التي تمتص في البنية تكون حينئذ قليلةً جدًّا، ولكن إذا
كان موضع الالتهاب كبيرًا نشأت الحمى بسبب امتصاص سموم الميكروبات في
البنية، ونشأ الشكل الأول المذكور هنا، فإذا دخلت هذه الميكروبات إلى الدورة حدث
الشكل الثاني، وقد تدخل من أي جرح مهما يكن صغيرًا، وإذا رسب بعض هذه
الميكروبات الممتصة في أجزاء الجسم المختلفة تكونت حولها وبفعلها أخرجة. وهذا
هو الشكل الثالث. وطريق امتصاص الميكروب في الشكل الثاني هو الأوعية
اللمفاوية وفي الثالث الأوردة، وفيها يدخل أيضًا بعض مواد التهابية عفنة مع
الميكروب.
أما أعراض الشكل الأول فهي ارتفاع حرارة الجسم مع سائر الأعراض
الأخرى للحمى، وكذلك أعراض الشكل الثاني والثالث، غير أن المعتاد فيهما أن
تبتدئ الحمى برعدة شديدة ويشتد المرض على المريض حتى يكون كالمصاب
بالتيفوس، فيعتريه الهذيان والذهول والهمود وكافة الأعراض الشديدة لتلك الحمى،
وتكون مدة المرض في هذين الشكلين قصيرة وتنتهي بالموت غالبًا. وفي التسمم
الصديدي تكثر الرعدة وتحصل يوميًّا مرة أو مرتين، وفي كل مرة تظهر التهابات
فأخرجة جديدة ويكثر العرق عقب كل رعدة ويصاب المريض بالهمود وينحف
جسمه بسرعة ويصفر لونه وقد يصاب بالقيء الكثير أو الإسهال، وقد تزول
الرعدة بعد خمسة أيام أو ستة. وتكون الحمى في هذا الشكل متقطعة مرتفعة في
المساء ومنخفضة في الصباح عادة، وقد تصل إلى الدرجة الطبيعية خصوصًا في
أول المرض. وتختلف باقي الأعراض لاختلاف العضو المصاب بالأخرجة، فإن
لكل عضو مصاب بها علامات وأعراضًا مخصوصة. ومدة هذا المرض لا تزيد
عن ستة أيام غالبًا ولا تمتد إلى ما بعد العاشر كذلك، اللهم إلا إذا أزمن المرض
وحينئذ لا تصاب الأحشاء، وإنما تتكون الأخرجة في المفاصل أو تحت الجلد. وإذا
شُقَّت كلها وعولجت قد يشفى المريض بعد عدة أسابيع أو أشهر.
ومما يساعد على حدوث تلك الأشكال المذكورة عدم الاعتدال وغيره مما
يضعف البنية كبعض الأمراض المزمنة مثل التهاب الكلى أو البول السكري، ولكن
لا يحصل أي شكل منها ما لم يوجد في الجسم مدخل للميكروب.
العلاج - تفتتح الأخرجة وتتطهر وتمض يوميًّا فإن كانت الحمى ناشئة عن
امتصاص السموم فقد شفي الجرح وشفي المريض أيضًا، وإن كانت الميكروبات
دائرة في الجسم تعثر الشفاء أو تعذر، ويعطى المريض المنعشات والمغذيات
وتراعى معه جميع الوسائل الصحية.
أما الأدوية فهي قليلة الجدوى، ولكن استعمال الحقن بالمصل المتعدد القوى
[Polyvalent] أي المُحضَّر بحقن عدة أنواع من الميكروب أفاد في كثير من
الأحوال، وتجب تجربته إذا دخل الميكروبات البنية سواء أحدثت أخرجة أم لم
تحدث.
الوقاية - من تسمم الدم بجميع أنواعه- أن يتقي الإنسان كل ما يحدث جرحًا
أو سحجًا في الجسم وإن كان صغيرًا. فإذا حدث بالرغم من احتياط الإنسان وجبت
المبادرة إلى تطهير الجرح وتضميده والمواظبة على ذلك يوميًّا حتى يشفى.
ويراعى في ذلك اتباع جميع قوانين علم الجراحة في تطهير الأيدي والآلات
والضمادات وغيرها مما يمس الجرح. وإذا تكون خراج في الجسم وجب الإسراع
إلى شقه وتطهير جوفه وتصريف ما يتكون فيه من المدة والصديد بأسرع ما يمكن
بحيث لا يتراكم فيه شيء منها خوفًا من امتصاص الميكروب أو سمه في البنية.
ولعلم الجراحة في ذلك من الوسائل العلمية المعقولة ما فيه الكفاية من شر هذا الداء
وقانا الله منه.
***
السعال الديكي
Whooping Cough
مرض يصيب الأطفال كثيرًا بين السنة الأولى والثامنة، وحدوثه للبنات أكثر
منه للذكور. وتقل إصابته لمن كان عمره فوق ذلك؛ لأن أكثر الناس يصابون به
في صغرهم وهو يحميهم من الإصابة به مرة أخرى بل هو في ذلك أكثر وقاية من
الحميات الأخرى ذوات الطفح. ويحدث انتشاره بشكل أوبئة لا تأثير لحرارة الجو
أو غيرها فيها، وكثيرًا ما تكون هذه الأوبئة عقب أوبئة الحصبة.
هذا المرض ينتقل من شخص إلى آخر بطريق العدوى، فإذا كثر اختلاط
الأطفال بالمصابين به انتشر المرض بينهم، وقد يتنقل بواسطة الملابس الملوثة
بميكروب هذا الداء إذا أصابها شيء من بصاق المصاب.
وكان القدماء يعتقدون عدوى هذا الداء نظرًا لما يشاهدونه من انتشاره بين من
يخالط المصاب، ولكن لم يكتشف ميكروبه إلا سنة ١٩٠٦ والذي اكتشفه باحثان
اسمهما [بورديه Bordet] و [جنجو Gengou] .
وهذا الميكروب من الشكل الباسيلي يشبه كثيرًا ميكروب النزلة الوافدة غير
أنه أطول منها وأغلظ منها، ولا حبيبات له ولا حركة. يشاهد كثيرًا في أوائل
المرض في المخاط الثخين الخارج في آخر النوبة من الشُعب الرئوية الصغيرة،
وكثيرًا ما يكون مختلطًا بميكروب النزلة الوافدة.
الأعراض: - مدة التفريخ نحو عشرة أيام، ويبدأ المرض بإصابات بسيطة
بالسعال تشبه السعال الناشئ من التعرض للبرد. وقد يكون هذا السعال مصحوبًا
بحمى خفيفة ويستمر إلى نحو سبعة أيام أو عشرة. ثم يُسمع هذا الصياح
المخصوص الذي يشبه صياح الديك، ولذلك شبه هذا المرض به، فبينما يكون
الطفل المصاب في لعبه تنتابه نوبة من السعال تمتاز بحصول نحو ١٥ أو ٢٠ مرة
من الشهيق المتوالي في زمن ٧ أو ١٠ ثواني ثم يعقبها زفير له هذا الصوت
المخصوص، ويتكرر ذلك مرة أو أكثر حتى يخرج من صدر المصاب قطعة
صغيرة من البلغم اللزج أو يتقايأ ما في جوفه. والسبب في حصول هذا الصوت
اقتراب الحبلين الصوتيين أحدهما من الآخر فيضيق ما بينهما، أو أنهما لا يتسعان
بالسرعة المطلوبة حين حصول الزفير. وفي أثناء هذه النوبة يحتقن الوجه أو
يزرق وينتفخ وتكاد تخرج العينان منه، ويتدلى اللسان، وقد تخرج الثنايا قيده
فيبصق المريض الدم. ويكون الطفل في أثناء ذلك غير قادر مطلقًا على منع هذا
السعال، وقد يصاب من شدته بنزف من الأنف (الرعاف) أو من فمه أو يحصل
النزف تحت الملتحمة؛ وفي أحوال نادرة يصاب بنزف في مخه، وهذه النوب
تحصل بلا سبب معروف وإنما قد يهيجها بكاء الطفل أو إغضابه أو نزع ملابسه.
ويقال: إن النوب أكثر في الليل منها في النهار. وعدد مراتها في الليل يتراوح
بين مرة واحدة وستين مرة. وفي أكثر الأحوال لا تزيد عن ثلاثين في كل ٢٤
ساعة. ويكون الطفل في الفترات التي بين النوب كأنه في صحة تامة ولا حمى
عنده ما لم يتضاعف المرض، وقد تكون شهوة الطعام عنده جيدة. ومدة هذا الطور
من الداء تمتد إلى ثلاثة أسابيع أو ستة بل قد تطول إلى ثلاثة أشهر أو أكثر، ثم
تأخذ النوب في القلة تدريجيًّا حتى تزول تمامًا أو يعقبها سعال بسيط كالسعال الأول
بدون صياح ويمكث بضعة أسابيع. وهذا المرض قل أن يميت ما لم يشتد تشنج
المزمار أو يحصل نزف في المخ. وقد يحصل الموت بسبب مضاعفات هذا الداء.
المضاعفات والعقابيل (العواقب) - من مضاعفات هذا الداء النزلة الشعبية
أو الشعبية الرئوية فترتفع الحمى ويضيق نفس المريض كثيرًا، وفي كثير من
الأحوال يزول حينئذ هذا الصياح المخصوص كما أنه يزول في كافة المضاعفات
الحمية الأخرى. ومنها التهاب الأذن والتشنجات. ومن العقابيل استمرار النزلة
الشعبية والأمفيزيما [١] الرئوية (أي تمدد حويصلاتها وفقدانها مرونتها وانفتاح
بعضها في البعض الآخر) والدرن الرئوي وهو قليل الحصول في هذا المرض.
الإنذار- هذا المرض قد يطول جدًّا ولكنه في الغالب يُشفى منه المريض ومن
النادر أن يموت به الشخص غير أن الموت قد يحدث بسبب بعض المضاعفات أو
العقابيل المذكورة.
المعالجة- يسكن المصاب في غرفة دافئة متجددة الهواء، ولا يجب عليه
التزام الفراش ما لم يتضاعف المرض. وهناك أدوية كثيرة لتقصير مدة المرض
وتخفيف وطأته، ومن أحسنها [البلادونا [٢] Belladonna] فيعطى من صبغتها
نقطتان أو ثلاثة ثلاث مرات في اليوم للطفل الذي يبلغ عمره سنتان ولمن هو أكبر
نقطًا أكثر بحسب السن، وهناك مواد تستعمل أيضًا استنشاقًا لتطهير الشعب؛
ولكنها قليلة الفائدة، ومن أحسن العلاجات تغيير الهواء والسكنى بجوار البحار فإن
ذلك مما يقصر مدة المرض.
***
الالتهاب الرئوي
Pneumonia
هذا المرض نوعان: (١) نوع يصيب حويصلات الرئة يسمى الالتهاب
الفصيصي (٢) ونوع يصيب جزءًا عظيمًا منها ويسمى الالتهاب الفصي،
ويختلف النوعان اختلافًا كبيرًا من الوجهة الميكروبية والمجهرية والعرضية.
أما النوع الأول فقد يكون ابتدائيًّا أو تابعيًّا لمرض آخر، وهو كثير الإصابة
للأطفال والشيوخ، وليس له ميكروب مخصوص بل يوجد فيه أنواع عديدة،
منها: ميكروبات الصديد المعتادة، أو ميكروبات المرض الذي سبب هذا الالتهاب
الرئوي كالدفتيريا أو الحمى التيفودية أو الأنفليونزا أو الطاعون.
وأما النوع الثاني وهو كثير الحصول للشاب، وقد يصيب أيًّا كان غيرهم،
وهذا المرض يشبه كثيرًا الحميات الأخرى العفنة كالحمى التيفوسية وينتهي مثلها
بالبحران. وينشأ غالبًا من ميكروب من النوع البزري المزدوج اكتشف في معمل
باستور في ديسمبر سنة ١٨٨٠ وهذا المرض هو المقصود بالكلام هنا، ومنه نوع
خطر ينشأ من باسيل اكتشفه [فردلندر Friedlander] سنة ١٨٨٠ ولكنه قليل
الحصول فإن ٩٥% من الإصابات بهذا الداء تنشأ من الميكروب الأول البزري.
الأسباب- يحدث هذا المرض للذكور أكثر من الإناث بنحو الضعف،
ويصيب الناس في جميع الأعمار من سن الطفولية إلى سن الشيخوخة، ولكنه أكثر
حصولاً للشبان إلى أن يصلوا إلى متوسط العمر (من ٣٥ - ٥٠) ينتشر هذا
المرض في فصلي الشتاء والربيع حينما يكثر تغير درجة حرارة الجو فجأة،
وحينما يكون الهواء مشبعًا بالرطوبة أو البرد.
ومما يساعد على حصوله كثرة التعرض لتيار الهواء وضعف البنية وإجهاد
العقل وقلة التغذية، والانهماك في السُّكْر أو الجِماع.
وهذه الأشياء تجعل المصاب به ضعيف المقاومة جدًّا بحيث يكون شفاؤه
متعسرًا، والوفاة به كثيرة الحصول. والإصابة به لا تحمي من معاودته، فقد
شُوهد أن بعض الأشخاص أصيب به نحو ١٥ أو ٢٠ مرة، ولكن في الغالب أن لا
يصاب به الشخص سوى مرتين.
يوجد ميكروب هذا الداء حتى في لعاب السليم وفي حفر أنفه، فإذا ضعفت
البنية بمثل الأسباب المذكورة هاجمها الميكروب وأحدث بها المرض. وقد يتصل
بالإنسان أيضًا من شخص آخر مصاب بالالتهاب الرئوي ويكون حينئذ أقوى وأضر
وهذا الميكروب يحدث التهابات في أعضاء الإنسان الأخرى مثل البليورا والشغاف
والمفاصل والسحايا، وقد يحدث أخرِجة بالأحشاء وتحت الجلد.
ولم يجزم العلماء إلى الآن إن كان وصول الميكروب إلى الرئة من طريق
الشعب أو من طريق الدم، فقد شوهد وجوده في نفس الدم، فإذا ضعف عضو
بسبب ما رسب الميكروب من الدم فيه. وهو يصيب عدة حيوانات كالفئران
والأرانب والكلاب. أما الحمام والدجاج فلا يصيبها بشيء. وطوله يتراوح بين ٥. .
من الميكرون و٧٥. ٠ منه. ويظهر تحت المجهر كأنه محاط بغلاف أو هالة
صافية اللون يكون فيها عادة بزرتان أو أربع.
الأعراض- يبتدئ المرض فجأة برعدة شديدة، وترتفع الحمى بسرعة زائدة
إلى ٣٩ أو ٤٠ مع كافة أعراضها الأخرى المعروفة وأحيانًا (تشاهد النملة على
الشفتين) ثم يشعر المريض بضيق في نفسه، وآلام في الجنب المصاب، ثم يكثر
السعال، ويكون بصاقه صديئًا- كأن به صدأ من الحديد لاحمرار لونه- ويكون
شفافًا خاليًا من فقاقيع الهواء لزجًا بحيث يشتد التصاقه بالأواني ويشاهد في هذا
البصاق الميكروب.
وللأطباء علامات خاصة لتشخيص هذا الداء تدرك بالقرع والسمع وغيرها
من طرق البحث الشهيرة.
وتستمر الحرارة عالية مدة المرض كلها، ويكون خد المريض وجبهته محتقنة
يعلوها قليل من الصفرة أحيانًا، ويكون تنفسه سريعًا جدًّا حتى قد تصل مراته إلى
٨٠ في الدقيقة، ويسرع نبضه ويقل بوله، وقل أن يعتريه الهذيان بخلاف الحميات
الأخرى، إلا في بعض الحالات الشديدة فقد يهذي ليلاً، وبعد اليوم السادس أو
الثامن تنخفض الحرارة فجأة في مدة ١٢ أو ١٨ ساعة، بحيث تصير طبيعية،
ويبتل اللسان بعد الجفاف ويحس المريض بالتحسن العام، ولكن هذا البحران قد
يصحبه إسهال أو عرق كثير وفي أكثر من نصف الإصابات تنخفض الحرارة
بالتدريج، فتصير طبيعية بعد ٤ أيام أو ٥، وفي كلتا الحالتين يتحسن النبض
والتنفس حين انخفاض الحرارة، وتزول العلامات الطبيعية التي يعرف بها المرض
من الصدر، ويزول لون البصاق الأحمر فيصير مصفرًّا أو مخضرًّا، ويكون به
صديد وتقل لزوجته، ثم يصير بالتدريج طبيعيًّا.
والموت يحصل غالبًا من وقوف القلب، أو من إصابة الرئة الأخرى السليمة
فيسرع التنفس والنبض، ويزرق الوجه، ويكثر الهذيان ويعقبه الغيبوبة فالموت،
ويكون الموت عادة بين اليوم الخامس والعاشر، ومن المرضى من يموت في اليوم
الثاني أو الثالث.
والالتهاب الرئوي يصيب قاعدة الرئة أكثر من قمتها، والجهة اليمنى أكثر من
الجهة اليسرى، وقد يصيب الرئتين معًا، ولكنه يعجل بإحداهما قليلاًعن الأخرى.
وإذا أصاب الرئة احتقنت بالدم، وثقل وزنها، واحمر لونها، وصار قوامها
هشًّا بعد الوفاة، وامتلأت حويصلاتها بكريات الدم الحمراء والبيضاء وغير ذلك من
مواد الدم بحيث تكون خالية من الهواء، ثم تمتص الكريات الحمراء، وتزدحم
الحويصلات البيضاء فيتغير لون الرئة من الحمرة إلى اللون السنجابي، وفي كلتا
الحالتين يكون قوام الرئة كمنسوج الكبد حتى سماه الأطباء (بالتكبد) .
المضاعفات- جميع المضاعفات تنشأ على الأكثر من انتشار ميكروب
الالتهاب الرئوي في الأعضاء الأخرى فقد تلتهب البلورا، وقد ينسكب في تجويفها
مصل أو صديد. ومن المضاعفات أيضًا التهاب الشغاف أو العصاب أو الكليتين أو
البريتون أو السحايا أو المفاصل وغير ذلك.
الإنذار- عدد الفويات في هذا المرض نحو ١٧% من الإصابات. والمرض
خطر جدًّا لغير المعتدلين ولضعفاء البنية. ومما ينذر بسوء العاقبة الهذيان الشديد أو
الذي يحصل في أوائل المرض، وضعف النبض والزرقة والتهاب الرئة كلها أو
امتداده إلى الرئة الأخرى.
المعالجة- يجب على المريض أن يلتزم الفراش في الحال. وفي وقت شدة
المرض يبقى معتمدًا بظهره على شيء بحيث يكون رأسه مرتفعًا على الفراش قليلاً.
ويجب أن تكون الغرفة متجددة الهواء نقيةً، والغذاء من السوائل السهلة
الهضم المغذية كاللبن والمرق ونحوها، تعطى بمقادير صغيرة متكررة. وينبغي أن
تطلق الأمعاء بالمسهلات، وتعطى للمريض المواد المعرقة مع قليل من المسكنات
لتخفيف ألم الجنب والسعال. ومما يخففه أيضًا اللبخ الساخنة على الجنب الملتهب
أو ورق الخردل الصناعي، ومن الناس من يضع على الرئة الملتهبة أكياسًا فيها
ثلج لتخفيف الألم وخفض الحرارة، وهذا العلاج المذكور كافٍ في الحالات البسيطة
فإذا اشتدت وطأة المرض وضعف القلب وكثر الهذيان وجب إعطاء المريض
المنعشات كالإستركنين والديجينالا والنوشادر أو قليلاً من الخمر (مثل ٣ أو ٤ أواق
في اليوم) . وكلوريد الكلسيوم (١٠ قمحات كل ٤ ساعات) يقال عنه: إنه مقو
للقلب فإن أكثر الخوف هو من وقوفه.
فإذا ازرق المريض وضاق نفَسه وخيف عليه من الاختناق أو من وقوف
القلب وجبت المبادرة إلى فصده أو على الأقل تركيب العلق على الصدر لسحب
جزء من الدم. ولا خوف من سحب ١٠ أو ١٢ أوقية من الدم إذا كان الشخص
قوي البنية ممتلئًا به. واستنشاق الأكسيجين نافع جدًّا في هذا المرض، وكذلك
كربونات النوشادر (٥ إلى ٧ قمحات كل ٣ أو ٤ ساعات) لإخراج المواد
المتراكمة في الشعب.
أما استعمال المصل أو اللقاح فلم تظهر له فائدة كبيرة.
فإذا جاوز المريض طور البحران وجبت مساعدته بالأدوية المقوية والأغذية
الجيدة.
((يتبع بمقال تالٍ))