للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استدارة الزمان والنسيئة في الحج

(س ٢١) من أحد قراء المنار من كبراء مكة المكرمة.
الذي أحيط به علمَ حضرة الفاضل الأستاذ أني أستفسر عما رسخ بفكري عند
تلاوة قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة: ٣٦) قال صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق
الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم ثلاث
متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)
قال أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح
صحيح البخاري: (المراد بالزمان النسبة، وقوله: كهيئته أي: استدار استدارة
مثل حالته.. ولفظ الزمان يطلق على قليل الوقت وكثيره، والمراد باستدارته
وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي
الليل والنهار) فلا يخفى أن مفهوم منطوق الحديث الشريف (استدار كهيئته يوم خلق
الله السموات والأرض) مع ما تضمنه شرح ابن حجر بقوله: المراد باستدارته
وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل، حيث يستوي
الليل والنهار، إن وقت الوقوف بعرفة لا يكون إلا في ذلك اليوم الذي تحل فيه
الشمس برج الحمل لا يتقدم ولا يتأخر، وإذا تقدم أو تأخر دخلت النسيئة معنًى؛ إذ
لا غرو أن وقت الوقوف من بعد ذلك اليوم لم يقع في ذلك الوقت؛ لأنه لا أقل من
تأخر كل عام عشرة أيام بحسب الفصول على حساب الأشهر الهلالية. فإن قلتم:
هذا أمر مقرر مشى عليه الصحابة والتابعون من بعده -صلى الله عليه وسلم-
وهلُم جرًّا إلى الآن، وعليه جاء في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: ١٨٩) إن المعتبر في الحج الأشهر الهلالية. قلنا
حينئذ: يترتب على هذا أنه لا فائدة لما أفهمه منطوق الحديث الشريف، وهو لا
ينطق عن الهوى، ولا معنى لما شرحه ابن حجر في قوله في ذلك اليوم الذي حلت
فيه الشمس برج الحمل. وهذا إذا كان السؤال في الآية الشريفة عن الهلال فقط،
وأما إذا جرينا على أن السؤال كان عن جميع الأهلة حيث دخلت الشمس في هذا
الجمع فحينئذ السؤال قد توجه للاشتباه، حيث إن ما ذكر من مفهوم الآية والحديث
المتقدم ذِكرهما يؤيد أن المراد بقوله: والحج أن ميقات الحج الشمس حينما تحل
في برج الحمل، أفتونا مأجورين آمين.
(ج) ليس في منطوق الحديث الشريف ولا مفهومه أن استدارة الزمان هي
وقوع تاسع ذي الحجة في أول يوم من برج الحمل، ولا ذلك مطابق للواقع. وإنما
أخذه الحافظ من قول بعض العلماء لا من حديث آخر فقال في شرح الحديث من
كتاب بدء الخلق من الفتح: وزعم يوسف بن عبد الملك في كتابه تفضيل الأزمنة
أن هذه المقالة صدرت من النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر مارس وهو آذار
وهو برمهات بالقبطية، وفيه يستوي الليل والنهار عند حلول الشمس في برج
الحمل. اهـ، ومنه يعلم أنه ذكر هذا البيان الواقع، ولا أدري من أين أخذ
الحافظ أن تاسع ذي الحجة وافق في تلك الليلة دخول الشمس في برج الحمل، فهو
لم ينقل عن يوسف بن عبد الملك ذلك. والواقع أن أول ذي الحجة من تلك السنة،
وهي العاشرة كان يوم الخميس كما ثبت في كتب الحديث وهو يوافق ٢٧ فبراير
وثاني برمهات، وفي بعض كتب التقويم أن أوله الجمعة ٢٨ فبراير ٣ برمهات،
وعلى كل من الحسابين يكون دخول الشمس في برج الحمل بعد اليوم التاسع،
وهب أنه كان فيه فما ذِكرهم له إلا بيان للواقع. وكل من موافقة وقوع الوقوف في
أول يوم من برج الحمل وموافقة عام حجة الوداع لأول عام انتظم فيه حساب
السنين في إثر تكوين السموات والأرض بهذه الحالة لا دخل له في فريضة الحج.
على أننا إن سلَّمنا أن هذا المفهوم المدَّعى في السؤال هو مفهوم الحديث نقول:
إنه مفهوم مخالفة، اشترط من يحتجون به أن لا يعارضه ما هو أقوى منه من
منطوق أو مفهوم موافقة، وهذا المفهوم يعارضه الكتاب والسنة؛ إذ لو جعل الحج
في فصل الربيع تابعًا للحساب الشمسي لخرج من الأشهر الحرم المعلومات عند
العرب بالتواتر من عهد إبراهيم وإسماعيل اللذين فرض الله الحج على ألسنتهما
وهو قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ} (البقرة:
١٩٧) إلخ وهن الأشهُر المتواليات في حديث الاستدارة. وكانت حكمة جعل الحج
في الأشهر الحرم أن يأمن الحجاج على أنفسهم في ذهابهم إلى مكة وإيابهم منها إلى
أوطانهم فلا يُغير عليهم أحد من الأعراب كعادتهم.
وأما فائدة الحديث فهي تقرير إبطال النسيء ولوازمه. قال تعالى بعد الآية
المذكورة في أول السؤال: {ِإنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: ٣٧) وهو ما
جروا عليه من تأخير بعض الأشهر الحُرُم إلى غيره؛ أي استحلال الشهر الحرام
نفسه، وتحريم شهر آخر بدلاً منه لما كانوا يرون من الحاجة إلى الإغارة في الشهر
الحرام. مثال ذلك أنهم كانوا يؤخرون تحريم القتال في المحرَّم الذي يعودون فيه
من الحج إلى صفر، ويعلنون ذلك في (مِنى) قبل انصرافهم من الحج، وإذا
احتاجوا أخروا صفر إلى ربيع، وهلُم جرًّا حتى استدار التحريم على شهور السنة
كلها. وروي أن القلمس بن أمية بن عوف نسأ لهم الشهور أربعين سنة، فترتب
على ذلك أنهم أحلوا جميع ما حرم الله، وأخروا الحج عن وقته الذي شرعه الله فيه
حتى إن السنة التاسعة التي حج فيها أبو بكر بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كان
الوقوف فيها في شهر ذي القعدة كما قال مجاهد، وتلتها حَجة الوداع فكان فيها
الوقوف في ذي الحجة، وهو الشهر الذي فرض الله الوقوف فيه. فكانت استدارة
الزمان أن رجع حساب الحج إلى أصله، وحُرِّم النسيء ألبتة، فزال السبب الذي
كان يتأخر فيه الحج من الأشهر المعلومات التي فرصه الله فيها. وأفاد الحديث أن
هذا الحساب حقيقي صحيح في نفسه ليس فيه من خطأ النسيء شيء. وقد قرأت
بعد كتابة ما ذكر ما كتبه الحافظ على الحديث في تفسير سورة براءة فإذا به قد نقل
هذا المعنى عن الخطابي.
وأما ما ذكرتم من الفرق بين الهلال والأهلة فلا نعلم له مأخذًا من اللغة ولا
أصلاً من الروايات، فالأهلة جمع هلال وهو اسم للقمر عندما يبدو في أول ليلة من
الشهر إلى ثلاث ليالٍ، وقيل: إلى سبعٍ، وفي الليلتين الأخيرتين أو الثلاث
الأخيرة منه. فإذا كان هذا اللفظ لا يطلق مفردًا على الشمس، فكيف تدخل الشمس
في مفهوم جمعه؟