للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحرب والصلح

كثر الخوض في حديث الصلح في السنة الماضية، وقد كانت دول التحالف
الجرماني هي التي بدأت بطلب فتح باب المفاوضة في الصلح وكلفت ألمانية
الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية قبل انضمامه إلى
محاربيها أن يتوسط بين المتقاتلين في الصلح، فكتب مذكرة في ذلك ردت عليها
إنكلترة أشد الرد، ورفضتها كل الرفض، وتبعها حلفاؤها بالطبع. ثم إن البابا
أرسل رسالة إلى جميع الدول المتقاتلة من الفريقين، دعاهم فيها إلى المبادرة إلى
حقن الدماء وعقد الصلح على قاعدة جعْل قوة الحق الأدبية بدلاً من قوة الجيش
المادية، وتحديد التسليح البري والبحري والجوي، وحرية البحار وحقوق الشعوب
وعدم ضم شيء من أملاك بعضها إلى بعض، وعدم أخذ غرامة حربية وجعل
التعويض عن الخراب بالتعاون، وقاعدة التحكيم الإجباري فيما يقع بين الدول من
المسائل الخلافية. فلم يستحسن هذه المذكرة من دول التحالف البريطاني إلا حكومة
روسية المؤقتة التي سبقت إلى اقتراح قاعدة (لا ضم ولا غرامة) وقد رد الدكتور
ولسن على المذكرة ردًّا طويلاً، وافقه عليه سائر الحلفاء، أهم ما فيه أن حكومة
ألمانية الحاضرة حكومة أتقراطية لا تثق الحلفاء بعهودها، فيعقدوا معها صلحًا،
فالأساس الأول لقواعد الصلح عندهم تحويل هذه الحكومة إلى ديمقراطية تنطق باسم
الشعب، فإن لم يبادر الألمان أنفسهم إلى قلب حكومتهم وثل عرش آل هوهنزلرن
المؤيد بالقوة العسكرية والاستعاضة عنها بحكومة ديمقراطية فإن الحلفاء هم الذين
يفعلون ذلك بالقوة القاهرة، وحينئذ يتم الصلح الحقيقي الذي يستريح به البشر من
مصائب الحرب، وقد أيدت الحلفاء الرئيس في رده، وأثنت جرائدها عليه [١] إلا
أن بعض الجرائد الإنكليزية كالتيمس - أنكرت منها تفرقة الرئيس بين الحكومة
الألمانية والشعب الألماني؛ إذ جعل وزر الحرب على الحكومة وحدها، قالت:
(ولكن الشعب الألماني قابل الحرب بحماسة عظيمة، وإن لم يكن هو الذي أعلنها
وقد وافق نوابه على جميع الاعتمادات الحربية، وقابلت صحافته الفظائع الجرمانية
بهُتاف شديد) .
ونقول: إن الظاهر لنا أن الرئيس ولسن يرمي بتبرئة الشعب الألماني من
تبعة الحرب وإظهاره الاكتفاء بإسقاط حكومته الإمبراطورية - إلى إغرائه بثورة
داخلية على حكومته الممتازة بكونها جهة الوحدة لقوتها وقوة أحلافها، فإن تم هذا
تنتهي الحرب في أقرب زمن بأقل خسارة.
أما دول التحالف الجرماني فقد قابلت مذكرة البابا بالابتهاج، فأما ألمانية فقد
أرسل وزير إمبراطوريتها ردًّا جميلاً إلى وزير خارجية الفاتيكان بأمر مولاه
الإمبراطور، بدأه بقوله: (إن جلالته ينظر بعين الاحترام والشكر والسرور إلى
المساعي التي يبذلها قداسة البابا لتقصير أجل الحرب وتخفيف وطأتها ... ) إلخ،
وتبجح بأن مولاه مازال نصير السلم منذ تبوأ العرش، وبأنه يوافق على أن
الشروط التي قالها قداسته من الأمور التي يجب أن تظهر في المفاوضات المقبلة،
وبأنه: (ليس في العالم شعب يتمنى الصلح على أساس إصلاح ذات البين بين
الأمم وإحلال الإخاء والمساواة محل البغض أكثر من الشعب الألماني) . (وقال) :
(فإذا أدركت الأمم المشربة بهذه المبادئ أن الاتفاق خير من الشقاق فإنها تستطيع
أن تسوي جميع المشاكل الحاضرة وتمنع وقوع الحروب في المستقبل بإنالة جميع
الشعوب ما يلزم لحياتها وسعادتها، فعلى هذا الأساس وحده يحتمل أن يبرم الصلح
الدائم الذي يقرب بين الأمم وينهض بالبشرية نهضة كبيرة من الوجهتين المعنوية
والاقتصادية. وهذه الثقة هي تحملنا على الاعتقاد أن أعداءنا يجدون في المبادئ
التي أعرب عنها قداسة البابا أساسًا تمهيديًّا للصلح المقبل بشروط تلائم روح العدل
وموقف أوربا الحالي) . اهـ بنص ترجمة المقطم (في ١٩ ذي الحجة الماضي) .
ورد إمبراطور النمسة الجديد (كرلوس) بنفسه ردًا مشربًا بمنتهى التعظيم
والاحترام والقبول؛ لأنه هو الإمبراطور الكاثوليكي الوحيد، ولكنه لم يَفُهْ بكلمة ما
تدل على اعترافه بحقوق الأمم والشعوب.
وكذلك كان رد الدولة العثمانية على المذكرة بإمضاء السلطان محمد رشاد ردًّا
مشربًا بالتعظيم والاحترام، وصرح فيه بالموافقة على القواعد الأساسية التي اقترح
أن يبنى عليها الصلح والاستعداد لدرس الطرق التي تؤدي إلى تسوية المشاكل
الدولية في إبان مفاوضات الصلح، (قال) : (وإننا نصرح بذلك، وأمام أنظارنا
الضمان الكافي على استقلال الأمم وحريتها وارتقائها؛ لأننا رأينا في اقتراح
قداستكم أساسًا متينًا للصلح العمومي الدائم وطريقة حسنة لحقن الدماء) .
وقال - قبل ذلك -: (لقد أُكرهنا على خوض غمار الحرب دفاعًا عن حريتنا
وارتقاء بلادنا. وهذه الغاية الشريفة هي الغاية الوحيدة التي نحارب الآن من أجلها،
والتي تكفل لنا المحافظة على حقوقنا واستقلالنا التام في بلادنا وعلى حدودنا
القومية) . اهـ من ترجمة المقطم التي نُشرت في عدد ٨ المحرم - ٢٥ أكتوبر
الماضي.
وقد جزم ساسة الحلفاء بأن البابا لم يسعَ هذا السعي إلى الصلح إلا بتوسل
ألمانية والنمسة إليه، وأن سبب ذلك الشعور بالضعف والعجز عن الاستمرار على
القتال، وأن الغرض منه إغراء الميَّالين إلى الصلح في بلاد أعدائهم من
الاشتراكيين وغيرهم بحمل حكوماتهم على عقد الصلح، فما من أمة محاربة إلا
وفيها كثير من محبي السلم ودعاته. أما رأي هؤلاء الأحلاف في مسألة الأمم
والشعوب فقد بيناه في الجزء الأول، وأما مسألة الغرامة فقد صرحت جرائدهم -
ناقلة عن أقطاب ساستهم - أن من أهم شروط الصلح عندهم أن يؤخذ من الجرمان
عوض عن البلاد التي خربوها في بلجيكة وفرنسة والبلقان، بعد جلائهم عن هذه
البلاد كلها، ومنها رد الإلزاس واللورين إلى فرنسة.
وقد جاءت برقيات روتر في ٥ المحرم (٢٢ أكتوبر) بنص خطبة طويلة
بليغة من خطب لويد جورج رئيس الوزراء البريطانية ألقاها على ملأ عظيم في
لندن، كان غرضه الأول منها الحث على الاقتصاد في جميع النفقات واستطرد فيها
إلى الكلام في مسألة الصلح، فقال - بعد التصريح بأنه لا يرى في جو السياسة
شروطًا تؤدي إلى صلح وطيد الأركان -: (ولكن الشروط الوحيدة المحتملة الآن
تؤدي إلى هدنة مسلحة تفضي إلى حرب أشد هولاً من هذه. إن هذه الحرب مخيفة،
ولكن ما كشفته من الرزايا التي يحتمل وقوعها في البر والبحر والجو أشد هولاً
وأعظم رعبًا؛ فلهذا طلب من الذين يلحون في عقد صلح مبتسر - إذا صح أن
هنالك مَن يلح فيه-أن يمعنوا النظر فيما يحتمل وقوعه إذا وقع صلح غير مُرضٍ) ،
ثم قال: (يجب علينا في أثناء البحث في شروط الصلح أن نضع نصب عيوننا
الغرض العظيم من هذه الحرب، فإن المسألة ليست مسألة تعديل حدود أملاك إلا حيث تقتضي حقوق القوميات هذا التعديل، ولا هي مسألة غرامات إلا حيث تكون الغرامات للتعويض من ضرر، ولكنه في الدرجة الأولى مسألة القضاء على مبدأ فاسد
باطل استعبد أوروبة، وأوقع الخوف في قلوب أهلها، أو كاد لو أُتيح له الفوز)
(هُتاف) .
إن العدو الحقيقي هو روح الحرب الذي نشأ وترعرع في بروسيا، هذا
الروح الذي يرمي إلى جعْل العالم مكانًا تتسلط فيه القوة البهيمية تسلطًا لا ينازع فيه
أحد، بدلاً من عالم تسكنه ديمقراطيات حرة مرتبطة معًا بعرى السلم الشريفة، وقد
أقيم لهذا الروح هيكل يُعبد فيه في بتسدام [٢] ، فلا سلم في العالم، ولا حرية إلا إذا
دكّ هذا الهيكل، وشتت شمل كهنته، وألبسوا ثوب العار إلى الأبد (هتاف) .
وعلقت الرجاء بأننا نتمكن في السنة الحالية من القضاء على هذه القوة
الهائلة، وكنا جميعًا ننتظر حركة حربية عظيمة من جميع الجهات تتجه إلى العدو،
وتنيلنا هذه الأمنية، ولكن تضعضع قوة روسيا الحربية الموقت، لا أقول إنه خيّب
الآمال، ولكنه أجل تحقق الرجاء على أن الزمان في جانبنا.ا. هـ المراد منه.
(المنار)
إن الحرب السياسية من قولية وعملية أعظم من الحرب الآلية من برية
وبحرية، وقد ظهر من براعة البشر في الحرب القلمية، ما هو أدل على الحذق
والذكاء من براعتهم في اختراع الآلات والأساليب الحربية، ومن براعة الإنكليز
المعهودة في السياسة أن قذفوا الألمان بالدول والأمم، بإزاء قذف غواصات الألمان
لبواخرهم بالحمم، حتى صار أعظم دول أمريكة الشمالية وأمريكة الجنوبية حربًا
لهم، بل آذنتهم دولة الصين بالحرب أيضًا، فصار عدد نفوس الأمم المحاربة لهم
بالذات، وبالتبع زُهاء ألف وخمسمائة مليون، وهم لا يزيدون مع أحلافهم على مئة
وخمسين مليونًا، وقد صرحت الجرائد بأن الجيش البريطاني المقاتل في الميدان
الغربي وحده لا يقل عن ثلاثة ملايين، وأن الجيش الألماني المقاتل بالفعل لا يكاد
يتجاوز أربعة ملايين.
وصرحت مرارًا بأن الإنكليز وأحلافهم متفوِّقون على الجرمان في السلاح
والذخائر وجميع مواد الحرب أضعافًا كثيرة، بل جاء في برقية لمكاتب المقطم
بباريس في ٣٠ مايو الماضي أن الجنرال ز. لندن قال في مقالة له: (يظهر أن
النمسة وبلغارية وتركية استنفدت جميع قواتها، وصارت على آخر رمق، وأن
هذه الدول الثلاث ما كانت لتثبت لولا همة ألمانية ونشاطها، ولكنها ستتلاشى بنفاد
قوتها، وتطرد الوهن إليها) ، وقال عن الجيش الألماني: (إن عدد فرقه كان في
شهر إبريل الماضي مئتين وتسع فرق من المشاة، وهذا العدد يساوي عدد المشاة
من البريطانيين في ميدان فرنسة، فللفرنسويين والإنكليز التفوق على ألمانية) .ا. هـ
نعم، إنهم خسروا قوة روسية، ولكن يقابلها انضمام الولايات المتحدة إليهم،
وهذه الدولة أغنى دول الأرض الآن، وهي تقرض الحلفاء المال بمئات الملايين
في كل شهر، وتقدم لهم من الذخائر والأغذية والمواد الضرورية للحرب ما خفّ به
الحمل الثقيل عن عاتق الإنكليز. ففي مقطم ٢١ المحرم (٧ نوفمبر) مقالة
افتتاحية، قال فيها: إن الحكومة البريطانية أقرضت حلفاءها ألفًا ومئتي مليون من
الجنيهات، وهي تجود عليهم بالبواخر والفحم والصوف والقطن والزيت والفولاذ،
وغير ذلك من المواد الخام التي تكثر في بلادها وفي مستعمراتها. ثم ذكر أن لها
في الميدان الغربي نحوًا من ثلاثة ملايين مقاتل.
هذا، وإن الأخلاق ركن من أعظم أركان الحرب؛ لأن جميع أعمال البشر
من آثار أخلاقهم، فالصبر والثبات في الحرب واجتماع الكلمة خير من كثرة
الجيوش، فتأمل تعليل النصر في النص الكريم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ٢٤٩) ، وقوله تعالى: {إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ... } (الأنفال: ٤٥) إلى قوله { ... وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٤٦) ، ومعنى كونه
تعالى مع الصابرين أن سُنته في خلقه قد جرت بجعْل الصبر من أعظم أسباب
الغلب والنصر، ولا سيما إذا صحبه الإيمان بالله عز وجل والثقة به والتوكل عليه،
وبمجموع ذلك فاز المسلمون من قبل، فغلبوا الأمم الكثيرة بالفئات القليلة.
والصبر والثبات والتعاون من الأخلاق التي امتازت بها الأمم الإنكليزية على
كثير من الأمم منذ أجيال؛ لذلك كانت أخلاقهم أنفع لأحلافهم من أموالهم ومتاعهم،
فولاهم لم يثبت على حرب الألمان أحد، وهؤلاء الألمان أقران لهم، وأقتال في
ذلك، فحرب الأخلاق بينهما هي الجهاد الأكبر، وعليه المعوّل الأخير في النصر
والظفر.
((يتبع بمقال تالٍ))