للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ذكرى المولد النبوي [*]
(٣)

خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة من داره إلى دار أبي
بكر، ثم خرجا متزودين من خوخة [١] فيها واستخفيا في الغار المعروف بغار ثور [٢] ،
وكانا قد استأجرا دليلاً ماهرًا من المشركين ليرحل بهما، وأعطياه راحلتيهما
وأمَّناه على سرهما [٣] وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فكتم أمرهما ووافاهما في الميعاد،
ولما علمت قريش بخروجهما، خرجت بالقافة في طلبهما [٤] حتى إذا ما انتهوا إلى
باب الغار، صرف الله عنه القلوب والأبصار، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال:
يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا. فقال: (يا أبا بكر ما
ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا) ولما كان بعد ثلاث جاء الدليل
فرحل بهما، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة فهاجر معهما، وكانت نار
الطلب قد خمدت عنهما، وجعل المشركون لمن جاءهم بهما دية كل واحد منهما،
وقد كان ما كان من حِفظ الله وإكرامه لهما.
ولما بلغ الأنصار خروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكة، كانوا يخرجون
صبيحة كل يوم ينتظرونه في الحَرّة [٥] ولا يرجعون إلى الديار، إلا بعد أن تغلبهم
الشمس على الضلال [٦] حتى وافاهم بقباء [٧] يوم الإثنين ثامن ربيع الأول فتلقوه
بالإكرام، وقام فيها مدة أربعة أيام، وكان نزوله في بني عمرو بن عوف، وبنى
فيها مسجدها الذي أسس على التقوى من أول يوم، ثم دخل المدينة يوم الجمعة
عند دخول الشمس في بُرج الميزان، وهو أول الاعتدال الخريفي في الزمان، فكان
ذلك رمزًا لما في شريعته من الاعتدال، وكونها آخر الشرائع الإلهية التي يبلغ بها
الدين غاية التمام والكمال، وقد أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في
المسجد الذي في بطن الواد، ثم ركب فأخذوا بخطام ناقته: هلم إلى العدد والعدة
والمنعة والسلاح [٨] . فقال: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) وكلما مرت بدار من دور
الأنصار رغبوا إليه في النزول عليهم وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة) وما
زالت تمر بدار بعد دار، إلى أن بركت في موضع مسجده اليوم من دور أخواله بني
النجار [٩] فبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله في بيته، فجعل رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول: (المرء مع رحله) وأقام في منزل أبي أيوب
حتى بنى حجرته ومسجده، واستحضر في أثناء ذلك أهل بيته من مكة المكرمة [١٠]
ولم يفرح الأنصار بشيء كفرحهم بقدومه -صلى الله عليه وسلم- ومثله عودته إليهم
بعد الفتح الأعظم [١١] وأي شرف وفخر وسعادة في الحياة وبعد الممات، أعظم من
هذه السعادة التي افتخر بها شاعرهم بهذه الأبيات:
ثوى في قريش عشرة حجة ... يذكر لو يلقى حبيبًا مواتيا [١٢]
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم يرَ من يؤوي ولم ير داعيا [١٣]
فلما أتانا واستقرت به النوى ... وأصبح مسرورًا بطَيْبة راضيا [١٤]
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس باغيا [١٥]
بذلنا له الأموال من حِلّ مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا [١٦]
نعادي الذي عادى من الناس كُلهم ... جميعًا، وإن كان الحبيب المصافيا [١٧]
ونعلم أن الله لا رب غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا [١٨]
***
أخلاقه وسيرته بعد الهجرة مع المؤمنين
وحاله مع أهل الكتاب والمشركين
كان -صلى الله عليه وسلم- أكرم الخلق أخلاقًا، وأعلاهم فضائل وآدابًا،
امتاز بذلك في عهد الجاهلية، فكيف يدرك كنهه بعد النبوة، وقد خاطبه العلي
العظيم، بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: ٤) وكان جامعًا بين اللُّطف
والتواضع والدماثة، وبين العزة والوقار والمهابة، من رآه بديهة هابه، ومن
خالطه معرفة أحبه [١٩] ، وجامعًا بين الرأفة والرحمة والحياء، وبين الشجاعة والحزم
والمضاء، فكان في حومة الوَغى أثبت الناس، وكانوا يلوذون به إذا اشتد البأس
[٢٠] حتى إنه ثبت وحده في يوم أُحد، ولكنه لم يقتل بيده غير أُبي بن خلف [٢١]
وإنما كان يدافع عن نفسه وغيره دفاعًا، ويرشد المقاتلين بالتدبير والتثبيت إرشادًا،
ولم يكن ينتقم لنفسه، ولا يُحابي في الحق عشيرته ولا أبناء جنسه، وكان على
حلمه الواسع، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان أجود من الريح المرسلة،
والسحب المنهملة، وكان أعظم الناس صبرًا، وأحسنهم لله وللناس شكرًا [٢٢] ، وكان
يجب اليُسر ويأمر به، ويكره العُسر ويَنهى عنه [٢٣] ، يأكل من الطعام ما وجد، لا
يأبى المستلَذ منه نسكًا. ولا يتحراه تنعُّمًا وترفًا، ولكنه كان يعتني بأمر الماء [٢٤] ،
ويحب الطِّيب والنساء، وكان يُكثر الوصية بهن وباليتامى والأرقّاء، ليمحو من
أنفس الناس احتقار الضعفاء.
كان -صلى الله عليه وسلم- يربي المؤمنين بالقرآن، وبما آتاه الله من الخُلق
العظيم والعرفان، فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى إنهم كانوا يتقاسمون المال
والعقار، وألَّف الله به بين قلوب الأوس والخزرج فأصبحوا بنعمته تعالى إخوانًا،
وكانوا في الجاهلية أعداء لا يألو أحدهما الآخر بغيًا وعدوانًا، وكان يشاور أصحابه
في الأمر، ويساوي بينهم في الإقبال والبشر، ويوقِّر كبيرهم ويرحم صغيرهم،
ويُكرم فقيرهم، ويعود مريضهم، ويشيِّع ميتهم، ويقبل هديتهم، ويجيب دعوتهم،
ويكون معهم كأحدهم.
فأما اليهود من أهل الكتاب، الذين كانوا في تلك الرحاب، فقد وادعهم وأقرهم
على دينهم، وأمنهم على دمائهم وأموالهم، على أن لا يحاربوه، ولا يُظاهروا ولا
يوالوا [٢٥] عدوهم عليه، وأن لهم النصر على المؤمنين، وينفقون معهم ما داموا
محاربين، وأن لهم دينهم وللمسلمين دينهم، سواء في ذلك مواليهم وأنفسهم، ولكنهم
ما لبثوا أن نقضوا عهده، وظاهروا عليه عدوه.
وأما المشركون فاشتدت عداوتهم له، وكانوا حربًا له ولمن آمن به، فلم
يشتفوا بإخراجه وإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وما كان من تعذيبهم لمواليهم
وضعفائهم ونسائهم، لأجل إرجاعهم عن الإسلام، إلى ما كانوا عليه من عبادة
الأصنام، حتى صارحوهم البغي والعدوان، فلم يكن للمسلم أمان على نفسه في
مكان، إلا أن يمنعه أحد الأقوام، أو يصدهم عنه الشهر الحرام أو المسجد الحرام،
على أن قريشًا صدتهم عن البيت، بعد أن قلدوا الهدي وأحرموا بالعمرة سنة
ست [٢٦] ، حتى صالحهم -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية [٢٧]- والإسلام على ما
صار إليه من المنعة والقوة-[٢٨] ، على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها
الناس من مؤمنين وكافرين، وأن يرجع عنهم ذلك العام، ويُخلُّوا بينه وبين
مكة في العام المقبل ثلاثة أيام، وأن يرد عليهم من أتاه من أصحابهم ولو بقصد
الإسلام، ولا يردوا عليه من أتاهم من الصحابة الكرام، وكان -صلى الله عليه
وسلم- قد رأى في المنام، أنه قد دخل المسجد الحرام، فظن المسلمون أن تأويل
الرؤيا يكون في تلك السنة، ولذلك اشتد عليهم الاستياء من الصلح حتى خيفت عليهم
الفتنة [٢٩] لولا أن الله تعالى أنزل عليهم السكينة، وعجل لهم بعض ما وعدهم، ثم
من المغانم الكبيرة [٣٠] وذلك برهان على إيثاره -صلى الله عليه وسلم- للسلام،
وما كانت حروبه إلا دفاعًا وتأمينًا لدعوة الإسلام، وكان أكبر فوائد ذلك الصلح
اختلاط المسلمين بالمشركين، وإسماعهم القرآن وتبليغهم حقيقة الدين، وإرسال
الرسل لتبليغ الملوك المجاورين [٣١] فصار الناس يدخلون فيه آمنين مقتنعين،
وأظهر الإسلام في هذه الهدنة مَن كان يخفيه بين المشركين خوف الفتنة، وحسبك أنه
تعالى أنزل سورة الفتح، في تعظيم شأن هذا الصلح؛ مبينًا ما فيه من الحِكَم
والمصالح، ومشتملة على أخبار الغيب والوعد بالنصر والمغانم، فسماه فتحًا مبينًا،
وأعقبه كما وعد نصرًا عزيزًا؛ إذ كان تمهيدًا لفتح مكة، الذي أتم به النعمة، وازداد
المؤمنون بذلك إيمانًا، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجًا.
وكان فتح مكة سنة ثمانٍ، وفي سنة عشر حج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حجة الوداع، التي هدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرَّر قواعد الإسلام،
وعلَّم الألوف أحكام المناسك [٣٢] ، وأمر بأن يبلِّغ الشاهد منهم الغائب، وأشهَد الله
تعالى المؤمنين على أنه بلغ ما نزل إليه وبينه تبيينًا، وأنزل تعالى عليه في مساء
عرفة: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) .
وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أقام في مكة بعد بدء التبليغ عشر سنين،
يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل،
وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية
وعقلية، وسماوية وأرضية، فيما تظهر به حِكَمه وتشاهد آياته في الخلق، وتتسع
به العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد الرزق، صابرًا مع السابقين من
المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين، ثم دخل الإسلام بالهجرة في عهد
الحرية، وتكونت له قوة العصبية، وجاء الوحي فيه مفصلاً لما أجمل في السور
المكية من الأحكام، وبيان الحلال والحرام، وبينت السنة النبوية جميع فروع
العبادات، وكل ما يحتاج إليه من النصوص والقواعد للسياسة وفروع المعاملات،
فبذلك كله أكمل الله الدين، وأتم نعمته على المؤمنين، وقد تربى على ذلك الألوف
من المهاجرين والأنصار، فنشروا هذا الدين القويم في الأقطار والأمصار، فأروا
أمم الحضارة والأديان القديمة، من العدل والرحمة والسيرة القويمة، ما لم يروا
مثله بأعينهم، ولا رووا نظيره عن أحد من قبلهم، وقد كانت مدة التشريع بعد
الهجرة، كمدة التبليغ بعد البعثة [٣٣] فبعد حجة الوداع بثلاثة أشهر [٣٤] قبض الله
تعالى إليه نبيه المصطفى، ورسوله المجتبى، ورفع روحه الطاهرة إلى الرفيق
الأعلى، فتوفي -صلى الله عليه وسلم- تاركًا للأمة ما إن تمسكوا به لن يضلوا من
بعده، كتاب الله وسنته في تبيينه وعترته العاملين بهما من أهل بيته [٣٥] وكذا خلفاؤه
الراشدون [٣٦] وعلماء أصحابه به العاملون [٣٧] مؤسسًا لهم أمة عظيمة، ودولة عادلة
رحيمة، وحكومة شوروية حكيمة، قيدت فيها سلطة الفرد، بالشريعة العادلة
وسيطرة أهل الحل والعقد [٣٨] مبشرًا بأن ملكها سيعم الشرق والغرب، وينتظم ملك
كسرى وقيصر، وأنه يظل عزيزًا ما أقاموا الحق واعتصموا بالعدل، فإذا وسدوا
الأمر إلى غير أهله، فلينتظروا ساعتهم المضروبة لفقده [٣٩] ، وبأنه لا تزال طائفة
من أمته ظاهرة على الحق قوَّامة على أمر الله، إلى أن تقوم الساعة ويأتي أمر
الله [٤٠] .
وقد تم كل ما بشر به وأنذر، ولا تزال آيات نبوته تتجدد وتتكرر، فجزاه الله
عنا أفضل ما جزى نبيًّا عن قومه، ورسولاً عن أمته، وصلى الله وبارك عليه،
وعلى أهل بيته الطاهرين [٤١] ، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.