للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رحلة الحجاز
(٥)

مقامنا بمكة قبل الحج
تقدم أنني دخلت مكة ضحوة يوم الأحد (وهو الثالث من أيام ذي الحجة
بحسب تقاويم مصر وهو ما ثبت لدى حكومة مكة بعد وكانوا يعدونه الرابع في
تقاويمها) وإنني كنت متمتعًا بالعمرة إلى الحج، وإنني لم أتجاوز يوم الأحد دار
السيد الزواوي التي جئتها بعد الطواف والسعي إلا مساءً؛ إذ جئت المنزل الذي أُعد
لي من قِبَل الأمير - أحسن الله كرامته - وإنني لم أخرج منه إلا ليلاً بعد وصول
السيدة الوالدة والرفاق إلى قصر الأمير للتشريف بزيارته. ولقيت في القصر نجله
النجيب صديقي الشريف عبد الله، وليس في مكة من أنجاله النجباء سواه؛ إذ كان
قد وجَّه الأمراء الثلاثة عليًّا وفيصلاً وزيدًا إلى فتح المدينة المنورة والأمير عبد
الله إلى فتح الطائف، وتقدم أن فتح الطائف قد تم على يديه قبيل قدومنا، وأنه دخل
مكة منصرفًا عنها في وقت دخولنا.
وفي اليوم الثاني - وهو يوم الاثنين رابع ذي الحجة - علم الناس بوصولي
إلى مكة مع الحجاج المصريين، وذكرته جريدة القبلة في عددها الخامس عشر
الذي صدر فيه، فأقبل الكثيرون من الشرفاء والعلماء والوجهاء بزيارتنا وفي
مقدمتهم الأمير الشريف عبد الله وبعض مَن يشار إليهم بعد، وبقينا إلى يوم التروية
- وهو يوم الجمعة ثامن ذي الحجة - لا عمل لنا إلا عبادة الله تعالى، وأخصها
التطوف ببيته، وإلا لقاء الناس في الدار وفي الحرم والاستفادة من مذاكراتهم.
وقد كنت مدة إقامتي بمكة ضعيف البدن بنزف دم كان قد عرض لي، لم
يسبق لي مثله، فكنت لا أستطيع الطواف إلا في وقت الأصيل ووقت السحر،
وثقل عليَّ الحر، على أنه لم يكد يتجاوز الدرجة ٣٥ من ميزان سنتكراد إلا قليلاً،
ولم أكن أجد راحة في جسمي إلا حيث كانت راحة روحي، وما ذاك إلا في الحرم
الشريف. ولا يوجد في بطن مكة مكان كالحرم يتخلله الهواء لسعته وكثرة الفجاج
الموصلة إليه من الجهات الأربع، ولولا أن وصفه مبين بالتفصيل - في كتب
المتقدمين والمتأخرين من المؤرخين والرحالين - لوصفته في هذه الرحلة الوجيزة.
وكنت أصلي الفجر كل يوم بجانب مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى
آله الكرام، وأصلي المغرب والعشاء في الجانب الشرقي من الحرم مع صديقنا
الشريف أبي نمي الذي يعشق فضله وأخلاقه كثير من فضلاء المصريين؛ إذ
عرفوه بإقامته في القاهرة عدة سنين، وكانت داره في مصر بجوار دارنا من شارع
درب الجماميز، واتفق أن زاويته في جدار الحرم الشريف بالقرب من باب إبراهيم
- وكذا داره - فهي بجوار المنزل الذي أُنزلنا فيه كما علم مما تقدم. وكان خدمه
يفرشون له في كل أصيل سجادة أو سجادتين تجاه زاويته، حيث يصلي مع بعض
أصحابه، وكنت أنا والسيد الزواوي منهم، وكنا نجيئه في الأصيل، ونخرج بعد
صلاة العشاء.
لم أجد قوة على رد كل مَن زارني ولم أتمكن من إحصائهم، فنويت أن أرجئ
النظر في ذلك إلى ما بعد الانتهاء من أعمال النسك، ولكنني زرت فوزي بك
البكري من سروات دمشق الشام في داره وعبد العزيز بك المصري في منزله وكلاً
من الشيخ كامل قصاب أحد علماء الشام ومحب الدين أفندي الخطيب وفؤاد أفندي
الخطيب في إدارة جريدة القبلة، وكلهم يعملون فيها، وكثر التلاقي بيني وبين
هؤلاء، والحديث معهم في الشؤون السياسية الحاضرة، ونعرف أخبار الحجاز
منهم.
ولم أدخل دار أحد من المكيين زائرًا إلا زاوية الشريف أبي نمي ودار الشيخ
محمد صالح الشيبي فاتح بيت الله الحرام (ورئيس مجلس الشيوخ في الحكومة
الجديدة كما يأتي) ، ثم لم يتيسر لي بعد الحج زيارة أحد ممن زارني، كما يعلم مما
يأتي إلا نائب الشرع الشريف الشيخ يونس أفندي، فإنني زُرته في المحكمة
الشرعية، وكنت عرفته مجاورًا في رواق الشوام بالأزهر، إذ كان يحضر دروس
الأستاذ الإمام، وزرت الشيخ عبد الملك الخطيب من أدباء مكة قبل السفر منها بيوم
واحد. وكنت أود أن أزور الشيخ عبد الله سراج قاضي القضاة ووكيل رئيس
النظار في الحكومة الجديدة، وأخلو به في داره ساعة للمذاكرة في الشئون الحجازية،
فلم أجد فرصة لذلك، وكان قد تفضَّل بزيارتي في دار الضيافة الهاشمية، وأثنى
لي على تفسير المنار، وطلب مني جميع ما طُبع منه. وقد رأيت أنه في أقرب
منزلة من ثقة الأمير، وقلما جئت قصر الإمارة إلا ورأيته معه، أو منتظرًا لقاءه.
وأما الشيخ الشيبي فهو كبير بني شيبة حَجَبَة الكعبة المعظمة، ووارثي
مفتاحها في الجاهلية والإسلام، وبيتهم من أكبر بيوت قريش بعد بيوتات الهاشميين
عامة والعلويين منهم خاصة، وهم يُنسبون إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة،
وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة الصحابي الذي فتح باب الكعبة للنبي
صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ودخلها معه كما في الصحيحين وغيرهما من كتب
السنة والسير والتاريخ. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: (أقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة،
ثم دعا عثمان بن طلحة، فقال: (ائتني بالمفتاح) ، فذهب إلى أمه، فأبت أن
تعطيه، فقال: والله لتعطينَّه، أو ليخرجنَّ هذا السيف من صلبي (يعني أنه يقتل
نفسه بطعن بطنه به، حتى ينفد من ظهره) ، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه، ففتح الباب. وظاهر هذه الرواية أن
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح الباب، وورد التصريح بذلك في رواية
عنه أيضًا، سندها ضعيف في تاريخ مكة للفاكهي قال: (أي ابن عمر) كان بنو
أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم المفتاح، ففتحها بيده. ولكن روى عنه البخاري من طريق فليح أنه
قال: وقال لعثمان: (ائتنا بالمفتاح) ، فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل.
وفي هذه الرواية أيضًا أنه كان مردفًا لأسامة على القصواء، وهي ناقته صلى الله
عليه وسلم، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم
الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد الحديث.
وقال الحافظ في الفتح: روى عبد الرزاق والطبراني من جهته من مرسل
الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوم الفتح: (ائتني بمفتاح
الكعبة) فأبطأ عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، حتى إنه ليتحدَّر منه
مثل الجمان من العرق، ويقول: (ما يحبسه؟ !) فسعى إليه رجل وجعلت المرأة
التي عندها المفتاح وهي أم عثمان واسمها سلافة بنت سعيد تقول: إن أخذه
منكم لا يعطيكموه أبدًا، فلم يزل بها، حتى أعطت المفتاح، فجاء به، ففتح، ثم
دخل البيت، ثم خرج منه، فجلس عند السقاية. فقال علي: (إِنَّا - يعني بني
هاشم - أُعطينا النبوة والسقاية والحجابة، ما قوم بأعظم نصيبًا منا) . فكره النبي
صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه. ثم قال
الحافظ: وروى ابن عائذ من مرسل عبد الرحمن بن سابط (وهو ثقة) أن النبي
صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان، فقال: (خذها خالدة مخلدة،
إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم، لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، ومن طريق
ابن جريج أن عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية،
فنزلت {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: ٥٨) ، فدعا
عثمان، فقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ومن
طريق علي بن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني شيبة كلوا
مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف) . اهـ.
والظاهر أن ذكر بني شيبة ههنا غلط من النُّسَّاخ، صوابه: يا بني أبي طلحة؛
فإن عثمان بن طلحة هذا هو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة كما تقدم،
وكانوا كلهم يدعون بني أبي طلحة نسبة إلى جدهم أبي طلحة عبد الله بن عبد
العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وقد ذكر الحافظ في ترجمة كل من
عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان من (تهذيب التهذيب) من عبارة
الأصل عن مصعب الزبيري أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إليهما معًا،
وقال: (خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلا ظالم) وذكر
عن ابن سعد عن هوذة بن خليفة عن عوف عن رجل من أهل المدينة: دعا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح شيبة بن عثمان، فأعطاه المفتاح، وقال:
(دونك هذا، فأنت أمين الله على بيته) وذكر الحافظ هذين الحديثين في ترجمة
شيبة من الإصابة أيضًا، ثم قال: وذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم
أعطاها يوم الفتح لعثمان، وأن عثمان ولي الحجابة إلى أن مات، فوليها شيبة،
واستمرت في ولده. اهـ. وهذا هو الصواب، وقد استمرت في ولده إلى اليوم،
وبهذا حفظ نسبهم، وعظم حسبهم، وقد نزعها منهم بعض أمراء مكة، ثم عادت
إليهم كما يؤخذ من بعض كتب التاريخ.
أقول: ولأهل هذا البيت أن يفخروا على جميع الناس بهذه الوظيفة القديمة
الثابتة من قبل الإسلام، التي أقرها الله تعالى ورسوله لهم في محكم القرآن، وبأن
إقرارها لهم كان سبب نزول الآية العظيمة التي هي قاعدة أصول الأحكام، عليها
مدار إصلاح الأنام، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) كما تقدم آنفًا.
وذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور من تخريج ابن جرير وابن المنذر عن
ابن جريج، بمعنى ما تقدم، وفيه أنه قال: وقال عمر بن الخطاب: لما خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية -فداؤه أبي وأمي -
ما سمعته يتلوها قبل ذلك. وذكر هو والحافظ ابن كثير رواية طويلة في هذا المعنى
عن ابن عباس أخرجها ابن مردويه عنه من طريق الكلبي عن أبي صالح، وفيها
أن العباس رضي الله عنه حاول أخذ المفتاح، وطلب من النبي صلى الله عليه
وسلم أن يجعل له الحجابة مع السقاية، فأنزل الله الآية في ذلك. قال الحافظ ابن
كثير - بعد ذكر هذه الرواية -: وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك،
وسواء كانت في ذلك أو لا فحكمها عام. اهـ. وذكر علماء الحديث والسير أن
عثمان بن طلحة أسلم في هدنة الحديبية هو وخالد بن الوليد وهاجرا، وأن شيبة
أسلم عام الفتح.
الشيخ محمد صالح الشيبي:
هذا، وإنني لم أَرَ فيمن رأيت رجلاً تمثل رؤيته فصلاً من تاريخ قريش في
الجاهلية والإسلام وتاريخ بيت الله الحرام إلا كبير الشيبيين الشيخ محمد صالح،
وهو رجل جليل المنظر، لطيف المعاشرة، حسن المفاكهة، له مشاركة في العلوم
الإسلامية، والآداب العربية، وحظ من المدنية العصرية، ورأيته على مشربي في
العناية بأمر الماء النقي البارد، فهو لا يشرب من ماء عين زبيدة التي يشرب منها
أهل مكة، بل يستعذب له الماء من بئر في ضواحيها - كما كان يستعذب الماء من
آبار السقيا للرسول الأعظم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ويثلج له الماء في
داره، وعنده روايا إفرنجية من نوع الترمس الأسطواني المشهور، يحمل له فيها
الماء المثلوج مع قطع من الجليد المصنوع، إذا خرج هو منها إلى سفر قريب
كعرفة أو جدة. وقد أقام في الآستانة زمنًا وهو يعرف اللغة التركية.
رخاء المعيشة بمكة:
وعلى ذكر الثلج أذكر من خبر رخاء المعيشة في مكة المكرمة أن أهل هذا
البلد الأمين يتمتعون أبدًا بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي حكاه الله
عنه في قوله: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: ٣٧) ،
ودعائه أن يبارك الله لهم في اللحم، عندما زار بيت إسماعيل بمكة بعد زواجه
الثاني، كما ثبت في حديث ابن عباس عند البخاري، الذي ذكرنا القسم الأول منه
في بيان حكمة السعي بين الصفا والمروة من هذه الرحلة. فاللحم في مكة كثير
رخيص، وهو جيد شديد السمن، والثمرات والخضر فيها كثيرة رخيصة أيضًا،
على أنهم يرفعون أثمان كل شيء في موسم الحج. وقد كنا في دار الضيافة
الهاشمية تُستطاب لنا ألوان اللحم والخضر في كل غداء وعشاء، ولكن كان يغلب
عليَّ وعلى الوالدة والشقيقة الإقهاء [١] ؛ فرغبتنا في الطعام كانت ضعيفة، ولولا
عنب الطائف ورمانها الجيدان لما طابت لنا المعيشة، وكان لدينا طاهٍ يحسن الطبخ
على الطريقتين المكية والتركية، ثم استحسنت الوالدة أن تتولى الطبخ لنا إحدى
الجاريتين اللتين خُصصتا للخدمة المنزلية، وأما الثلج أو الجليد فقد قيل لنا إنه كان
له معمل في مكة وقد كُسر وتعطل. ووجدنا بعض الهنود هنالك يعملون قطعًا
صغيرة من الجليد يجمدونها في قوالب من الزنك، ويبيعونها بأثمان غالية جدًّا
لمعتادي شرب الماء المثلوج كالشيخ الشيبي، فكنت أشتري منهم كل يوم؛ إذ لم
أجد ماء كيزان الفخار مقبولاً، وإن كنا في شهر الميزان، خلافًا للمثل الحجازي
القائل: إذا دخلت الشمس في الميزان يبرد الماء في الكيزان.
وقد ذكر الرحالة محمد بن جبير الأندلسي في رحلته ما وجد في مكة من
الثمرات والبقول، كما ذكر غير ذلك من خيراتها وتحفها، قال: وأما الأرزاق
والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ له المَزِيَّة على
سائر حظوظ البلاد، حتى حللنا هذه البلاد المباركة، فألفيناها تغصّ بالنعم والفواكه
كالتين والعنب والرمان والسفرجل، والخوخ والأُتْرُجّ والجوز والمقل ... إلخ،
ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البِطِّيخ والسفرجل وكل فواكهها عجب، لكن
للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة؛ وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح
وأطيبها، يدخل به الداخل عليك، فتجد رائحته العبقة قد سبقت إليك، فيكاد يشغلك
الاستمتاع بطيب رياه، عن أكلك إياه، حتى إذا ذقته خُيِّلَ إليك أنه شبيه بسكر
مُذاب، أو بجنى النحل اللباب ... إلخ، وأطنب في وصف جودة اللحم وسمنه
ولينه وسهولة هضمه، وهو كما قال، نحن لم ندرك كل ما أدرك من الثمرات،
فإنه جاء مكة في قلب الصيف من سنة ٥٧٩، وبقي فيها إلى أواخر الشتاء.
والبطيخ الأصفر - الذي أدركناه - دون النوع الجيد منه في مصر المعروف
بالشمام.
* * *
(الإحرام بالحج وشدّ الرحال إلى عرفات)
صلينا الجمعة يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة [٢] في الحرم الشريف، وفي
ليلة السبت شددنا الرحال إلى عرفات محرمين بالحج، وقد قال لي صديقنا السيد
الزواوي في صبيحة ذلك اليوم: إن سيدنا الأمير - أيده الله تعالى - قد كان
استحسن أن نخرج معه إلى عرفة، ونكون في صحبته هنالك وفي منى إلى أن
تعودوا إلى مكة، ولما ذكر لي ذلك مستشيرًا فيه ذكَّرته بوجود والدتكم معكم، وقلت
لعل الأوْلى أن يخرج في خدمتها؛ لأن ذلك آنس لها وأقر لعينها ومزيد ثواب له،
فاستحسن ذلك، وأمرني بتجهيز الرواحل والمؤنة وسائر ما يلزم وأمر بصرف
عشرين جنيهًا لنفقة عرفة خاصة، وقد عهد إلى إبراهيم (وهو وكيل الخرج
والمتولي أمر خدمتنا) باختيار جمال قوية جيدة لكم، والجمال في هذا العام قليلة جدًّا
لكثرة ما مات منها قبل الثورة لقلة العلف، ولو كان الحاج كثيرًا كالعادة لما وجد من
الجمال ما يكفيه، وقد وصلت أجرة الجمل الواحد إلى عرفة ذهابًا وإيابًا إلى
عشرين ريالاً مجيديًا، ولولا أن سيدنا الأمير - حفظه الله - أمر عسكر البيشة
بجلب الجمال من الأعراب ولو بالقوة لتعذر على بعض الحجاج أن يجدوها إلا
بأجرة فاحشة.
هذا ملخص ما قاله السيد الزواوي، فشكرت لسيدنا الأمير كرمه وفضله
ودعوت له بالتوفيق والتأييد، ثم للسيد عنايته بنا هو ونجله السيد عبد الرحمن،
وتعاهدهما إيانا بكل ما نحتاج إليه في كل يوم، بل في كل آن، وكانت هذه العناية
على أتمها عند الحل والترحال، ففي أصيل هذا اليوم - يوم التروية- جِئَ
بالرواحل إلى حوش الدار، وتولى وكيل الخرج ووالده شد الشقادف وفرشها بنظر
السيد عبد الرحمن وإرشاده، ثم ركبنا في وقت العشاء، فكانت السيدتان الوالدة
والشقيقة في أحسن الهوادج ومعهما غزلان الجارية جلست بينهما لخدمتهما،
وركبت أنا ومحمد نجيب أفندي في شقدف، وركب وكيل الخرج مع الأستاذ الشيخ
خالد في شقدف، وركب والد وكيل الخرج الجمل الذي يحمل الخيام والأثاث
والماعون والمؤنة، وركب السيد عبد الرحمن دابة فارهة، وسرنا الهُوَينا في
أسواق مكة قاصدين عرفة، بعد أن أحرمنا جميعًا، وأهللنا بالحج من منزلنا، إلا
الذي ذهب بالخيام والماعون فإنه سبقنا، وتأخر عنا السيد الزواوي الكبير، ثم
أدركنا، وبعد سرى نحو من ست ساعات، وصلنا إلى حيث ضربت خيامنا من
عرفات، وذلك بالقرب من موقف النبي صلى الله عليه وسلم حيث مسجد
الصخرات، (وسيأتي قريبًا بيان هذا الموقف) ، ولم يكن في استطاعتنا أن نتبع
سُنته صلى الله عليه وسلم في السير بأصحابه إلى عرفة.
كان مَن لم يَسُقْ الهدي من الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع، قد قلبوا حجهم إلى عمرة بأمره صلى الله عليه وسلم وبعد طواف
العمرة وسعيها قصروا شعورهم، وتمتعوا إلى يوم التروية، وكانوا نازلين في
خارج مكة، فلما خرجوا معه صلى الله عليه وسلم فيه إلى منى أهلّوا بالحج من
الأبطح - وهو ما انبطح من الأرض في أول طريق منى ما بين الجبلين إلى مقبرة
مكة (المعلى) ويسمى البطحاء والمحصب - وقد صلى النبي صلى الله عليه
وسلم الظهر والعصر يوم التروية بمنى، وبات في ليلة عرفة وإنما رحل منها بعد
طلوع الشمس، ففي ذلك عدة سنن لم تتيسر لنا. والخروج في كل وقت من يوم
الترويه مباح، وكره مالك التقدم إليها قبله، والتأخر عنه إلا إن أدركه وقت الجمعة
بمكة، فيصليها فيها كما فعلنا. وروى ابن المنذر أن عائشة لم تخرج من مكة يوم
التروية حتى دخل الليل، وذهب ثلثه. اهـ من نيل الأوطار.
صفة الطريق من مكة إلى عرفات:
خرجنا من الدار وهي غربي الحرم بقرب بابه المعروف بباب إبراهيم [٣] ،
فسرنا في الشارع الكبير، مائلين يمينًا إلى جهة الجنوب الشرقي، حيث يكون
الحرم الشريف عن يسارنا، ويسمى ذلك الموقع بالسوق الصغير، ويليه من
الشارع جياد وفيه معاهدة الحكومة والمطبعة والتكية المصرية، ويليه شارع المسعى
حيث يكون السعي بين الصفا والمروة، فالقشيشية فسوق الليل الذي كان فيه ميلاد
النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، وهنالك يتحول السائر في الطريق إلى
جهة الشمال، فيمر بالغزة، وفيها قصر الإمارة عن يمينه، فالنقا فالسليمانية عن
يساره، وهذا القسم الشمالي من مكة واقع بين جبل أبي قبيس من جهة الشرق وجبل
قيعقعان وجبل الهندي من جهة الغرب، ودونهما جبل لعلع الصغير عند النقا.
ومتى جاوز الخارج من مكة عمرانها من هذا القسم - يرى عن يساره مقبرتها
المعلاة أو المعلى، وفيها قبر السيدة خديجة أم المؤمنين، وجدة آل البيت الطاهرين،
عليها وعليهم السلام، وهذه الجهة هي أعلى مكة، وتسمى الحَجُون (بفتح الحاء
المهملة) التي قال فيها الحارث بن مضاض الجرهمي:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بل نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
ويدخل فيها من ثنية كداء [٤] التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكة عام الفتح وفي حجة الوداع وهي في أعلى الجبل الذي على يسار المار إلى
المقبرة، ويقال لثنية كداء الثنية العليا، وللثنية الأخرى التي دخلنا منها الثنية
السفلى، وتسمى كُدَى (بالضم والقصر) ومنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم
من مكة، وهي بقرب شعب الشاميين من ناحية جبل قيعقعان. وهناك باب الشبيكة
المشهور بعد جرول.
ووراء المعلى في طريق منى مكان يسمى البياضية مطلق الهواء، فيه قصور
لبعض الشرفاء. ومن هناك يتحول طريق منى إلى الشرق، وهو وادٍ يختلف
عرضه من مئتي ذراع بذراع الآدمي إلى ألف ذراع بالتقريب، وتختلف أسماؤه
باختلاف المواقع، وأشهرها وادي المنحنى الذي قال فيه ابن الفارض:
ما بين ضال المنحنى وظلاله ... ضل المُتَيَّم واهتدى بضلاله
ويليه وادي السَّلَم بفتح السين واللام، ويذكر كثيرًا في أشعارهم. والضال هو
البري من شجر السدر وهو ذو شوك ونبقه صغير، والسلم الشجر الذي يسمى ورقه
القرظ، ويُدبغ به، وهما من أشجار تلك البلاد.
وأول منى العقبة التي فيها الجمرة المنسوبة إليها وسيأتي ذكرها. والمسافة
بين مكة ومنى فرسخ واحد أي ثلاثة أميال كما قالوا، ففي معجم البلدان لياقوت:
مِنًى بالكسر والتنوين في درج الوادي الذي ينزله الحاج ويرمي فيه الجمار، يسمى
بذلك لما يمنى فيه، أي يُراق من الدماء - أي دماء الأنعام للنسك - إلى أن قال:
وهي بُلَيْدة على فرسخ من مكة، طولها ميلان، تعمّر أيام الموسم، وتخلو بقية
السنة إلا ممن يحفظها، وقلّ أن يكون للإسلام بلد مذكور إلا ولأهله بمنى مضرب.
اهـ.، والمراد بالمضرب: المكان الذي تُضرب فيه خيام الحاج. وهذه الطريق
يقطعها راكبو الخيل - وكذا الحمير - في ساعة واحدة وراكبو الإبل في ساعتين،
وحدّ منى من العقبة التي فيها جمرة العقبة إلى بطن مُحَسِّر (بكسر السين المشددة)
كما سيأتي، والغالب فيه التذكير والصرف، وقد تؤنث على الأصل في أسماء
البقاع، وتمنع من الصرف.
والوادي بين منى والمزدلفة يسمى وادي المنار، وتسمى المزدلفة جمعًا أيضًا،
ويكثر هذا الاسم في الأخبار والآثار والأشعار، وهي المشعر الحرام عند الجمهور،
أو هو جبل قزح فيها، قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} (البقرة:
١٩٨) ، أي في المزدلفة، فهي عند الجبل. والمسافة بينها وبين منى من نهاية
حدها الشرقي نصف ساعة لركاب الخيل أو الحمير الفارهة وساعة أو ساعة وربع
لراكبي الإبل. وسميت جمعًا لجمعها الناس في ليلة النحر، والمزدلفة من الازدلاف
وهو الاقتراب، إما للتقرب إلى الله بذكره فيها، أو للازدلاف إليها من منى بعد
الإفاضة من عرفات، وقيل: إن آدم وحواء تعارفا في عرفة، واجتمعا في
المزدلفة، وسيأتي الكلام على المبيت فيها للنسك.
والمسافة بين المزدلفة وعرفات ساعة ونصف على الدواب، ويمكن قطعها
بأقل من ذلك، وثلاث ساعات للإبل. وبين المزدلفة وعرفة مضيق الأخشبين
ووادي نمرة وبطن عرنة، وقال العلماء: إن المسافة بين مكة وعرفة تسعة أميال
تقريبًا، نقله الزَّبِيدي شارح القاموس والإحياء، ولكنه ذكر - عند الكلام على نمرة
- أنها على مسافة أحد عشر ميلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))