للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خاتمة السنة التاسعة عشرة للمنار

بحمد الله تعالى نختتم المجلد التاسع عشر جاعلين حجمه وعدد أجزائه كما بيَّنَّا
في خاتمة المجلد الذي قبله؛ لأن الورق قد قلّ وروده وزاد غلاء ثمنه حتى إن ما
كنا نشتريه قبل الحرب بمئة قد صار ثمن مثله أربعمائة أو خمسمائة.
وقد جرينا في إصدار أجزاء هذا المجلد على ترتيب الشهور الذي اضطررنا
إليه العام الماضي حتى إننا بدأنا بطبع هذا الجزء في الشهر السادس من سنة١٣٣٥
إذ كان هو الشهر العاشر لسنة المجلد التي كان بدؤها شهر شعبان سنة ١٣٣٤، ولكنا
اضطررنا بعد طبع أكثره إلى تأخير إصداره إلى شعبان، وكان من أسباب ذلك
وعكة عرضت لنا، وتلتها وثأة أصابت يدنا اليمنى، ومنها مرض عرض لمن
يتوقف عليه العمل في المطبعة، وأقوى الأسباب أنني لم أكن أكره مثل هذا التأخير
في هذه السنين النحسات التي حجب فيها المنار عن قرائه في بلاد كثيرة فقلَّت
الاستفادة منه وقلَّ دخله من حيث كثرت نفقته ونفقتنا، لم أكن أكره هذا ولم أكن
أتعمده، فلما عرضت الأسباب له لم أجتهد في مقاومة ما يمكن مقاومته منها، فإذا
رحم الله تعالى البشر فصرف عنهم شر هذه الحرب عن قريب وعادت المياه إلى
مجاريها، فلنا الرجاء بأن نتدارك ما فات بإصدار جزئين في كل شهر إلى أن تعود
سنة المنار إلى ما كانت عليه من غير أن تنقص مجلداته عن عدد سنيِّه القمرية،
وإذا أراد الله أن يطول أجل الحرب، فالأرجح أن نتعمد تأخير بعض الأجزاء من
المجلد العشرين إلى أن ينتهي بانتهاء سنة ١٣٣٦ فيضيع بذلك مجلد من حساب السنين
القمرية، ولا تلبث مجلدات المنار أن توافق عدد سنيها الشمسية، ونحن إنما
نتقاضى اشتراك المنار عن المجلدات لا عن السنين فلا يضر المشتركين تأخر
بعض الأجزاء. على أن بدء المجلد العشرين سيكون في التاريخ الذي بدأ فيه الجلد
التاسع عشر فلا تأخير جديد.
هذا وإن ما كنا قد ادخرناه من الورق لهذا المجلد قد اضطررنا إلى استعمال
بعضه لمطبوعات أخرى (كذكرى المولد النبوي) فلم يكن كافيًا، وقد وُفقنا لابتياع
طائفة أخرى من ورق خير من ورقه لأجل المجلد العشرين تكفيه إذا صدر بحجم
هذا المجلد فلا يخشى أن يتوقف صدوره من عدم الورق، وإن انقطع الوارد عن
مصر انقطاعًا تامًّا، وليس هذا الانقطاع ببعيد؛ إذ اشتدت وطأة الحرب فقد علمنا من
أخبار أوروبة أن أعظم دول الصناعة تشكو من قلة الورق، وقد نقصت صحفها من
عدد أوراقها وقيل: إن بعضها سيحتجب أو يبطل صدروه، فما القول في بلادنا
التي تجلب كل الورق الذي تحتاج إليه من أوروبة، وقد تضاعف ثمنه هنالك
وتضاعفت أجرة نقله، وما كل ما ينقل يصل بل تُغرق الغواصات بعض السفن
التي تحمله. فعسى أن يكون علم المشتركين بهذه الأحوال باعثًا لهم على أداء قيمة
الاشتراك بلا مطل ولا تسويف.
ونذكِّر المشتركين الكرام بشيء ربما يغفل الكثيرون عنه، هو نفقة الجباة أو
وكلاء التحصيل فإن الذي كان يرضى بعشرين في المئة مما يجمعه أصبح لا
يرضى بخمسة وعشرين، وقد طاف بعض إخواننا في بعض البلاد طوفة للتحصيل
على نفقتنا فبلغت نفقته أربعين في المئة مما جمعه، ويا ليته جمع من كل مدينة أو
قرية جميع ما يطلب من مشتركيها واستغنى عن العودة إليها بقية العام. كلا إن
بعضهم لوَّى وسوَّف وطلب النظرة مع الميسرة لا إليها، فإذا كان أهل كل بلد لا
يؤدون ما عليهم إلا بعد أن يسافر إليهم الجابي مرارًا بمثل تلك النفقة أو ربما دونها
قليلاً فماذا يبقى لصاحب الصحيفة في مقابلة سائر النفقات، ثم ماذا يبقى له بعدها
في مقابلة عمله لأجل نفقته؟ فمن تأمل هذا نهاه قلبه (ضميره) أن يسوّف في أداء
ما عليه، وأن يلجئ الجابي إلى تكرار العودة إليه، وإن كان قد اعتاد الإرجاء
والتسويف.
***
الانتقاد على المنار
لم يكتب إلينا في هذه السنة انتقاد ما على شيء من مباحث المنار إلا ما كتبه
بعض إخواننا من إخبارنا بكراهة كثير من الناس لما يُكتب في المنار من الفلسفة
السياسية (كذا كتب بعضهم) وقد كلمنا غير واحد من الإخوان في ذلك مشافهة
وصرحوا بأن ما يكرهون من المنار هو طعنه في الحكومة التركية الاتحادية على
علاتها التي يصدق أخبارها السوءى بعضهم دون بعض، وتأييده للحركة العربية
الحجازية. وقد أجبت عن هذا الانتقاد بأنني كتبت في ذلك ما أعتقد أنه حق وأن
بيانه واجب عليّ لملَّتي وأمتي، وسيعلم من لا يكره أن يعلم أنني كنت ناصحًا
مخلصًا وعلى حق وصواب، وقد كنت كتبت لهذا الجزء مقالة تاريخية طويلة
للمسألة العربية بينت فيه إخلاص العرب للدولة إلى أن اضطرتهم الحكومة الاتحادية
إلى ما اضطرتهم إليه من مقاومة بغيهم، ضاق عنها هذا الجزء، وستُنشر في
الأول من المجلد العشرين -إن شاء الله تعالى-.
وانتقد بعض الإخوان والمحبين شدة العبارة التي انتقدنا بها بعض الشبان الذين
ذهبوا إلى الحجاز وأخلوا فيه بالواجبات، وفاهوا بالمنكرات قائلين: إن بعض
الناس قد أولوها بغير ما قصد بها من النصح، ثم علمنا أن ذلك التأويل كان في بلد
نحن من أشد الناس إخلاصًا له وغيرة عليه؛ إذ عد الانتقاد طعنًا في حكومة الحجاز
نفسها، واقترح علينا أن نصرح بغرضنا من ذلك النقد فنقول:
إننا لم نكن نظن أنه يخطر ببال أحد يقرأ المنار أو يعرف مشربنا في الجملة
أننا نقصد بتلك العبارة غير النصح لمن اعتادوا التهاون بأمور الدين أن يراعوا
الفرق بين البلاد المقدسة وغيرها، وأن لا يجعلوا أنفسهم حجة لأهل الحجاز -ولا
لغيرهم- على رجال النهضة الجديدة وطلاب الإصلاح للأمة العربية فتبطل الثقة
بهم، وربما يكون سببًا لسوء الظن بالحكومة العربية الجديدة إذا انتظم أولئك
المنتقدون فيها، على أن ما حكيناه عن بعضهم كان قبل تأسيس هذه الحكومة فليس في
عبارة الانتقاد ذِكر لها ولا لكون المنتقدين انتظموا في سلك خدمتها، وكلامنا صريح
في هذا لا يكاد يتبادر إلى الذهن غيره، وقد كنا نُسدي مثل هذه النصيحة لمن نراه
من أولئك الشبان قبل سفرهم ولكن يتعذر رؤية كل من يسافر لهذا الغرض فتعين
النصح بالكتابة، ونحن العرب أحوج الناس إلى الوحدة والاتفاق ونبذ الخلاف
والشقاق والاجتهاد في جعل الحكومة التي تجددت لنا في أحسن حال ممكنة، وهذا
ما نقصده من نصحنا، والله يعلم حُسن نيتنا.
ونُقل إلينا أن بعض الناس استنبط من عبارة المنار في هذا الموضوع أننا
نقول بوجوب لباس الإحرام على كل من يسافر إلى مكة ولو بقصد التجارة، وهذا
من سوء الفهم، ومعاذ الله أن نقول بذلك، وإنما يجب لباس الإحرام على من قصد
الحج أو العمرة دون غيره. ومن شأن المتدين أن يغتنم فرصة ذهابه إلى الحرم
فيحج أو يعتمر، وأسأل الله تعالى أن يوفق كلاً منا للقيام بما يجب عليه،
والإخلاص فيه، والحمد لله أولاً وآخرًا.