للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن جبير الأندلسي


علماء بغداد في القرن السادس
ومكانتهم في الوعظ والتذكير

قال الرحًّالة ابن جبير الأندلسي بعد أن وصف بغداد بأنها أمست بالنسبة إلى
ما كانت كالطَّلل الدارس، وانتقد أخلاق أهلها ومعاملتهم وغرورهم ببلدهم ما نصه:
أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكّرين، لا جرم أن لهم في
طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف
والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرًا من أوزارهم،
ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم،
لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم
من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه
كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة، فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام
رضي الدين القزويني رئيس الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار إليه
بالتقديم في العلوم الأصولية، حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر
من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر وأخذ القراء أمامه في القراءة
على كراسي موضوعة، فتوقوا وشوقوا وأتوا بتلاحين مُعْجِبة، ونغمات مُحرجة
مطربة.
ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار، وتصرف في
أفانين من العلوم من تفسير كتاب الله عز وجل، وإيراد حديث رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- والتكلم على معانيه، ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب،
فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر، ودُفِعت إليه عدة رقاع منها، فجمعها جملة في
يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها إلى أن فرغ منها، وحان المساء
فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ وقورًا هينًا ليِّنًا، ظهرت فيه
البركة والسكينة، ولا سيما آخر مجلسه، فإنه سَرَتْ حميا وعظه إلى النفوس حتى
أطارتها خشوعًا، وفجرتها دموعًا، وبادر التائبون إليه سقوطًا على يده ووقوعًا،
فكم ناصية جزَّ، وكم مَفْصِل من مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحزَّ، فبمثل مقام
هذا الشيخ المبارك تُرحم العُصاة، وتُتغمد الجُناة، وتُستدام العِصمة والنجاة، والله
تعالى يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين
من سخطه وانتقامه، برحمته وكرمه، إنه المنعم الكريم لا رب سواه ولا معبود إلا
إياه.
وشهدنا له مجلسًا ثانيًا إثْر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من
الشهر المذكور، وحضر ذلك اليوم سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة الشافعية،
ودخل المدرسة النظامية بهزّ عظيم وتطريف آماق تشوقت له النفوس، فأخذ
الإمام المتقدم الذكر فيه وعظه مسرورًا بحضوره ومتجملاً به، فأتى بأفانين من
العلوم على حسب مجلسه المتقدم الذكر، ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين
الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد المشتهر المآثر والمكارم، المقدم بين الأكابر
والأعاظم.
ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال
الدين أبي الفضائل ابن علي الجوزي بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي
آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب
الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا
زيد، وفي جوف الفَرَا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، ورئيس
الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه
الصناعة، والمشهور له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام
في النظم والنثر، والغائض في بحر فكره على نفائس الدُّر.
فأما نظمه فرضيّ الطباع ومهياريّ الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان،
ويعطل المثل بقس وسحبان، ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد
المنبر ويبتدئ القراء بالقراءة وعددهم نيَّف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان
منهم أو الثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت
طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات،
إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصلها
عددًا، أو يسميها نسقًا، فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته
عجلاً مبتدرًا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات
المقروآت في أثناء خطبته فقرأها، وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدمًا ولا
مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها، فلو أن أبدع مَن في مجلسه
تكلف تسمية ما قرأ القراء به آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن
ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء بها عجلاً؟ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ
تُبْصِرُونَ} (الطور: ١٥) إن هذا لهو الفضل المبين. فحدِّث ولا حرج عن
البحر، وهيهات ليس الخَبَر عنه كالخُبْر، ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته
برقائق من الوعظ، وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها
الأنفس احتراقًا، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون
بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده
فيجزها، ويمسح على رأسه داعيًا له؛ ومنهم من يغشى عليه، فيرفع في الأذرع
إليه، فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم
نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا
الرجل لكانت الصفقة الرابحة، والوجهة المفلحة الناجحة، والحمد لله على أن مَنَّ
بلقاء من يشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله، وفي أثناء مجلسه ذلك
يبتدرون المسائل وتطير إليه الرقاع فيجاوب أسرع من طرفة عين، وربما كان
أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا إله
سواه.
ثم شاهدنا مجلسًا ثانيًا له بُكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر في
ساحة قصور الخليفة ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور هو من حرم
الخليفة، وخص بالوصول إليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته
ومن حضر من الحرم، ويُفتح الباب للعامة فيدخلون إلى ذلك الموضع، وقد بسط
بالحصر وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس
المذكور، وقعدنا إلى أن وصل هذا الحَبْر المتكلم فصعد المنبر وأرخى طيلسانه على
رأسه تواضعًا لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة
فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاؤوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت
العيون بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة، وقد أحصينا لهم تسع آيات، من
سور مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغراء وأتى بأوائل الآيات في أثنائها
منتظمات، ومشَّى الخطبة على فقرة آخر آية منه في الترتيب إلى أن أكملها،
وكانت الآية: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} (غافر: ٦١) فتمادى على هذا السين؛ وحسَّن أيَّ تحسين،
فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له
ولوالدته، وكنى عنها بالسِّتر الأشرف، والجناب الأرأف، ثم سلك سبيله في
الوعظ، كل ذلك بديهةً لا رويةً، ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروآت على
النسق مرة أخرى، فأرسلت وابلها العيون، وأبدت النفوس سر شوقها المكنون،
وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين، وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول،
وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لا تملك تحصيلاً، ولا تميز معقولاً، ولا
تجد للصبر سبيلاً، ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق؛
بديعة الترقيق، تشمل القلوب وَجْدًا، ويعود موضعها النسيبي زهدًا. وكان آخر ما
أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك
الكلام.
أين فؤادي أذابه الوجد ... وأين قلبي فما صحا بعد
يا سعد زدني جوًى بذكرهم ... بالله قل لي فديت يا سعد

ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من
فيه، إلى أن خاف الإفحام فابتدر القيام، ونزل عن المنبر دهشًا عجلاً، وقد أطار
القلوب وجلاً، وترك الناس على أحرّ من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر، فمن
معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب، فيا له من مشهد ما أهول مرآه، وما
أسعد من رآه، نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته، بمَنِّه
وفضله.
وفي أول مجلسه أنشد قصيدًا نيرًا لقبس عراقي النفس في الخليفة أوله:
في شغل من الغرام شاغل ... من هاجه البرق بسفح عاقل

يقول فيها عند ذكر الخليفة:
يا كلمات الله كوني عوذة ... من العيون للإمام الكامل

فلما فرغ من إنشاده، وقد هز المجلس طربًا ثم أخذ في شأنه، وتمادى في
إيراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلمًا في الدنيا يعطى من ملكة النفوس
والتلاعب بها ما أُعطي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده
لا إله غيره.
وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وُعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه بالإضافة
لما عهدناه من متكلمي الغرب، وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة شرَّفهما الله مجالس
من قد ذكرناه في هذا التقييد فصغرت بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ في نفوسنا
قدرًا، ولم نستطب لها ذكرًا، وأين تقعان مما أريد، وشتان بين اليزيدين، وهيهات
الفتيان كثيرًا، والمثل بمالك يسير.
ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه، ويروق استطلاعه، وحضرنا له مجلسًا
ثالثًا يوم السبت الثالث عشر لصَفَر بالموضع المذكور بإزاء داره على الشط الشرقي
فأخذت معجزاته البيانية مأخذها، فشاهدنا من أمره عجبًا، صعد بوعظه أنفاس
الحاضرين سحبًا، وأسال من أدمعهم وابلاً سكبًا، ثم جعل يردد في آخر مجلسه
أبياتًا من النسيب شوقًا زهدّيًا وطربًا، إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره
والهًا مكتئبًا، وغادر الكل منتدمًا على نفسه منتحبًا، لهفان ينادي يا حسرتا واحربا،
والنادبون يدورون بنحيبهم دور الرحى، وكل منهم بعد من سكرته ما صَحَا،
فسبحان من خلقه عبرة لأولي الألباب، وجعله للتوبة أقوى الأسباب، لا إله سواه.