للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المنشور الهاشمي الشريف الثاني

ذكرنا في الجزء الرابع من منار هذه السنة ملخص المنشور الأول الذي
خاطب به الشريف الأكبر صاحب مكة المكرمة مسلمي الأرض مبينًا لهم سبب
نهضة الحجازيين باستقلال العرب دون متغلبة الاتحاديين واليوم ننقل لهم نص
منشور آخر نشر في العدد الحادي عشر من جريدة القبلة الصادر في ٢١ ذي القعدة
سنة ١٣٥٤ لتعميم فائدته والعناية بحفظه؛ لأن أمثال هذه المنشورات من أهم مواد
تاريخنا في هذا العصر، وقد ضاق عنه الجزء الخامس الذي طبع الكثير منه قبل
عودتنا من الحجاز، وهذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية: ٢٩) لقد رأينا دفعًا للالتباس
ومنعًا لما عسى أن يحدث من التردد في حقيقة قيمنا ونهضتنا معاشر الحجازيين
الموضحة أسبابها في منشورنا الأول أن نردفه بهذه الأسطر ليكون منها لأفاضل
العالم عمومًا والمسلمين خصوصًا زيادة الاطلاع على نياتنا ومقاصدنا المتعلقة بكياننا
من حيث هو، ملتزمين فيها أقرب المواد عهدًا وأبسطها دلالة.
من المعلوم أن عقلاء المسلمين وذوي البصيرة من ساكني الممالك العثمانية
وسائر أقطار الدنيا غير راضين عن دخول الدولة العثمانية في الحرب الحاضرة
لأسباب جوهرية أجمعوا عليها، منها أن الدولة العثمانية قريبة عهد بالخروج من
الحرب الإيطالية أولاً والحرب البلقانية ثانيًا، وقد أصاب جيوشها وخزائنها وكل
مرافقها وعامة تشكيلاتها من الضعف والضياع والفناء ما لا يخفى تأثيره على ثروة
الدولة خاصة وثروة المملكة وأهلها عامةً، حتى كان الجندي لا يكاد يصل إلى
قريته أو إلى مكان عمله ليتحصل على ما يسد به رمقه ورمق أولاده وسائر أهل
بيته إلا ويكون قد دُعي إلى التجنيد مرة ثانية. وهكذا شأن الصانع والحمال
والمحتطب.
فالأمة التي أصيب أفرادها بمثل هذه الكوارث لا نرى حاجة إلى بيان
مصيرها ومصير دولتها إذا دفعت بنفسها في هوة حرب جديدة لا تشبه غيرها من
الحروب لا سيما وأن واردات الدولة من الضرائب [*] المفروضة على مساعي
الأفراد المنكودي الحظ بين تجارية وصناعية وزراعية.
هذا أحد أسباب التي حملت عقلاء المسلمين على استنكار دخول الدولة في
الحرب الحاضرة وهو سبب مبني على حقيقة الحالة الداخلية في كل بلاد السلطنة.
وهنالك أسباب خارجية تتعلق بالجهة التي انحازت الحكومة الاتحادية إلى
الحرب معها ضد الفريق الآخر من الدول المشتبكة في الحرب. فإن الدولة العثمانية
دولة إسلامية وبلادها مترامية الأطراف كثيرة السواحل فكانت السياسة التي سار
عليها سلاطين آل عثمان العِظام من قديم الزمان تحسين الصلات والعلاقات مع
الدول التي يسكن ممالكها القسم الأعظم من المسلمين والتي لا تزال صاحبة
الأرجحية في البحارة، فلما دخلت الحكومة الاتحادية في الحرب ضد هذه الدول
منحازة إلى فريق آخر كثير الطمع واسع الجشع لضيق بلاده عن ساكنيها تشاءم من
ذلك أهل النظر والرؤية من المسلمين لعلمهم بما يكون من نتائجه السيئة قبل
حدوثها.
ولقد كنت من جملة هؤلاء عندما سئلت تلغرافيًّا عن رأيي في هذه الحرب،
أجبت بما اقتضاه واجب النصح، وهذا مما أتخذه دليلاً على إخلاصي لهذه الدولة
وحرصي على سلامتها وصيانة بيضة الإسلام.
وها قد حصل ما كنا نخشاه، وانتهت الدولة إلى ما تخوفناه، وأصبحت حدود
المملكة العثمانية اليوم في أوربا أسوار الآستانة تقريبا. وأن طلائع جيوش الروس
تخطف الأهالي العثمانيين في ضواحي ولايتي سيواس والموصل، وطلائع
الإنكليز تسوق ألوف الأسرى من أبناء هذه المملكة في بادية العريش بعد أن استولت
على ولاية البصرة وشطر من ولاية بغداد، ولا شك في أن من تأمل هذه الحالة
ورأى أن الحرب لا تزال قائمة على ساق وقدم لا يحتاج إلى كبير عناء في استجلاء
النتيجة التي لا تخرج عن أحد أمرين فإما أن نستسلم إلى هذا الخطر الداهم حتى
نزول من خريطة العالم أو أن نسعى للخلاص منه، إننا نترك للعالم بأسره التأمل
في هذا الجواب عليه، وليس عندنا أقل ريبة في أنهم يعذروننا في نهوضنا الذي جاء
في وقته قبل أن تحيط المهالك بالبقية الباقية من هذا الملك فتأخذنا على غِرة. بل
إننا لا نتردد في مشروعية نهوضنا ووجوبه علينا. ............. ولو كنا نعلم بأن بقاءنا مرتبطين بهذه الدولة التي أصبحت ألعوبة في أيدي المتغلبين مما ينفعها
ويحفظ لها أملاكها لما تحركنا بشيء مما قمنا به، وصبرنا وتحملنا كل ما
يحملوننا إياه. ولكن أنى لنا ذلك وقد صار من المقطوع به أننا لو استسلمنا لما هم
سائرون بنا إليه لأدى ذلك بنا وبهم إلى هوة الاضمحلال التي تسقط فيها الولايات
الأخرى على مرأًى منا ومسمع.
نعم: إننا نقول هذا ونترك الحكم فيه إلى إنصاف العالم أجمع، ولكننا لا
نستطيع السكوت عن المجاهرة بأن السبب الوحيد لمحو هذه الدولة وإبادة من بقي
لها من الرعية وهم سكان الأناضول وغيرهم، إنما هو استرسال المتغلبة من
زعماء الاتحاديين وهم أنور وجمال وطلعت وأشياعهم، وخروج الدولة عن
خطتها السياسية الأساسية التي وضعها عظماء سواس العثمانيين، وهي خطة
موالاة الدولتين المعظمتين بريطانيا وفرنسا التي لا ينكر فوائدها إلا من ينكر
التاريخ، ويكفي لمعرفة أخلاق زعماء الاتحاديين ومقدار صدقهم ووفائهم أنه لم
يمض غير زمن يسير على عقد القرض الذي ساعدتهم به فرنسا وهم في أشد الحاجة
إليه حتى انضموا إلى أعدائها وأعلنوا الحرب عليها، وإننا لا نستدل على ما
ذكرناه من أخلاقهم بهذا العمل دون سواه إلا لشهرته المستفيضة بين عموم الناس
وقرب عهدنا به، أضف إلى ذلك ما يلقاه الأهالي العثمانيون لا فرق بين مسلمهم
وذميهم من ضروب العسف والجور اللذين يحجب ركامهما ضياء الشمس، لا سيما
ما ارتكبه القابضون على أزمة الحكومة من هؤلاء المتغلبة وأشياعهم أثناء هذه
الحرب من ظلم أهل ذمتنا من الروم والأرمن خلافًا لما جاءت به شريعتنا المطهرة،
ثم نهجوا هذا المنهج في أبناء العرب بالشام والعراق وغيرهم مما هو معلوم إلى
يومنا هذا كإيقاعهم بأهالي العوالي التي هي إحدى ضواحي المدينة المنورة من سبي
مخدرات العرب وسوقهن إلى الثكنات العسكرية بما تأباه الشريعة الإسلامية والشهامة
العربية.
نعم: إننا قمنا ولا يزال قيامنا ومجاهرتنا بالعداوة والبغضاء مقصودًا بهما
أنور وجمال وطلعت وشيعتهم. وإنه ليشاركنا في ذلك كل مسلم عاقل حتى أفراد
البيت العثماني، ودليلنا مع مشاركة هذا البيت الجليل اغتيال المتغلبة لعميده الشهيد
السعيد ولي عهد السلطنة المغفور له المرحوم يوسف عز الدين. وإننا نتبرأ منهم
ونظهر لهم العداوة والبغضاء، ويشترك معنا فيها كل بر وتقي من مسلمي البلاد
العثمانية وسائر البلاد الإسلامية، بسبب ما أتوه من الوبال، وما جروه على دولة
الإسلام من الاضمحلال، حتى جعلوها ضحيَّة لأغراضهم وغاياتهم النفسية، نبرأ
إلى الله منهم ونعلم أنها كلمة حق عليها نحيا وعليها نموت. وكيف لا نقول هذا
وأمامنا من عبر الدهر ما نسرده على إخواننا المسلمين ليعلموه ويعوه؟
فإن جمال باشا المتحكم في الشام وأهلها قد أمر سكان ذلك القطر الإسلامي بأن
يؤلفوا من مخدِّرات نسائهم جمعية نسائية، ثم أوعز إلى هذه الجمعية أن تأدب له
مأدبة في ناديها. وقد تم ذلك بالفعل وحضرها هو ورجال العسكرية والملكية ومن
دعاهم من سائر رجاله وأعوانه، وكان النسوة المسلمات أعضاء هذه الجمعية
يباشرن إكرام ضيوفهن. وعند ختام الحفلة شرعن في إلقاء الخطب والأناشيد بين
تلك الجماهير من الرجال كما نشرت ذلك صحف سوريا على اختلاف مشاربها
مظهرة الإعجاب والفخر إرضاء لجمال باشا. فسبحان الله -تعالى- الذي يقول في
محكم كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: ٥٩) [١] وقوله
تعالى [٢] : {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (النور: ٣١) إلخ [**] .
من هذا يعلم صراحة مراد هؤلاء المتغلبين ومقاصدهم بالشريعة الإسلامية
والعادات العربية، وفيه عبرة وذكرى لإخواننا مسلمي البلاد العثمانية وسائر إخواننا
في أقطار الدنيا ليتعظوا بذلك ولا يكون سببا لاسترسال هؤلاء الطغاة في انتهاك
حرمات الله والجرأة على مخالفة أوامره لجاهٍ يستفيدونه، أو راتب يستزيدونه، فإنه
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن كان قد وهبه الله -تعالى- قوة على
تغيير المنكر بيده أو لسانه أو قلبه فليفعل، ومن كان لديه ما يدافع به عن جرأة
هؤلاء القوم المتغلبين فليأتنا به فإننا إن شاء الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: ٢٤) [٣] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها
... ... ... ... ... تحريرًا في ١١ ذي القعدة الحرام ١٣٣٤
(المنار)
ملخص هذا المنشور أن زعماء الاتحاديين عرَّضوا الدولة للهلاك
بالحرب والظلم والبغي والعدوان وعبثوا بدين الإسلام، وظلموا المسلمين والذميين،
وأن مسلمي الترك وفي مقدمتهم بيت السلطنة يعلمون ذلك كالعرب ولكنهم غُلبوا
على أمرهم، وأن بقاء البلاد الحجازية خاضعة لهم يضرها ويضر أهلها ويوقعهم
في الخطر من حيث لا ينفع الدولة ولا يغني عنها شيئًا، وإن الواجب في هذا المقام
العمل بما أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله المروي في مسند أحمد
وصحيح مسلم والسنن الأربع: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فان لم يستطع
فبلسانه ... ) إلخ، وبذلك عمل صاحب المنشور هو ومن معه من أهل الحجاز فهم في
مقدمة أهل الحل والعقد في الأمة ولو لم يكن معه غير أسرته الهاشمية وعصبتهم
وأتباعهم من العرب لكفى بهم أهل حل وعقد في مهد الإسلام وأفضل بلاد الأرض،
ويليهم في هذه الصفة سائر الأمراء والزعماء في جزيرة العرب، ولم يبق في ديار
الإسلام زعماء أحرار غيرهم؛ لأن سائر علماء المسلمين وكبراءهم في الآستانة
وغيرها تحت قهر سلطة عسكرية زمامها بأيدي ملاحدة الاتحاديين ونصارى الألمان
ولما كان شريف مكة ومن شايعه من العرب قادرين على النهوض لمقاومة
منكرات الاتحاديين قاموا بالواجب الإيماني عليهم. وقد صرح في هذا المنشور بأنه
إذا ظهر له خطؤه في اجتهاده هذا يرجع عنه. وكفى بذلك حجة على جميع
المسلمين.
((يتبع بمقال تالٍ))