للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدكتور شبلي شميل

في اليوم الأول من هذه السنة الميلادية سنة (١٩١٧) اغتالت المنية الطبيب
النطاسي، الحكيم الاجتماعي، العالم الطبيعي، الأديب الكاتب، الناظم الناثر،
الدكتور شبلي شميل الشهير بتصانيفه ومقالاته العلمية والاجتماعية في المجلات
والجرائد العربية والفرنسية.
كان شبلي فذًّا نادر المثل في مجموعة علومه وأعماله وأفكاره وأخلاقه والذي
يحملنا على ترجمته أنه كان من طلاب الإصلاح المدني والتجديد الاجتماعي
المخلصين- وقليل ما هم - لا من الذين اتخذوا العلم ذريعة لجمع المال ولا وسيلة
لجاهٍ كما هو شأن السواد الأعظم من المتعلمين، فهو لم يدخر مالاً، ولم يتأثل عقارًا،
ولم يصرف جُلّ أوقاته للكسب، بل كان اشتغاله بالأمور الاجتماعية أكثر من
اشتغاله بالطب، ومثل هذا يكون مؤثرًا في أهل جيله تأثيرًا نافعًا أو ضارًّا لا كالذين
يعدون من العلماء بورقة شهادة يحملها كل منهم بيده، ونرى أنه يعيش عمرًا طويلاً
ثم يموت كما يموت العصفور لا يترك أثرًا في جيله يُنسب إليه. لهذا نذكر عن هذا
الرجل أهم ما نرى فيه العبرة من ترجمته فنقول:
كان أول من نشر مذهب دارون باللغة العربية وانتصر له وناضل دونه؛ إذ
كان رجال الدين ولا سيما الكاثوليك الذين نشأ شميل على مذهبهم يعدون هذا المذهب
من دعائم الكفر، ولم يكتف الرجل بذلك بل كان يصرح قولاً وكتابة بالتعطيل
والإلحاد، ولم يتجرأ أحد قبله على ما تجرأ عليه من ذلك فيما نعلم مع كثرة الذين
زاغت عقائدهم من المتعلمين على الطريقة الأوربية الحديثة. ومن الغريب أن
نرى المحامين عن النصرانية وكتبها الدينية كاليسوعيين (الجزويت) لم يتصدوا
للرد على الدكتور شميل كدأبهم في الرد على أمثاله من كتاب الشرق والغرب، وقد
كانت مجلتهم (المشرق) واقفة بالمرصاد والهلال وغيرهما من الصحف المنشرة
كلما نشر فيها شيء يخالف الدين أو المذهب الكاثوليكي ردوا عليه أشد الرد. فإذا
كان الجزويت لم يشنعوا على الدكتور شبلي شميل كما شنعوا على من لم يجهر بمثل
ما جهر به فلا عجب إذا سكت عنه من دونهم عصبية وعناية بهذا الأمر، وأكبر ما
بلغنا من مقاومة بعض القسيسين له أنهم كانوا ينهون بعض الناس سرًّا عن دعوته
لمعالجة مرضاهم. وجمهور المتعلمين على الطريقة العصرية من السوريين في
مصر وسورية وأمريكة يحبون الدكتور شميل ويعدونه من دعاة الإصلاح
الاجتماعي المخلصين، ومنهم من يغلو فيه، أما النصارى منهم - وهم الأكثرون-
فلا يرون عدم تدينه مانعًا من إصلاحه الاجتماعي؛ إذ لا علاقة للدين بذلك عندهم،
ولا شك في كون هذا من تساهلهم الذي قاربوا به الإفرنج، وأما المسلمون فلا يرون
مروقه من عقيدته التي نشأ عليها مبعدًا له عنهم؛ لأنها ليست عقيدتهم فهو في
نظرهم طبيب عالم اجتماعي غير مسلم، ولكنه أقرب من غيره من المخالفين لهم
إلى التساهل والإنصاف لحريته واستقلال فكره. وله أصدقاء من مسلمي مصر
لعلهم يزيدون على أصدقائه من مسلمي سورية الذين لا يعرفه أكثرهم إلا بالسماع.
وأما مذهب داروِن فقد تكلم بعض علماء المسلمين فيه وفي مخالفته لظواهر
النصوص في خلق آدم -عليه السلام-، ولم يجعلوا ذلك ردًّا على الدكتور شميل؛
لأنه لم يكن صاحب المذهب، وقد سبق أشياخنا إلى الرد على مذهب دارون،
وأول ما رأيناه في ذلك ما أبرزه لنا الأستاذ الإمام في ترجمته لرسالة أستاذي الذي
تخرجت على يديه الشيخ حسين الجسر في الرسالة الحميدية فهو قد لخص هذا
المذهب وبين أن دلائله في أصل البشر ظنية لم تصل إلى درجة القطع، وأنها لو
ثبتت وصارت يقينية لا تكون حجة على الإسلام لإمكان تأويل ظواهر النصوص
الواردة في الكتاب والسنة في خلق آدم. وقد أقر أكابر علماء سورية شيخنا على
تلك الرسالة وترجمت بالتركية فأقرها علماء الترك، وكافأه السلطان عبد الحميد
على خدمته للإسلام بها برتبة علمية عالية وراتب شهري. ورغب إليه أن يكون
من شيوخ قصره فاعتذر وعاد إلى طرابلس الشام بعد أن أقام في قصر يلدز عدة
شهرًا ضيفًا مكرمًا عند السلطان. وأما علماء الأزهر فقد اطلع كثير منهم على
الرسالة الحميدية وأعجب بها. ولكن لم نسمع أن أحدًا منهم كتب في موضوعها
شيئًا.
بينا رأي المسلمين الذين يعرفون الدكتور شبلي فيه، وأنهم كانوا يرونه أقرب
إلى التساهل والإنصاف، وبيان ذلك أنه كان يقول: إنه لا يوجد دين اجتماعي يتفق
مع مصالح البشر المدنية إلا دين القرآن. سمعت هذا منه غير مرة. وأخبرني أنه
طالما خطر في باله أن يجمع ما في القرآن من الآيات الواردة في المسائل
الاجتماعية والأدبية ويفسرها تفسيرًا علميًّا اجتماعيًّا. وأنه قد حاول هذا الجمع
فصعب عليه تجريد ما أراده لما في القرآن من المزج بين هذه المسائل والمسائل
الروحية الأخروية. وقال لي: إنك أقدر مني على تجريد ما أريد، فلو فعلت لكان
تفسيري نافعًا لك فيما تتوخاه من التوفيق بين الإسلام والعلم العصري والحضارة
العصرية، ومن نشر محاسن الإسلام بين الناس؛ لأن ألوفًا من الناس يقرؤون
تفسيري ولا يقرؤون تفسيرك.
وأما رأيه في نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو أنه كان يفضله على
جميع البشر، وقد كتب إليَّ منذ تسع سنين كتابًا أودعه أبياتًا من الشعر في ذلك هذا
نصه:
إلى غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار.
أنت تنظر إلى محمد كنبيٍّ فتجعله عظيمًا، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله
أعظم , ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض
فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعُرَى
المودة.
... ... من صديقك الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شميل
(الحق أولى أن يقال)
دع من محمد في سدى قرآنه ... ما قد نحاه للحمة الغايات
إني وإن أكُ قد كفرت بدينه ... هل أكفرن بمُحْكم الآيات
أوَما حوت في ناصع الألفاظ من ... حكم روادع للهوى وعِظات
وشرائع لو أنهم عقلوا بها ... ما قيَّدوا العمران بالعادات
نِعْمَ المدبر والحكيم وإنه ... رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحِجَا رجل السياسة إنه ... بطل حليف النصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خطب النهى ... وبسيفه أنحى على الهامات
من دونه الأبطال في كل الورى ... من سابق أو لاحق أو آت

وقد نشرنا هذا الكتاب والأبيات في (ج١ م١١) في معرِض الرد على
البرنس كايتاني في زعمه أن نجاح النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في كفاءته
من حيث هو سياسي محنَّك أكثر من نجاحه من حيث هو نبي، وأن حُنْكَته
وسياسته أفادا أكثر من إفادة القرآن. رددنا على صاحب هذا القول وعلى المؤيد
الذي نقل كلامه وأقره وعلى الدكتور شميل فيما زعمه من أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- أفضل من حيث كونه رجلاً منه من حيث كونه نبيًّا. وسألنا الله تعالى أن
يهديه إلى الباقي من مزايا كتابنا ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهو المهم
الأعظم المتعلق بأمر الدين والآخرة الذي أشار إليه في البيت الأول، وكفر به في
البيت الثاني، فقد صرح لنا بأن مراده بلُحمة الغايات أمور الآخرة.
إن الدكتور شبلي شميل قد اهتدى بالاطلاع على القرآن الحيكم إلى ما فيه من
الحكم الروادع للهوى والشرائع والموافقة لأصول العمران حتى في هذا الزمان.
وبالاطلاع على سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كونه قد فاق جميع أبطال
البشر وعظمائهم، ويدخل فيهم عنده أكابر الأنبياء -عليهم السلام- وكبار الساسة
وقواد الحروب وأهل الفصاحة والأدب. فلو أن الدكتور تأمل فيما اهتدى إليه من
هذين الأمرين وكان مؤمنًا بالله تعالى لجزم بكونه نبِيًّا مرسلاً من عنده عز وجل؛
لأن ما امتاز به كتابه وما امتاز به شخصه على جميع البشر من سابق أو لاحق أو
آتٍ إنما كان بعد أن بلغ أربعين سنة في الأُمية بين أهل الشرك والجاهلية فهل يُعقل
أن تحدث هذه المزايا العلمية العملية الأدبية العمرانية الحربية السياسية الاجتماعية
لرجل في سن الكهولة دفعة واحدة؟ كلا إن هذا لا يعقل أن يكون إلا بوحي وتأييد
من الله عز وجل. ولكن كثيرًا من الباحثين في مثل هذه المسألة يبحثون فيها من
جهة واحدة منصرفين عن سائر الجهات فلا يحيطون بسائر أطراف المسألة،
والصوارف عن أمثال هذه المباحث كثيرة، أظهرها: كون إنكار الأديان عندهم من
القضايا المسلمات، وكنت أرى أن للدكتور شبلي شميل مانعًا قلما يشاركه فيه غيره
في بلاده وهو عدّه الجرأة على التصريح بالتعطيل مزية من المزايا العظيمة التي
انفرد بها، وحب الامتياز من غرائز البشر الراسخة، فمن رأى نفسه قد انفردت
بشيء منه قلما يفكر ويبحث في شيء من شأنه أن يذهب بما انفرد به، على أن
رجال الدين الذين على مذهب أسرته الذي نشأ عليه ثم ارتد عنه قد حكموا بأنه تاب
من ردته وعاد قبل الموت إلى دينه ومذهبه الأوَّلَيْن، ولذلك جنَّزوه وصلوا عليه في
كنيستهم ودفنوه في مقابرهم، وجماهير الناس يرتابون في ذلك أو يجزمون بخلافه
ويعدون هذا من غرائب تساهل الكاثوليك.
كان الدكتور شبلي شميل من دعاة الاشتراكية وهو مستقل برأيه فيها غير مقلد
لطائفة من طوائفها، وكان ماديًّا في آرائه وأفكاره إلا أنه كان متحليًا بكثير من
الأخلاق الحسنة المحمودة التي يضاد بعضها ما تقتضيه الأفكار المادية التي غلبت
على عقله وخياله، كالرأفة والسخاء والصدق والوفاء والنجدة والمروءة والشجاعة
وغير ذلك. وإن تحلي بعض المعطلين بالفضائل من أقوى الشبهات على الدين في
هذا العصر، فإننا نسمع كثيرًا من المرتابين أو الراسخين في الكفر يقولون: أيّ
حاجة للناس في الدين وإننا نرى كثيرًا من المصلين الصائمين منغمسين في
المعاصي والرذائل، بل ترى كثيرًا من رؤساء الأديان الرسميين كذابين طماعين
أدنياء بخلاء لا يُرجى منهم معروف، ونرى فلانًا وفلانًا مما لا دين لهم متحلين
بالأخلاق الفاضلة والآداب العالية والسبق إلى عمل المعروف، وقد أجبت عن هذه
الشبهة في المنار غير مرة واتخذت تأبين الدكتور فرصة لبيان ذلك للجمهور.
في اليوم المتمم للأربعين من تاريخ وفاته أقام النادي السوري في
القاهرة حفلة تأبين للدكتور الذي هو من نوابغ السوريين بلا خلاف، أجاب الدعوة
فيها مئات من أهل العلم والأدب والوجاهة من سكان القاهرة على اختلاف مذاهبهم
ونِحلهم فغصَّ النادي بهم، وافتتح الجلسة رئيسها أحمد حشمت باشا بخطبة وجيزة
أطرى فيها المؤبَّن إطراءً كبيرًا. ثم دعي الدكتور يعقوب صروف إلى الكلام في
علم الدكتور شميل، وهو أعلم الناس به وبعلمه فجاء من ذلك بخلاصة جمعت
فأوعت. ثم دُعيت إلى الكلام على أخلاقه فقلت ما خلاصته على ما أتذكر الآن:
(أشكر لإدارة النادي السوري اختيارهم إياي للكلام في أخلاق الدكتور شبلي
شميل، فإن الكلام في الأخلاق أحب إليَّ؛ لأن أثرها في حياة الناس العملية أعظم
من أثر العلم؛ لأن العلم يبين طرق العمل، والأخلاق هي التي تبعث عليه وتهدي
إلى الغاية منه، فحُسن الأخلاق هو الذي يجعل العلم نافعًا وسوء الأخلاق قد يجعله
ضارًّا، ولذلك شبه حكماؤنا علم فاسد الأخلاق بالسيف في يد المجنون، وإننا نرى
مبلغ تأثير ضرر العلم بسوء استعماله في الحرب الأوروبية الحاضرة التي كان
الموقد لنيرانها بعض الأخلاق المذمومة من الطمع والكبر وحب العلو واستعباد
الأقوياء للضعفاء.
على أن العمل النافع لا يرتقي إلا بالعلم، وما ساد بعض الأمم على بعض إلا
بالعلم، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩) وإنما
تظهر حقيقة المرء وتُعرف ترجمته ببيان علمه وأخلاقه وأعماله، وقد أحسن
النادي باختيار العلامة الدكتور صروف للكلام على علم الدكتور شميل فهو أعلم
منَّا بهذه العلوم وبمكان الرجل منها، وقد جاء بفصل الخطاب في ذلك.
كان الدكتور شميل متحليًا بعِدّة من الأخلاق الحميدة التي لا يرتقي العمران
البشري إلا بكثرة المتحلِّين بها في الأمم كالصدق واستقلال الرأي والشجاعة والثبات
والسخاء والوفاء والنجدة والمروءة والرأفة، يعرف له ذلك كل من عرفه، وكل
خلق من هذه الأخلاق له تأثير في أعمال الناس ومعاملاتهم، ولا يمكن بيان ذلك
بالتفصيل في وقت قصير محدود كوقتنا هذا وإنما أشير إلى بعض ذلك بالإيجاز
فأقول:
إن من أضر مفاسد الكذب طمس الحقائق وإبطال ثقة الناس بعضهم ببعض،
فالكذاب لا يوثَق بخبره ولا بعلمه ولا برأيه ولا يمكن أن يرتقي قوم فُقدت الثقة من
بينهم. ومن أكبر بواعث الكذب الجُبن، ولولا ما أوتي الدكتور شميل من الجرأة
والشجاعة لما أمكنه أن يكون صادقًا يقول ما يعتقد، وإن كان مما ينكره عليه
ويكرهه منه أهله وقومه والسواد الأعظم من أهل وطنه، والشاهد على هذا
تصريحه قولاً وكتابة بالآراء التي تخالف عقائد هؤلاء الذين يعيش معهم،
والمعروف أن الخوف من عاقبة قول الصدق، هو الذي يحمل الناس على الكذب،
ولذلك يكثر في عهد الاستبداد والظلم، ولكننا نرى كثيرًا من كبراء الحكام ورؤساء
الناس في بلاد كثيرة يكذبون على رعاياهم ومرؤوسيهم، فلا يتجرؤون على
التصريح لهم بما لا يرضيهم، وإن كان التصريح خيرًا لهم، وهكذا يعيش كثير من
أكابر الناس وأصاغرهم عيشة الكذب والغش والرياء والنفاق لجبنهم وضعف ملكة
الاستقلال فيهم، ولم يكن شميل مرائيًا ولا منافقًا بل كان مستقلاًّ شجاعًا يقول ما
يعتقده حقًّا وصوابًا غير هيَّاب ولا وَجِل.
وكان على جرأته وشدته في آرائه رقيق القلب سخي النفس، فكان إذا دُعي
إلى معالجة فقير يخف إليه مرتاحًا ويعالجه مجانًا، وربما اشترى له الدواء، وزاده
ثمن الغذاء، على أنه لم يكن ذا فضل من المال، وإننا نرى كثيرًا من الأغنياء
البخلاء، يحتالون على أكل أموال الناس حتى الفقراء والأدباء، ونحن أصحاب
الصحف قد جرَّبنا جميع أصناف الناس فوجدنا في كل صنف منهم (حتى علماء
الدين وكبار الحكام من قضاة وغيرهم) أناسًا يتعمدون هضم الحق فيعِدُون جابي
الصحيفة ويمطلون، حتى تمر الشهور والسنون، ولا يصدقون ولا يفون. فهل
يمكن أن ترتقي أمة إلا بزوال هؤلاء أو زوال النعمة من أيديهم؟ إن السخي لا يمنع
حق أحد؛ لأن من يعطي الناس من ماله ما ليس لهم، لا يعقل أن يمسك عنهم ما
هو لهم، وفي مثل شائع بين كثير من المسلمين: إن الذي يزكي لا يسرق.
وهنا مسألة مهمة تخفى على كثير من الناس، وهي إن أكثر مكارم الأخلاق لا
تنطبق في النفس إلا بالتربية الدينية، وتكون عرضة للفساد بالتعطيل والأفكار
المادية، فكيف اتصف الدكتور شميل بتلك الأخلاق الحسنة مع كونه كان ماديًّا
متعطلاً؟ يحتج بهذه الشبهة بعض الملاحدة على عدم الحاجة إلى الدين قائلين: إننا
نرى فلانًا وفلانًا ممن مرقوا من الدين أفضل أخلاقًا وآدابًا من المتدينين الذين نرى
من رؤسائهم وعلمائهم من فشا فيهم الكذب والطمع والدناءة والبخل والجبن والرياء
والنفاق، والجواب عن هذه الشبهة أن فاسدي الأخلاق من المنسوبين إلى الدين لم
يتربوا تربية دينية صحيحة بل لم يكن لهم حظ من الدين إلا الاسم أو تعوّد بعض
العبادات من غير فَهْم لحكمها ولا قيام بحقها، وإن أولئك المتعطلين الحسني الأخلاق
قد تربوا تربية دينية تكونت بها أخلاقهم، فقد حدثني الدكتور شميل عن نفسه أنه
كان في نشأته الأولى مبالغًا في التدين مواظبًا على العبادة، وأن فكرة التعطيل ما
طرأت عليه إلا بعد سفره إلى أوروبة، فقد لقي في فرنسة عالمًا ماديًّا قال له كلمة
هدمت عقيدته الدينية هدمًا، ولم يذكر تلك الكلمة. وأقول: إنها لم تهدم تأثير التربية
الدينية في نفسه، ولا ما ورثه من أخلاق أهل بيته، ولا عجب فقد ثبت في العلم
الحديث أن لكل نوع من المدرَكات الفكرية والوجدانية مركزًا خاصًّا في دماغ
الإنسان، وما كل فكر يأخذه المرء بالتسليم يؤثر في أخلاقه وآدابه العملية بل لا بد
في هذا التأثير من التربية العملية أو كونه عقيدة يجزم صاحبها عقلاً ووجدانًا بأن
العمل بمقتضاها سعادة، وتركها شقاوة لا تعد لها شقاوة، وفكرة الإلحاد ليست كذلك،
فهي قد كانت محصورة في مركز صغير من دماغ الدكتور شميل له صلة بلسانه
ولا سلطان له على قلبه، ولذلك كانت تظهر أحيانًا في كلامه، ولكنها لم تنزع من
نفسه ما تربى عليه في بيته من الأخلاق الدينية كالصدق والرحمة والسخاء وغير
ذلك) .
ثم ذكرت في التأبين رأي الدكتور في الإسلام وفي نبينا -عليه الصلاة
والسلام- وقرأت كتابه وأبياته في ذلك، وقد تقدم ذكرها في هذه الترجمة.
هذا ما أتذكره من كلامي في أخلاق الدكتور شميل لم أترك منه شيئًا ولكنني
زدت مسألة الشبهة الأخيرة إيضاحًا؛ لأنني رأيت بعض الناس لم يفهمها حتى قال
لي بعضهم: إن التأبين يقصد به المدح وأنت ذممت الرجل وجعلته مجنونًا، وإنما
أخذ جعلي إياه مجنونًا من قولي: إن فكرة الكفر والإلحاد قد طرأت على دماغه في
الكِبَر، وقد عبرت بكلمة المخ بدل الدماغ ففهم ذلك الرجل وغيره من ذلك ما فهموا
ولغطوا به.
ثم دعي الدكتور كحيل إلى الكلام في سيرة شميل الطيبة فقرأ خطبة طويلة
بالفرنسية بيَّن فيها ذلك. ودُعي محمد حافظ بك إبراهيم فأنشد قصيدة بليغة استعاد
الجمهور كثيرًا من أبياتها مرارًا. ودُعي أيضًا كل من أنطون جميل الأديب
المشهور وحسن أفندي الشريف وهو شاب من أبيار وأميل أفندي زيدان صاحب
الهلال فألقى كل منهما خطبة فصيحة أطرى فيها الفقيد إطراء الشاب الممتلئ إعجابًا
بآرائه وأفكاره ونشاطه وهمته، فدل ذلك على تأثير الرجل في أنفس النابتة الجديدة
ثم قام ابن أخيه رشيد بك شميل صاحب جريدة البصير فشكر للنادي السوري
وللمؤبنين عملهم، وانفضت الحفلة.