للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحركة الطورانية الجديدة
في بلاد تركيا [*]
ننقل هذه المقالة عن العدد ١٨ والعدد ١٩ من جريدة القبلة الغرّاء مع تصحيح
بعض الألفاظ:
قرأنا في جريدة (نبر إست) الإنكليزية الصادرة في أول ذي القعدة مقالاً
خطيرًا (؟) تحت عنوان الحركة الطورانية الجديدة فترجمناها (؟) إلى لغتنا
العربية الشريفة ونشرناها على صفحات القبلة، لعل فيها عِبرة ومُزْدَجرًا فإن أسرار
الاتحاديين، والحمد لله قد ذاعت وشاعت حتى أصبحت حديث الشرق والغرب.
وإن وراءها لأشد منه أو أفظع، وأدهى وأمرّ، وسيعلم النازحون عن المملكة
العثمانية من حقائق الاتحاديين الطورانيين ما علمه العرب العثمانيون قبل ذلك
بأعوام فاستعدوا للدفاع عن كيانهم وعن دينهم، وبعضهم سادرون في غفلاتهم
هائمون في أودية الأوهام والأضاليل، وإليك ترجمة المقال المذكور:
ظهرت في تركيا حركة جديدة عرفها القوم باسم (بني طوران) أعني
طوران الجديدة، وقد نبتت في الآستانة سنة ١٣٣١ ثم أخذت تنتشر في أجزاء
كثيرة من السلطنة، وقد امتازت هذه الحركة بكونها مقصورة على فئة
مخصوصة غايتها توحيد القومية التركية بالعنصرية الجنسية دون الروابط الدينية
الإسلامية. وإليك بيان الغايات التي ترمي إليها في مساعيها وأعمالها:
أولها: أن تجعل الأتراك أمة قائمة بذاتها مستقلة عن الدين الإسلامي تمام
الاستقلال حتى يتهيأ لها أن تربي فيهم ذلك الشعور القومي الذي ذكره الدكتور ألفرد
نونج في مقالة نشرها تحت توقيعه في جريدة (أندرنوخ) الألمانية على إثر حديث
دار بينه وبين زعماء الاتحاديين [١] .
ثانيها: ترقية الروح العسكري التركي فقط [٢] .
ثالثها: إنشاء العلاقات التجارية وغيرها من الصلات بين مسلمي بلاد العجم
الشمالية (آذربيجان) وبلاد روسيا في آسيا والأجزاء الجنوبية منها.
رابعها: تطهير اللغة التركية من الألفاظ العربية والفارسية ومن آداب هاتين
اللغتين.
ولهذه الجمعية التركية مَطمع آخر ترمي إليه وإن لم تجهر به رسميًّا وهو
تتريك العرب وإدغامهم في الترك حتى لا تبقى لهم قومية قائمة بذاتها. وأكبر آمال
هذه الجمعية أن تجعل التركي العثماني يعد نفسه تركيًّا قبل كل شيء، وأما كونه
مسلمًا فيعد عنده من المسائل الثانوية التي لا تهمه كثيرًا.
أما هذه الجمعية فإنها تقوم بتلك الأعمال بإيعاز من السلطة الحاكمة التي
تؤيدها بكل وسيلة ممكنة وتدفع لها كل ما يلزمها من المال لأجل بلوغ هذه الغاية،
وهم يسمونها (ترك أوجاغي) أي: جمعية الوطن التركي. وهي تقوم الآن بنشر
دعوتها والقيام في أعمالها بهمة فائقة. أما الأطفال الترك فإن المدارس الطورانية
التي شُرع في إنشائها كفيلة بأن تغرس في نفوسهم تلك الروح التركية الجديدة.
وقد بذلوا غاية الجهد في تدريس التاريخ القومي للطورانين، وأفرغوا كل
عناية لنشره في المدارس العالية، وحضوا الطلاب على التنافس فيه والتهافت عليه،
وأخذوا بتأليف قوة كبيرة من فتيانهم سموها بالتركية (إيزجي) أي: قافة
الأثر. ووضعوها تحت رعاية أنور باشا وهم يدربونها على الفنون العسكرية حتى
تكون قادرة على الانضمام للجيش العامل وتفوق غيرها من أبناء العناصر
الأخرى كالعرب والأكراد واللاز ونحوهم , ولهذه القوة الصغيرة علامات
مخصوصة وشارات معينة وألقاب معروفة، وكلها تركية قديمة يرجع تاريخها إلى
ما قبل العصر الإسلامي. أما الأولاد الذين أسماؤهم مأخوذة من العربية فقد
استبدلوا بها ألفاظًا تركية محضة بدعوة أن الكشافة تركية خالصة وأن أسماءها يجب
أن تكون كذلك إتمامًا للقومية ورعاية للجنسية، ومن الأسباب التي عملت على إيجاد
هذه الحركة أمور علمية ولغوية؛ لأن الاتحاديين شرعوا في نقل كتب
كثيرة من علمية وتاريخية إلى لغتهم فكان لها في نفوسهم تأثير. وقد تفانوا في ذلك حتى عزموا على ترجمة القرآن الكريم إلى التركية واستعماله في العبادة بها لا باللسان
العربي، ولكن العلماء المسلمين من جميع النِّحل حتى بعض التُّرك أنفسهم
عارضوا في ذلك أشد معارضة.
وقد طبع الاتحاديون كتبًا كثيرة لتأييد المبدإ العُنصري، ومن ذلك الروايات
الكثيرة التي وضعوها وأهمها (بني طوران) وهي الرواية التي كتبتها إحدى
نسائهم المطالبات بحقوق الانتخاب واسمها (خالدة خانم) وقد حبَّذت فيها تلك
الحركة الجنسية ونوهت بمطالب السيدات وحقوقهن، ولا ريب أن مثله مسألة
المطالبة بحقوق النساء، وما يقوم به الأتراك من نشر دعوتهم والحث على العودة إلى
مدينة طوران من شأنه أن يعيد إلى مخيلة الإنسان ذكرى ما هو معروف عن الأقوام
الطورانية وما كانت عليه من الأحوال الاجتماعية؛ لأن استبدادهم بالنساء وما
ألحقوه بهن من ضروب القسوة والظلم يفوق ما فعلته جميع شعوب الأرض في
العصور المظلمة.
يقال: إن الحركة التركية بدأت بالظهور تحت صور شتى وأسباب مختلفة
أولها اللغة التركية ومحاولة كتابتها بما يخالف الأحرف العربية حتى تعذرت قراءتها
على كثيرين. على أن هذا الأمر لا شأن لنا به على الإطلاق. وهنالك أسلوب آخر
أعني به توطيد العلاقات مع مسلمي روسيا والقوقاس دون غيرهم من سائر
المسلمين بحجة أن هذه الأقوام ربما كانت من أصل تركي أو أن تتريكها ممكن في
الأقل، ولكن ذلك لم ينقذهم من خطر الاندماج في العرب وخسران قوميتهم ما دام
للإسلام سلطان على النفوس [٣] ولذلك عالجوا أمرهم بإحياء اللغة التركية والسعي
في استلالهم عن سواها.
أما الباحث الثالث الذي شدد عزائمهم فهو كتاب تلاه [٤] الدكتور ناظم
المرخص المسئول لجمعية الاتحاد فكان كالجذوة أصابت يابسًا؛ لأنه أوقد في
نفوسهم نار الحماسة والحمية. وذلك الكتاب مؤلَّف تاريخي وضعه الموسيو ليون
كوهين بالفرنساوي عن آسيا والأتراك في منغوليا وأصلهم منذ سنة ١٤٠٥ ميلادية،
وقد صدر ذلك الكتاب سنة ١٨٩٦. وبما أن الجمعية العلمية الفرنساوية قرظته
وخصته بالعناية فقد حل عند الاتحاديين مكانًا رفيعًا فنقلوه إلى التركية بعبارات
بالغوا فيها ما استطاعوا ولم يلتفتوا ألبتة إلى صحة بعض الأحكام والآراء المذكورة
في الكتاب بل عدّوا ذلك أمرًا ثانويًّا بالنسبة لخطتهم المرسومة. ومن البديهي أن من
مقتضيات تلك الحركة استقلال العنصرية التركية دون الإسلام تمام الاستقلال
وانفصالها عنه أشد الانفصال، وإن ذلك لأمر خطير عند المسلمين وغيرهم من الدول
العظمى مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا وإنكلترا؛ لأن لهذه الدول عددًا كبيرًا من
الرعايا المسلمين، وذلك ما يجعل لهذا الانقلاب أهمية كبيرة في الشرق والغرب.
وهذه الحركة كما يقولون، مقصورة على جمعية الاتحاد والترقّي ومبنية
على نظرات أستاذهم المجري فمبري لما علق في ذهنه من المزاعم القديمة البالية من
أن الإسلام ينافي الوطنية [٥] , ويزعم الاتحاديون أن الإسلام باختلاطه مع التقاليد
والمؤثرات العربية والفارسية واليونانية والبيزنطية قد حوَّل الترك إلى
عنصر شرقي مسلم ليس له مدنية (كلتور) خاصة به، وهم يقولون: إن هذه
الحقائق تحملهم على الاهتمام بمصيرهم والتفكير في عاقبة أمرهم وزيادة العناية في
تمييز الحياة الوطنية التركية عن الإسلام.
أما تيار المهاجرة التركية فقد بدأ منذ أوائل عهد النصرانية في آسيا من بلاد
الصين والأكسوس. وكانت ديانتهم في ذلك الزمن على افتراض أنهم كانوا يدينون
بدين خاص ما يسمونه اليوم (السامانزم) أي: العبادة الوثنية [٦] . وكانت مدينتهم
مؤلفة من المبادئ البسيطة المعروفة عند القبائل الرحّالة المنتشرة في أواسط آسيا
كما يقضي بذلك مركزهم الجغرافي وحالتهم الاقتصادية والمحيطة بهم. ولم يكن لهم
من المزايا غير الصفات الحربية، ولم يكن لهم من الشرف القومي أيضًا سوى ما
يستعيرونه من شرف الأمة التي تستخدمهم بالدراهم للمحاربة في صفوفها، وكانوا
يُعرَفون بالطاعة لكل من أطعمهم وتولى قيادتهم في ساحة القتال. ولا مُشاحّة أن
التركي لم يستطع تجوُّز تلك الحدود من تِلقاء نفسه. ولم يكن للتركي دين خاص به
ولم يعمل شيئًا لترقية شئونه وبلوغ درجة رفيعة من المدنية، ولم يحاول الترك قط
أن يمتزجوا ببقية أجناس قومهم، وإن كان جنكيز المغولي قد حدّث نفسه بهذا الأمر
وجعله نُصْبَ عينيه وأكبر آماله. ولم يكن التركي يقتبس من المدنية إلا ما تلجئه
الأحوال الضرورية إليه لاحتكاكه بها كرهًا كما وقع له مع المدنية الصينية فالفارسية
فالعربية فالرومية فالألمانية. ولا يقع في وهم أحد أن ما استعاره التركي من مدنيات
أولئك ولا سيما مدنية الإسلام قد حال دون بلوغه (كلتور) مدنية خاصة به [٧] وأن
التركي لم يُظهر في عصر من العصور مقدرة خاصة أو استعدادًا طبيعيًّا لأجل
النهوض وإظهار مدنية يستقل بها عما كان يقترضه اقتراضًا ويقلده تقليدًا مضحكًا.
وفي الحقيقة أن العثمانيين من بين قبائل التركمان أقل الناس لياقة لتمثيل أمة
يدلك على ذلك أن الأناضول عدا ما فيه من قبائل اليودوك والتركمان خالٍ من
آثار القبائل التركية الأصلية؛ لأن القومية التركية فيه ليست إلا لفظة أوجدتها
الأحوال السياسية. وليس الدم التركي فيها سوى قطرة صغيرة في بحار تلك الدماء
المتحدرة من الأقوام والشعوب القديمة الراجعة في تاريخها إلى ما وراء تأسيس
القسطنطينية بأجيال كثيرة كاليونان القدماء والفريجيين والغلاطيين والآشوريين
والكاريانس والحيثيين، وتلك الدماء هي التي تحركت في أعصاب ذلك المزيج
المسمى بالعثماني فأوجدت فيه ميلاً للزراعة وحرثة الأرض، ولا سيما العناية
بالبحرية في القرن السادس عشر. وقد كان من جملة العوامل التي حفظت وجود
الأتراك حتى اليوم بصفة شعب معروف أمران: الدين والطاعة العسكرية. فإذا
ذهب الإسلام من تركيا، فماذا عسى أن يبقى لها. وقد أجاب عن ذلك أصحاب
(قوم جديد) فقالوا: إنه سيبقى لهم أتراك طوران والإسلام بصورة جديدة فيكون دينًا
وطنيًّا أهليًّا. على أن شعب طوران لم تظهر عليه دلائل الابتكار والاختراع
فيستطيع قلب الإسلام رأسًا على عقب وجعله كما تشاء عنصريته الطورانية: وكما
يزعم أقطاب القوم الجديد، وكل ما في الأمر أن للطورانيين سبقًا في التدمير
والتخريب والقتل كما فعل جدهم هولاكو فقد دمر الترع المائية التي كانت في
العراق وجعل بقاعه المخصبة مجدبة حتى اليوم. أما الطورانيون العثمانيون فقد
نسفوا المدنية البيزنطية الزاهرة، ومثلهم جنكيز السفاح الذي ملأ بُخارى بغيًا وظلمًا
وقد لا يصدق الناس أن تيمور كان من الفرسان وأن جنكيز من أقطاب السياسة.
ولقد أفاض المسيو كوهين في وصف المزايا العسكرية الطورانية، ولكنه لم
يذكر شيئًا عن فظائعها إلا أن الدكتور بيسلر أصلح ذلك الخطأ فبين ما كانت
تستعمله تلك البطون الطورانية من ضروب القسوة والظلم مع جميع الأمم الخاضعة
لأحكامهم، وليس للتركي لذة أو اهتمام خاص في الأمور الدينية؛ ولذلك لم يبذل
شيئًا في خدمة الإسلام الذي جمد بين يديه فلم يتقدم خطوة؛ ولذلك يستصعب
العارفون قدرة (قوم جديد) على جعل الإسلام تركيا محضًا.
ومما لا ريب فيه أن التركي يخاف العرب أشد خوف ويدأب في استعمال كل
الوسائل لجعلهم أتراكًا ومحو قوميتهم تقليدًا لما فعله شولرويك هولستين مع ولايات
الدانمرك التي انضمت لألمانيا. ولقد صرح بذلك جلال نوري بك في أحد كتبه فقال:
(إن البلاد العربية بأسرها ولا سيما العراق واليمن يجب أن تكون تركية في اللغة
والجنس، وأن تكون لغة الدين عندهم تركية أيضًا، والإسراع في تتريك البلاد
العربية من أهم الأمور لحفظ وجودنا؛ لأن روحًا جديدة بدأت تدبّ في نفوس
العرب ورجال نهضتهم وأخذت تهدد وجودنا السياسي بضربة تقضي علينا قضاء
مبرمًا، فالضرورة -والحالة هذه- توجب علينا أن نكون على تمام الأُهبة والاستعداد
لاتقاء هذا الخطر) . وكتب أحمد شريف بك في جريدة طنين ما يأتي: (يتحدث
العرب كثيرًا في هذه الأيام عن نفسهم وقوميتهم، وهم يجهلون اللغة التركية جهلاً
تامًّا كأن بلادهم ليست خاضعة للأتراك، فالواجب يقضي على حكومة الباب العالي
أن تهتم اهتمامًا فعليًّا في جعلهم ينسون هذه النغمة وتضطرهم لتعلم اللغة التركية
الرسمية. فإذا أهمل الباب العالي ذلك كان كمن يحفر قبره بيديه. وإذا بقي العرب
على يقظتهم هذه فلا يبعد أن يهبوا لاسترجاع ملكهم، وفي ذلك القضاء على السيادة
التركية في آسيا) وهنالك أدلة أخرى عديدة على أن الأتراك يسعون بكل جهدهم
للقضاء على أمة شريفة كالأمة العربية ومحو أثرها من عالم الوجود، ولكن الحلفاء
يدافعون عن مبدأ القومية ويؤيدونه، وهم لا يسمحون بفناء أمة كريمة تريد البقاء
ولا سيما إذا كانت أمة أخرى طاغية تريد سحقها. وذلك ما يجعل ميول الحلفاء
عربية محضة وهو أمر لا يرتاب فيه أحد من المسلمين المتمتعين بالعيش في ظل
إنكلترا وفرنسا. فالحلفاء أنصار العرب، وهم يسعون لتأييدهم؛ لأنهم أصحاب
الدين الإسلامي الحنيف، ومنهم النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وفوق ذلك
كله فإن هنالك صلة قرابة بين العرب والمسلمين التابعين لحكومة فرنسا في شمال
إفريقيا اهـ.