للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار
حكمة تحريم الدم المسفوح
(س٨) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا
ما قولكم دام فضلكم في الدم المنصوص على تحريمه في القرآن الشريف
مقيدًا بالمسفوح مرة، وغير مقيد مرارًا، وما الحكمة في تحريمه؟ أفيدونا
الجواب ولكم الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... طبيب جمعية الرفق بالحيوان
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن ذهني
(ج) الدم المسفوح هو الذي حرم الله شربه وأكله، وهو الذي يراق من
الحيوان بذبح أو جرح أو غيرهما، وتقييده بالمسفوح هو الذي نزل أولاً في سورة
الأنعام، وما نزل بعده مطلقًا فهو محمول على ذلك المقيد بقيده. واحترز بالقيد عن
الجامد كالطحال، وعما يخالط اللحم من المائع القليل فإنه لا يسفح. وقد بينا في
تفسير آية محرمات الطعام من سورة المائدة أن حكمة تحريمه أمران:
أحدهما: أنه خبث تستقذره الطباع السليمة، فوجب التنزه عن جعْله غذاءً
للمؤمنين الطيبين الذين لا يليق بهم إلا الطيبات.
وثانيهما: أنه ضار؛ لأنه عسر الهضم، ويشتمل على كثير من الفضلات
العفنة، وكثيرًا ما يشتمل على جراثيم الأمراض والأدواء الخطرة. فإن سهل على
بعض البارعين في العلوم الطبية معرفة مثل هذا واتقاء ضرره فهو لا يسهل على
جميع البشر من البدو والحضر المخاطَبين بهذا الدين العام. وتتمة الكلام على ذلك
في (ص ١٣٤ و ١٣٥ من جزء التفسير السادس) .
* * *
الكتابة
وطريق تحصيلها ومكان القرآن والحديث منها
(س٩) من صاحب الإمضاء بمصر
أستاذي الفاضل الشيخ رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله؛
وبعد؛ فإنا نعلم مكانتكم من العلم في هذا البلد؛ لذلك نرجو الإجابة على ما
يأتي:
إن فن الكتابة والتحرير الذي أحياه فينا الأستاذ الإمام ما زال يتصعد درجات
الكمال، حتى إنه ليخيل للناظر في كتابات هذا العصر أنه بين أولئكم الأعراب
البائدين أو العباسيين المتحضرين حسب اختلاف درجات الكتّاب. وقد توافقت آراء
الكاتبين على أن أقوم طريق إلى الكتابة النظر في كلام العرب وحفظ الجيد منه
والنسج على منواله. وإنا نجد أحسن كلام في جزالة الألفاظ ومتانة الأسلوب وعلو
المعنى كتاب الله تعالى وحديث رسوله، وإنا نحفظ الكتاب وكثيرًا من السنة، ومع
ذلك أرانا لا نجيد شيئًا من الكتابة، بل لم نصل فيها إلى الدرجة الوسطى من ذلك.
وقد بلغنا أن بعض النصارى كان يحفظ القرآن لهذا الغرض، وينتفع به، فبأي
عين نظر إليه ذلك النصراني حتى انتفع به وما بالنا ضللنا هذا الطريق في حين
أننا أولى به؟ ! وكم من رجل ما حفظ شيئًا من القرآن ولا عرف شيئًا من السنة
غير أنه زاول كثيرًا من اللغة العربية هو قليل بالنسبة لكتاب الله وسنة رسوله،
وبهذا طال باعه فيها، وذهب فيها مذاهب آبائها الأولين. فاللهم هيئ لنا ما يرشدنا
إلى الصواب. وإنا نرجو الاهتداء بهديك والاستنارة بمنارك إن شاء الله، فأجبنا
عن ذلك، وما السبب فيه على صفحات المجلة لفائدة القراء، ولكم الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد عليوة
(ج) كان الناس في أول العهد بالنهضة العلمية والأدبية التي جددها الإسلام
للعرب يطلبون اللغة العربية من أهلها بالتلقي والمشافهة، ولما سرت العُجمة إلى
الأمصار العربية بكثرة مخالطة العرب للعجم فيها - صار أبناء العرب ومواليهم من
العجم يرحلون إلى الأعراب في البوادي، فيقيمون عندهم زمنًا طويلاً يتلقون عنهم
العربية الخالصة من شوائب العجمة، ويحفظون أشعارهم ويروونها، كما يحفظون
ويروون الكتاب والسنة، فيتلقاها عنهم طلاب العلم والآداب في الأمصار، بالرواية
والدراية والاستظهار، ولما استنبطوا منها الفنون لأجل ضبطها وفهمها، وبيان
أسرارها وفلسفتها - وصاروا يتدارسون هذه الفنون في المساجد والدُّور والقصور،
مع تطبيق قواعدها على الشواهد من الكتاب العزيز والسنة، وأقوال العرب
وأشعارهم المحفوظة، فيجمعون بين مَلَكَة اللغة وذوقها، وبين فنونها وفلسفتها،
ومنهم من كان يضم إلى ذلك العلوم الشرعية والعلوم العقلية والكونية، ولا يَحُول
رسوخ ملكاتهم في العلوم والفنون دون رسوخ ملكة اللغة في منثور ولا منظوم، وقد
انسلخ القرن الخامس للهجرة والعلماء البلغاء كثيرون، حتى إذا ما تغير منهج
التعليم، وأسلوب التأليف، وقل الحفظ والحفاظ، وكثر الاختصار في الكتب وما
اقتضاه من البحث في الألفاظ - ضعفت ملكة اللسان، وسقطت مكانة البيان،
وصار جهابذة علماء الشرع واللغة، والمصنفون في فنون الفصاحة والبلاغة - لا
يستطيعون التفلت من عقل اصطلاحات علومهم وفنونهم البعيدة عن الأسلوب
العربي، إلا إلى أسجاع متكلفة أو عجمة أو عجرفة، ومَن شاء قايس بين عبارة
الزمخشري في الكشاف وعبارة الفخر الرازي في التفسير الكبير، وبين عبارة عبد
القاهر في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وعبارة السعد التفتازاني في المطول
والمختصر، فإذا كانت عبارة العلامة التفتازاني في دقتها وتحريرها نائية عن
براعة عبارة الإمام الجرجاني في فصاحتها ورشاقة أسلوبها، وإذا كانت عبارة
الإمام الرازي - على بسطها وإيضاحها - تكاد تعد ركاكة عامية في جنب عبارة
العلامة الزمخشري في متانتها وعلو أسلوبها، فما القول في المتأخرين الذين يعدون
منتهى العلم الاستعداد لفهم كلام مثل الرازي والتفتازاني، بل القدرة على المناقشة
فيه، وإيراد الاحتمالات والأجوبة في معانيه؟ !
أتى على الأمة العربية بضعة قرون وهي في تدلٍّ وضعف في اللغة، لا
يمضي عليهم قرن ولا عام إلا والذي بعده شر منه، وما سببه إلا تنكُّب سبيل
الأولين في حفظ الكثير من الكلام العربي الحر الفصيح وفهمه، ومعارضة أسلوبه
في نثره ونظمه، فكان إذا اتفق لأحد منهم ذلك بإلهام الفطرة، أو إرشاد أحد من
بقية أهل المعرفة، فصار كاتبًا بليغًا، أو خطيبًا مفوهًا، أو شاعرًا مجيدًا - أحال
الباحثون ذلك على ندور في الاستعداد، يكاد ينتظم في سلك خوارق العادات، حتى
إن ذلك النابغ نفسه يظل غافلاً عن السبب، دعْ مَن كان بعيدًا عنه أو كان منه على
كثب.
بلغ الجهل من أكثر أهل هذه القرون بهذه المسألة كل هذا ولم تكشفه عنهم
سيرة سلفهم، ولا ما يؤثر من العلم وطريقة التعليم عنهم، ولا ما شرحه الحكيم عبد
الرحمن بن خلدون في القرن الثامن في ذلك وفي هذه المسألة بخصوصها عند الكلام
على اللغة العربية وفنونها وآدابها، وتحصيل ملكة البيان فيها، فقد وَفَّاهَا حقها في
اثني عشر فصلاً من مقدمته المشهورة وهي الفصل السابع والثلاثون وما بعده إلى
الخمسين، ذلك بأنه كتب ما كتب والأمة في طور يقل فيها من يقرأ مقدمته، فيفقه
ويعتبر، ولم يكن كل من يفقه بالذي يقدر على تلافي الخطْب، والسير بالأمة في
الطريق القصد، وقد استبد بأمر الأمة الأعاجم الجاهلون، وقل العلماء المستقلون
وساد المقلدون.
أما هذه النهضة الأخيرة فقد كان حكيمنا السيد جمال الدين مقتدح زنادها،
وشيخنا الأستاذ الإمام قائد جيادها، ولكن السائل بالغ في إطراء المعاصرين من
كتابها، فنظمهم في سلك الأولين، من الفحول المقرمين، وما هم إلا عيال على بعض
المولدين، على قلة ما يحفظون من المفردات، وكثرة ما يخطئون في المركبات.
وأما سؤاله عمن حفظ القرآن من النصارى استعانة به على تحصيل ملكة
البلاغة - وهم ثلة من المتقدمين، وأفراد من المتأخرين - بأي عين نظروا إليه
وكيف صار بعضهم بليغًا دون كثير ممن حفظه من المسلمين وأضاف إليه شيئًا من
الأحاديث؟ ، فجوابه أنهم نظروا إليه بعين طالب الفصاحة والبلاغة، لا بعين
طالب الدين والهداية، والأمور بمقاصدها، وإنما يستفيد كل امرئ من كل شيء
مفيد بقدر ما تتوجه إليه إرادته من فوائده، وتحصيل ملكة البيان في العربية لا
تتوقف على حفظ القرآن الكريم، ولكن حفظه يكون مزيد كمال فيها لمَن حفظه
وقصد منه ذلك؛ لأنه أبلغ الكلام العربي وأعلاه أسلوبًا، وإن كان أسلوبه معجزًا لا
يمكن أن يُحتذَى مثاله، ومن حفظه لا يقصد ذلك منه لا يستفيد شيئًا من بلاغته،
كما أنه إذا لم يقصد الاهتداء به لا يستفيد من هدايته، ومن هنا تعلم أن حفظه وحده
لا يكفي في تحصيل ملكة البيان في اللغة العربية، بل يتوقف ذلك على ممارسة
الكثير من كلام بلغاء العرب في العهدين الجاهلي والإسلامي أو العهد الثاني فقط،
وإن هذه الممارسة هي الأصل في تحصيل ملكة البيان؛ لأنها هي التي تُحتذَى وقدر
القرآن الكريم أو ضعفه لا يكفي خلافًا لما تُظهره عبارة السائل وما قيل في القرآن
يقال مثله في الأحاديث النبوية وإن كان أسلوبها غير معجز؛ وذلك أن المحفوظ
منها قليل، وأكثرها جمل مختصرة، فلا تنطبع في نفس حافظها ملكة التصرف في
جميع الأغراض والمعاني. ومن لم يقصد استفادة البلاغة منهما لم يستفد منها شيئًا.
وإن من حفاظ القرآن عندنا مَن لا قصد لهم من حفظه إلا تجويد ألفاظه وتوقيع
آياته على الأنغام الموسيقية؛ ليُعجبوا أو يُطربوا مَن يستأجرونهم لقراءته في المآتم
أو ليالي رمضان، ومن الناس من لا ينظر فيه إلا بقصد البحث عن آية يمكن
التشكيك فيها، بحملها على غير ما أريد منها، ولا يعجزه أن يجد ذلك، وقد ذم
بعض الشعراء وجهًا أبيض أزهر فشبَّهه برئة الحيوان، وذم ابن الرومي الورد
فشبّهه بما ننزه عنه هذا الكلام. (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .