للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحرب والصلح

عقدت الهدنة بين الروس وأعدائهم وألف الفريقان لجنة من مندوبي كل دولة
منهما للبحث في شروط عقد الصلح، وفي عدد جريدة الأهرام - الذي صدر في
١١ ربيع الأول - أن وزير خارجية الألمان الذي رأس الجلسة الأولى جعل
الغرض من الاجتماع إعادة الصلات الاقتصادية والأدبية إلى ما كانت عليه قبل
الحرب. وأن الوزير الروسي (كامنف) تلا برنامج حكومة الروس المعروف الذي
تقترح جعْله أساسًا للصلح العام، وخلاصته أن يكون الصلح بلا ضم ولا غرامة.
وأن يُعطى كل شعب تحكمه أمة أخرى الحرية والاستقلال، إما بالاعتماد على رأيه
بعد سحب القوة الغاصبة من بلاده، وإما بالاعتماد على الرأي الذي أظهرته صحافة
ذلك الشعب وجمعياته. وتعد حكومة روسية مواصلة القتال لتقتسم الشعوب الغنية
الشعوب الصغيرة الفقيرة جريمة لا تُغتفر!
ثم قالت الأهرام: وقد جاءنا اليوم بيان أتم عن مطالب الروس: (١)
العدول عن كل ضم وفتح بالقوة. (٢) إعادة استقلال البلاد التي اجْتِيحت. (٣)
منح كل عنصر الحق بأن يختار الحكم الذي يريده. (٤) التفادي عن ضرب
الغرامة الحربية وتقرير التعويض على الأفراد. (٥) إنشاء صندوق دولي من
أموال الجميع لدفع التعويضات.
ثم ذكرَتْ أمرًا ثالثًا أُعلن في الجلسة وهو (رغبة الألمان بأن يشترك جميع
المتحاربين بمفاوضات الصلح حتى تقررت دعوة مندوبي فرنسا وإنكلترة وإيطالية
والولايات المتحدة إلى المفاوضات) .
ومن الناس من يرتاب في إخلاص الدولة الألمانية في إظهار ارتياحها إلى
دخول جميع الحلفاء في مؤتمر الصلح ولا يرتابون في إخلاص النمسة، ويرى
هؤلاء أن إيعاز الأولى إلى حكومة (البولشفيك) الروسية التي لم يعترف بها
الحلفاء بأن تدعوهم إلى الاشتراك معها في مفاوضات هذا الصلح في بلادها يراد به
اضطرار الحلفاء إلى الإباء والرفض، ويؤيد ذلك ما قاله السنيور (أورلندو) رئيس
وزارة إيطالية في خطابه بمجلس الشيوخ وهو: إنه قد حان الوقت لكشف الغطاء
عن ألاعيب دولتي الوسط اللتين تبذلان كل وسيلة لشد عزائم شعوبهما ولتسويد
صفحة خصومهما بادعائهما أنهما تريدان الصلح وأن الحلفاء يرفضونه. فالحلفاء
هم الذين يريدون الصلح وهم وحدهم يريدونه ولكنهم يريدونه على شكله الممكن أن
يجعله صلحًا عادلاً شريفًا دائمًا باتفاقات جلية صادقة. أما إمبراطوريتا الوسط فإنهما
تتبعان خطة غريبة، تطلبان بها من الحلفاء أن يعودوا إلى مواصلتهما على يد
حكومة لم يعترف بها الحلفاء؛ لأنهما حكومة وقتية إلى أن تجتمع الجمعية
الدستورية؛ ولأن شطرًا كبيرًا من روسيا لم يعترف بها.
هذا من حيث الشكل، وأما من وجهة الجوهر في مقترح الصلح فإن مندوب
البولشفيك يظن أن باستطاعته أن يقول إن الشطرين الأولين من مقترحات الصلح
مقبولان، وهما أولاً إعادة الممالك التي فقدت استقلالها من جراء الحرب، وثانيًا
الجلاء عن الأراضي التي احتلت مع العدول عن الضم، وإنكم لترون أن في هذا
القول ضلالاً، ففي الحقيقة أن الشطر الثالث المتعلق بالشعوب الخاضعة لأمم
ليست منها - لم يقبله الألمان والنمسويون. (وضرب لذلك مثل أمانيهم القومية
والإلزاس واللورين) .
ثم رغب الخطيب في بيان ضرر العودة إلى الحالة القديمة؛ لأنه ليس في هذا
القول ضمانة إذا ما قبل الشرطان اللذان قال بهما البولشفيك أولاً؛ لأن
إمبراطوريتي الوسط أعلنتا أنهما لا تنويان إزالة الاستقلال السياسي من البلاد التي
احتلتاها فلفظة (الاستقلال السياسي) لا تنفي الاعتداء على الاستقلال الآخر
كالاستقلال الاقتصادي مثلاً؛ ولأنها لا تتضمن أيضًا عودة المملكة المستقلة إلى
جميع أراضيها كاملة. أضف إلى ما تقدم أن لفظة (استقلال الشعوب) هي لفظة
مبهمة لا تزيل الشكوك وما تضمره دولتا الوسط من المطامع فإنهما تقولان: إنهما لا
تريدان ضمًا بالقوة، ومعنى ذلك أنهما تنويان ضمًّا بغير قوة. فمتى إذن يمكن أن
يوصف الضم بالقوة؟ ، فالجواب على ذلك أن الأمر معلق على وجود القوة وعلى
شكل الخيار الذي يعرض على الشعوب الموجودة تحت نير الغازي، أضف
إلى هذا هل يعتبر الضم ضمًّا عند ما لا يمكن ذكر الضم بالقوة في المعاهدات
الدولية.
فبالصيغة التي تعرضها دولتا الوسط صيغة مبهمة تتحمل الريب والشكوك،
وتدلنا على أننا لا نزال بعيدين جدًّا عن المبدأ الأول الذي يمنع كل الضم) اهـ
المراد منه نقلاً عن عدد ٤ يناير من الأهرام.
وقد أفادت البرقيات المنشورة بهذا التاريخ أن مفاوضات الصلح أوقفت؛ لأن
ألمانية تزعم أن شعوب الولايات أو الممالك الأربع التي انتزعتها من الروسية -
وهي البولندية والكورلندية واللتوانية والأستونية - قد جهرت برغبتها في الانضمام
إلى ألمانية فيجب أن تكون ألمانية، وإن الروس ينكرون عليها ذلك، وإن وزير
خارجيتهم تروتسكي خطب في اللجنة المركزية لحزب العمال والمجندين فأنكر ذلك
أشد الإنكار؛ لأن إظهار الشعب الرغبة في مسألة الحكم لا يكون صحيحًا مع وجود
الاحتلال الأجنبي والقوة العسكرية. وفي برقية لروتر من لندن وردت في ٢ يناير
أن اللجنة أقرت الوزير الخطيب على خطابه، ووضعت قرارًا بفحواه، قالت في
آخره:
فنحن ندافع عما لبولندا ولتوانيا وكورلندا من الحق في بت مصيرها،
والحكم في مستقبلها بتمام الحرية، ونقول لشعوب النمسا وألمانيا وبلغاريا وتركيا
اذكروا أن التعجيل في عقد صلح ديمقراطي يتوقف عليكم، فقد سالت دماؤكم
وأصابكم الإعياء والجهد في حرب عديمة المثيل، فلا تسمحوا لدعاة السلطة والفتح
من النمسويين والألمان أن يحاربوا روسية الثورية لإخضاع بولندا ولتوانيا وكورلندا
وأرمينية.
(المنار)
قد سبقنا فبيَّنَّا في الجزء الأول من هذا المجلد ما قررته الروسية ورئيس
الوزارة الإيطالية اليوم في مسألة حرية الشعوب واختيارها لكل الحكومة الذي
ترضاه لنفسها، وبينا في الجزء الرابع - الذي قبل هذا - أهم ما يشترط الحلفاء
للصلح. وبعد كتابة ما تقدم وإعداده للطبع جاءنا البرق بخطبة رئيس الوزارة
البريطانية، ثم بخطبة رئيس الولايات المتحدة، وهما أصرح ما قاله الحلفاء في
أسباب الحرب وشروط الصلح، ويعد ناسخًا لكل ما يخالفه * سيد القول ما يقول
الرئيس * وسيعلم منهما حقيقة غرض الحكومة الألمانية، وهل هي تريد الصلح
حقيقة فيما تتخذه من الوسائل الصورية له كما يقال، أم تريد به إيقاع الشقاق بين
أعدائها كما قال رئيس الحكومة الإيطالية، أو إقامة الحجة عليهم بأنهم هم طلاب
الحرب والفتح كما يظن كثير من الناس. ولعل هذه الصراحة من الحلفاء تضطرها
إلى التصريح بشروط الصلح التي ترضاها، فإنها لما تصرح بشيء إلا طلب حرية
البحار.
ونسأل الله تعالى أن ينصر الحق والعدل وحرية الشعوب المستضعفة على
الباطل والظلم وقوة الاستبداد والاستعباد، ويكشف عنها حجب الخداع والرياء. إن
ربي سميع الدعاء.