للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة السنة العشرين للمنار

بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله تعالى وأشكر له توفيقه وتأييده، حمدًا يوافي نعمه وشكرًا يكافئ
مزيده، وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، ورحمته العامة المرسلة وحجته
القائمة على خلقه، محمد النبي الأمي العربي الذي بعث في الأميين؛ ليعلمهم
الكتاب والحكمة ويجعلهم الأئمة الوارثين، ويُصلح بهم فساد الأمم والشعوب
المتعلمين وغير المتعلمين، وعلى عترته آل بيته الطاهرين، وأصحابه الذين
نشروا دعوته بين العالمين، وعلى التابعين لهم في هدايتهم وهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد دخل المنار في العام العشرين، داعيًا إلى الاعتصام بحبل الله
المتين، والاهتداء بنوره المبين، والاستمساك بسنة رسوله الأمين، والسير على
منهج السلف الصالحين، مبينًا أن الخير كل الخير في اتباع مَن سلف، وأن الشر
كل الشر في ابتداع مَن خلف؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين فلا يقبل زيادة كمال،
فالزيادة فيه كالنقص منه خزي وضلال، وإنما الناقص الذي يحتاج دائمًا إلى
الإكمال والإصلاح، ما كان من أوضاع البشر عرضة للنقص والفساد، مثبتًا أن
ضعف الشعوب الإسلامية إنما جاء من عملهم بعكس هذه القضية، أعني الابتداع
في الأمور الدينية، واتباع مَن قبلهم في الأمور الدنيوية. فالأمم في ارتقاء دائم،
وهم في جمود ملازم، غلب عليهم الجهل المركب، فهم للعلم يدعون، ورُزِئوا
بالفقر المدقع، وهم في الدنيا طامعون، وخنعوا للضيم والذل، وهم معجبون
متكبرون، وخضعوا لظلم المتغلبين وهم بالمُلك والسيادة مفتونون {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: ٦٩-٧٠) .
خسروا أنفسهم، فخسروا كل شيء، وهل خسران النفس إلا فقْد استقلالها في
الفهم والعلم والحكم؟ ، وتقليد الآباء والأشياخ المتأخرين في جميع أمور الدنيا
والدين؟ ، فالتحقيق أنهم مقلدون حتى في الابتداع؛ لأنهم فقدوا ملكة الاستنباط
والاختراع؛ وقد ساروا بحسب الظاهر على الطريقة الثابتة بالعقل والاختبار،
وهي كون علوم المتأخرين وفنونهم أجدر بالثقة والاعتبار، سنة الله في التدريج
والارتقاء، على أنهم يعتقدون بحق أن متقدمي هذه الأمة خير من متأخريها في
جميع العلوم والأعمال؛ لأن الخلف لم يسيروا على سنة السلف في الاجتهاد
والاستقلال؛ ولو ساروا عليها لفاقوهم في كل ما هو من كسب الناس. وهم إنما
يقلدون المتأخرين؛ لأنهم لا يرون أنفسهم أهلاً لاتباع المتقدمين، إذ يزعمون أن
المتأخر أضعف من المتقدم عقلاً وفهمًا، وربما اعتقدوا أنه أقل قوة وأنحف جسمًا،
وأن هذا التفضيل منحة إلهية وهبية، لا يمكن إدراكه بالأسباب الكسبية، غافلين
عن سنة الله تعالى في سائر الأمم والأجيال، وسبق المتأخرين للمتقدمين في جميع
العلوم والأعمال، حتى أن الله تعالى سخر لمراكبهم الهواء، كما سخر لها الماء،
وسخر لها من البحار لججها وأعماقها، كما سخر لها متونها وأمواجها، بل سخر
الله تعالى لهم ما في السماوات وما في الأرض، فما كان مسخرًا لغيرهم بالقوة صار
مسخَّرًا لهم بالفعل. فما بال جماهير المسلمين لا يسمعون ولا يبصرون، ولا
ينظرون ولا يتفكرون، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) .
كل ما هو مسخر للبشر، وكل ما هو من كسب البشر، فهو قابل للارتقاء،
إذا لم يجمد الأبناء فيه على ما ورثوه عن الآباء. وكل ما ينفع الناس من العلوم
والفنون والأعمال، فهو مما يتناوله كسبهم وتصرفهم بمقتضى الاستعداد الخاص
والتسخير العام، إلا الدين الإلهي، والوحي السماوي، وقد أكمل الله لنا الدين، كما
ثبت بنص الكتاب المبين، فما بالنا قد ابتدعنا فيه كثيرًا من الشعائر، كمواسم الأيام
الفاضلة والموالد، وكثيرًا من العبادات التي لا أصل لها من السنة والكتاب، كأذكار
أهل الطرق وما استحدثوا من الأوراد والأحزاب، بل ما بالنا نبني المساجد على ما
نشرّف من القبور، ونوقد عليها السرج والشموع؟ ! ، ونحن نعلم أن فاعلي ذلك
ملعونون على لسان الرسول، بل ما بالنا نطوف بهذه القبور كما نطوف ببيت الله،
وندعوها مع الله أو من دون الله، ونحن نعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله -
أن هذا عبادة لها من دون الله؟ ، أنتبع في هذا عمل الآباء المتأخرين، ونحن نتلو
ويُتلى علينا قول الله تعالى في المشركين، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا
بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: ١٧٠) .
إنا لندعو الناس إلى عقيدة السلف ونحن بها موقنون، ونرشد من بَلَغَتْه
الدعوة إلى سيرتهم الدينية ونحن على طريقتها إن شاء الله مستقيمون، وإنما نورد
في باب التفسير وغيره من المنار بعض تأويلات الخلف للآيات والأخبار، وما قد
يخالف مذهبهم من الآراء العصرية، وخاصة في مقام الدفاع عن القرآن والسنة
النبوية؛ لأن الضرورة ألجأت إليها، بتوقف إقامة الحجة، أو دحض الشبهة عليها،
فإن المنار ليس خاصًّا بالمذعنين للكتاب والسنة من المؤمنين، بل يكتب لهم
ولغيرهم من المبتدعين والمنافقين والكافرين، ومنهم المنكر الجاحد، والمجادل
المعاند، ومنهم المشتبه المغرور بشبهته، والمرتاب المتردد في ريبته، وحسبنا من
الفلج أن نقنع بتأويل الخلف، من تعذر إقناعه بتفويض السلف، وأن ندحض
الشبهة برأي جديد، إذا أعيا دحضها برأي تليد، إذ يكفي في صحة الإيمان الجزم
بأن كل ما جاء به الرسول عن ربه فهو حق، وفي صحة الإذعان موافقة السلف
في مسائل الإجماع العملية وما لا يحتمل التأويل من النص، ولا حرج في دين
الفطرة فيما اقتضته الفطرة من تفاوت الأفهام، مع صحة قواعد الإيمان وإقامة
أركان الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرّ أصحابه على مثل ذلك في مسائل
الأحكام، كتارك الصلاة والمصلي بالتيمم للجنابة، والمختلفين في صلاة العصر يوم
بني قريظة [١] .
ورُب فهم جديد يؤيد دين الحق أعظم التأييد، ومن مزايا القرآن أنه لا تنتهي
عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، وأن من آياته ما يظهر في زمان دون زمان، وهل
يظهرها إلا أفهام أهل العرفان، الذين هم حجة الله في أرضه، على الجاهلين
والجاحدين من خلقه، ولن يخلوا عنهم عصر من الأعصار، وإن خلت منهم بعض
البلاد والأمصار، وكم من عالم ينتفع بعلمه الغائب البعيد، ويحرم منه القريب العتيد
{قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: ١٤٩) .
تلك دعوة المنار، التي رددت صداها الأقطار، فكانت كالبرق المبشر بما
يتلوه من المطر، في نظر سليمي العقول صحيحي الفِطَر، وكالصواعق المحرقة
على أهل البدع، ومتعصبي الأحزاب والشيع، وقد آذانا لأجلها الظالمون، فصبرنا
لله وبالله، ولم نكن كمَن أُوذي في الله فجعل فتنة الناس كعذاب الله، وجهل علينا
بعض أحداث السياسة المغرورين، وبعض أدعياء العلم الجامدين، فقلنا: {سَلامٌ
عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: ٥٥) ، وكاد لنا أعداء الدعوة كيدًا خفيًا،
أضرّ بنا ضررًا جليًا؛ إذ حُجب المنار عن كثير من قرائه الأخيار، وحرمنا بذلك
وبغيره كثيرًا من المال، وحسبنا أن حَمِدَ الدعوة كل مَن عرفها من طلاب الإصلاح،
وأهل الروية والاستقلال، وأما الأزهريون خاصة، فقد كانوا أزواجًا ثلاثة،
فقليل من الشيوخ وكثير من الشبان - يرون أن المنار من ضروريات الإسلام في
هذا الزمان، وكثير من الشيوخ والشبان يكرهون منه حمد الاستقلال وذم التقليد،
ورمي جماهير علماء العصر بالجمود والتقصير، والسواد الأعظم منهم مشغولون
بأمور معيشتهم، وبمطالعة دروسهم ومناقشات طلبتهم، عن النظر في مثل المنار
لتقريظ أو انتقاد، وعن كل ما يتجدد في الدنيا من إصلاح وإفساد، وقد دخل المنار
في السنة العشرين، ولم ينتقده أحد من الأزهريين، إلا أنه قام في هذا العام شاب
متخرج في الأزهر، فنشر في بعض الجرائد الساقطة مقالات سبَّ فيها صاحب
المنار وكفَّر، بانيًا ذلك على زعمه أنه أنكر كون آدم أبًا لجميع البشر، على أن
المنار قد صرح بإثبات هذه الأبوَّة تصريحات، آخرها ما في الجزء الأول من
المجلد التاسع عشر، وزعمه أنه فضَّل شبلي شميل على الخلفاء الراشدين، ويعلم
كذب هذا الزعم مما نشرناه في شميل من ترجمة وتأبين، ومَن لا يَزَعه هديُ
القرآن، عن السب والكذب والبهتان - قد يَزَعْه عقاب السلطان؛ لهذا رفع أحد
كبار المحامين عنا أمر هذا الطعن إلى محكمة الجنايات، بعد أن أنذرْنا بذلك كاتب
المقالات، ونصحنا له بلسان بعض ذوي رَحِمه وصحبه، بأن يستحلنا تائبًا من ذنبه،
فلم يزده ذلك إلا إصرارًا على الذنب، وتماديًا في الطعن والسب، ولكنه جنح في
المحكمة للسلم، وطلب - هو وصاحب الجريدة - من رئيسها الصلح، على أن
يعتذروا عما اتهما به من المطاعن الشخصية، ويعترفا باحترام عقيدة صاحب المنار
وآرائه الدينية، وأمضيا عبارة في ذلك أُثبتت في محضر القضية، وقد قبلنا ذلك
منهما، وكان خيرًا لهما لو فعلاه من تلقاء أنفسهما، على أنهما عادا إلى هذيانهما،
ولا قيمة عندي لمثل هذا الكلام، فإنه مما يقال لصاحبه: سلام، وإنما ذكرناه في
فاتحة المنار التي نشير فيها عادة إلى ما تجدَّد في تاريخ الإصلاح، تمهيدًا لذكر ما
قيل إنه ترتب على تلك القضية، من تأليف جمعية أزهرية، لأجل البحث عن أغلاط
المنار الدينية والعلمية، وبيانها للناس وللحكومة المصرية؛ ذكرت ذلك الجريدة
التي وقفت نفسها على الطعن في صاحب المنار، متوهمة أنه سيترتب عليه
إبطال المجلة أو إخراج صاحبها من هذه الديار؛ لأن عند أعضاء هذه الجمعية من
حقائق العلوم الأزهرية، ما ليس عند صاحب المنار، الذي تلقى العلم في البلاد
السورية؛ ... فنقول للواهمين، ولمن يمدونهم في غيهم من المغرورين: إنا نعلم
من كُنه علم الأزهر ما لا تعلمون، فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا
إنا منتظرون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى
عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: ١٠٥) .
إننا ندعو إلى الله على بصيرة، ونكتب ما نكتب عن علم وبينة، ولكننا
كغيرنا عرضة للخطأ والغلط، كما هو شأن غير المعصومين من البشر؛ فلهذا
ندعو قراء المنار في كل عام، إلى أن يكتبوا إلينا بما يرونه فيه من الأغلاط
والأوهام، لننشره فيه، فيطلع عليه جماهير قارئيه، وإنا لنتمنى أن تؤلَّف لجنة من
علماء الأزهر، تقرأ مجلدات المنار التسعة عشر، وتُحصي ما تراه من الأغلاط
المتفق عليها، بقدر ما يصل إليه علمها وفهمها، وأن تتحرى في ذلك ما يليق
بكرامة أهل العلم، من صحة النقل والتروي في الحكم، واجتناب الطعن والبذاء،
والسخرية والاستهزاء، وإننا نَعُدُّ ذلك إذا سمت إليه همة بعض الأزهريين - أعظم
خدمة للمنار، يُخدم بها العلم والدين، ونعِد بأن ننشر لهم ما يكتبونه فرحين
مغبوطين، مقرين إياهم على ما نراه فيه من الصواب، مبيّنين ما نراه من الخطإِ
مع التزام الآداب، وترديد عبارات الحمد والشكر، التي تبقى بقاء الدهر، ولَثَوابُ
الله خيرٌ للذين يُصلحون في الأرض ولا يفسدون، والذين هم على البر والتقوى
يتعاونون {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) .
وإننا على ضعف أملنا بتحقُّق تلك الأمنية، واحتقارنا لكل ما يُكتب
بجهالة وسوء نية - لَيحزُننا أن يقوم في الأزهر بعض علمائه، ورئيس
جمعية من جمعياته، ينتقم ممن يقاضي بعض أصحابه، بافتراء الكذب
عليه [٢] ، ونسبة ما ينقله عن غيرنا إليه [٣] وتحريف آيات القرآن، استدلالاً بها
على ما رماه به من الكفر والفسق والعصيان [٤] بذلك الكذب والبهتان،
الذي زاد فيه على ما سبقه إليه ذلك الطعان، وإننا لَنكرمُ كلاً من المنار والأزهر
بعدم ذكر اسمه، وعسى أن يثوب إلى رشده، ويتوب من إثمه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: ٦) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ
يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: ١١) .