للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل واتخاذها
(تابع لما في الجزء الخامس)
(ملخص ما تقدم من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء في شرحها وفقهها)

أما الأحاديث فتلخص في سبع مسائل:
(١) أن المصورين يعذبون يوم القيامة ويكلفون إحياء ما صنعوا تعجيزًا،
ووصفهم بالظلم الشديد لقصدهم مضاهاة خلق الله.
(٢) لعن المصور كما لُعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال فيهم: إنهم
كانوا يصورون الصالحين منهم، ويضعونها في معابدهم، ووصفهم بأنهم شر الخلق.
(٣) إنكار نصب الستور التي فيها الصور والتماثيل وهتكها أي إزالتها.
(٤) تعليل الإنكار تارة بأننا لم نؤمر بكسوة الحجر والطين، وتارة بكونها
في المصلى تعرض للمصلي في صلاته، وتارة بعدم دخول الملائكة بيتًا فيه صورة
أو كلب.
(٥) اتخاذ الثياب التي فيها الصور وسائد ومرافق واستعمال النبي صلى
الله عليه وسلم لها مع بقاء الصورة فيها، كما صرح به في رواية الإمام أحمد.
(٦) أن تغيير الصورة الحيوانية بما تصير به أشبه بالشجر - كقطع رأسها
- يبيح اتخاذها. وفي معناه فتوى ابن عباس للمصور العراقي.
(٧) نقض التصاليب وإزالتها.
وأما الآثار عن الصحابة والتابعين في المسألة:
(فمنها) استعمال زيد بن خالد الصحابي للستر الذي فيه الصور، وهو أحد
رواة حديث: (إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة إلا رقْمًا في ثوب) ، فهو لم
يشترط أن يكون الثوب الذي فيه الصورة مهانًا.
(ومنها) اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعين القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي
الله عنه الحجلة التي فيها تصاوير القندس والعنقاء، وهو ربيب عمته عائشة
الصديقة، وأعلم الناس بحديثها وفقهها، وقد روى عنها حديث النمرقة.
(ومنها) استعمال يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وخازنه - الصور في داره. وقد روى عن عمر وغيره، وهو من الثقات كما قال
ابن سعد وابن حبان.
(ومنها) صنع الصور في دار مروان بن الحكم أو سعيد بن العاص وكل
منهما ولي إمارة المدينة، وكانا من التابعين، روى الشيخان عن الأول ومسلم عن
الثاني، وهو خير من الأول. وقد انتقد على البخاري روايته عن مروان، وأجابوا
عنه بأنه ثقة في الحديث وإنما ذنوبه عملية سببها السياسة، أعاذنا الله من شرها
وشر أهلها. وعمل مروان لا قيمة له في الاحتجاج إلا أنه يدل على أن التصوير
كان مستعملاً في عصر الصحابة، ولكن أبا هريرة أنكر ما رآه في داره، وكان من
أعلم الصحابة بأحداث بني أمية، وأخبر بعضها قبل وقوعها. وكذلك أنكر ابن
عباس على المصور العراقي تصويره للحيوان، وأفتاه بتصوير النبات.
وأما أقوال العلماء في شرحها وفقهها، فمنهم مَن شدد فيه ومَن خفف، وأشهر
المشددين من محققي الفقهاء من القرون الوسطى أبو بكر ابن العربي والنووي فقد
جزما بتحريم التصوير مطلقًا، وإن كان الأصل أن ما حلّ اتخاذه واستعماله حل
صنعه.
وقال الأول: إن ما له ظل كالتماثيل ذات الأجسام يحرم اتخاذه بالإجماع،
وبين الحافظ ابن حجر أن حكاية الإجماع غير صحيحة؛ لتصريح الجمهور بحل
لعب البنات لصحة الحديث بذلك، ونقل عن القرطبي حكاية قولين فيما لا يتخذ
للإبقاء كتماثيل الفخار، وجعل إلحاق ما يصنع من الحلوى بالفخار وبلعب البنات
محل تأمل. وأقول: إن تماثيل الحلوى التي تصنع بمصر في أيام الموالد أقل بقاءً
مما يصنع من الفخار؛ لأنها لا تلبث أن تؤكل، وهي تؤخذ للأطفال كلعب البنات،
فالقول بحلها أظهر من القول بحل ما يتخذ من الفخار، وأما ما لا ظل له من
الصور فحكيا في اتخاذه أربعة أقوال: (١) الجواز مطلقًا، (٢) المنع مطلقًا،
(٣) تحريم ما كانت الصورة فيه تامة، وجواز ما قطع رأسها أو تفرقت أجزاؤها،
(٤) جواز ما يُمتهن دون ما كان معظمًا كالمعلق. وقد رجَّحا الثالث ورجَّح
الحافظ ابن حجر الرابع.
وقد علم من هذا التفصيل كلام المحققين بالإجمال. ومن التفصيل فيه قول
الحافظ: مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو كان معلقًا إلا أن يكون على
جدار، ومذهب القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أن ما لا ظل له لا بأس
باتخاذه مطلقًا، فقد صح أنه كان في بيته بمكة حجلة فيها تصاوير كما تقدم، ومنه
حمل أبي علي الفارسي الوعيد بعذاب المصورين على المشبهة الذين يعتقدون أن لله
تعالى صورة كصور خلقه، تعالى عن ذلك، وجعل الحافظ ابن حبان حديث امتناع
الملائكة من دخول بيت فيه صورة خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل
بعضهم إياه خاصًّا بملائكة الوحي ومقتضاهما أنه انقطع، وجعله الكثيرون خاصًّا
بملائكة الرحمة، وخصَّصه بعضهم بالصفة، كما تقدم في (ص ٢٢٩) ، ومنتهى
التخفيف قول بعضهم: إن الوعيد على تحريم التصوير خاص بمن كان في ذلك
الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا. وردّه ابن دقيق العيد كما قال
الحافظ في الفتح.
والتحقيق أن الأصل في الوعيد على التصوير قسمان: أحدهما: لا يتحقق إلا
بالقصد، وهو مضاهاة خلق الله كما تقدم في الكلام على الحديث. وثانيهما: لا
يُشترط فيه قصد علة الحصر، وهو كما يؤخذ من حديث كنيسة الحبشة، ومما
صرح به المحققون من المتقدمين والمتأخرين في شرحه وشرح غيره، وهو سد
ذريعة عبادة صور الأنبياء والصالحين وغيرهم، ومثله الوعيد على بناء المساجد
على القبور، لا فرق بينهما ألبتَّة. فيأتي فيه ما قاله الحافظ في شرح الحديث من
(باب بناء المسجد على القبر) من صحيح البخاري، وهو كما في آخر (ص
٢٣٥) من جزء المنار الماضي. وقد تقدم أن المنع من ذلك إنما هو في حال خشية
أن يضع بالقبر ما صنع أولئك الذين لُعنوا. وأما إذا آمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول
بالمنع مطلقًا مَن يرى سد الذريعة، وهو هنا متجه قوي. اهـ.
ويمكن أن يقال: إن سد الذرائع يختلف باختلاف الأزمنة وباختلاف أنواع
الصور ولما كانت التماثيل والصور المعظمة في الجاهلية تعظيم العبادة هي صور
ذات الأنفس أذن ابن عباس رضي الله عنه للمصور الذي استفتاه بتصوير الشجر
وما لا نفس له. ولما صارت صور ذات الأنفس لمجرد الزينة، وزالت مظنة العبادة
- اتخذ بعض أئمة السلف بعض الصور في بيوتهم، كما ترك الصحابة الصور في
إيوان كسرى. ولا نقول: إن ذريعة تعظيم الصور -تعظيم ديانة وعبادة - قد زال
في هذا الزمن، وإن علة التحريم انتفت، كما قال مَن جعل التحريم كالمنسوخ
لجعْله خاصًّا بالعصر الأول؛ إذ لا شك في أن تصوير الأنبياء والأولياء، وكل مَن
يغلو في تعظيمه العوام، أو اتخاذ تماثيل لهم قد يفضي إلى العبادة. كما رأينا نظير
ذلك في تعظيم قبور الصالحين الذي جاء مصداقًا لحديث الصحيحين: (لتتبعن سَنَن
مَن قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ... ) إلخ، ولكن الناس شددوا في سد ذريعة
عبادة الصالحين بتعظيم صورهم، وتساهلوا في سد ذريعة عبادتهم بتعظيم قبورهم
ببناء المساجد عليها، والطواف بها، والتماس جلب النفع ودفع الضر بالتمسح بها
ودعاء مَن دُفن فيها.
ومَن تأمل الأحاديث وآثار السلف في مسألة تشييد القبور وتجصيصها،
وحظر اتخاذها مساجد ووضع السرج والستور عليها، ومسألة التصوير واتخاذ
الصور بجعلها في البيوت والستور ونحوها - يتجلى له أن علة النهي عن الأمرين
واحدة، ألا إنها في القبور أشد وأعم، وقد جمع الأمر بإزالتهما في الحديث
الصحيح الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي الهياج الأسدي
قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويتَه) وفي رواية: (أن لا
أدع قبرًا مشرفًا إلا سويتُه ولا تمثالاً إلا طمستُه) بإسناد الأفعال إلى ضمير المتكلم،
أي بعثني على أن لا أدع ... إلخ. وطمْس التمثال محو صورته التي يُشْبه بها
الحي ويحصل بتشويهه أو قطع رأسه دون إزالة عينه؛ لأن ذلك كافٍ في إخراجه
عن صفة المعظم عبادةً. وأما تسوية القبر فإزالة لعينه؛ لأن المراد بها تسويته
بالأرض، أي جعله مساويًا لها. ولكن أجاز الفقهاء رفع القبور قدر شبر، كما رفع
الصحابة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. وقدر بعض
مَن رأى القبر الشريف من السلف ارتفاعه بأربعة أصابع، نقله الحافظ في الفتح،
والظاهر أنه اعتمده، وقال الشافعي في الأم: (ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما
يُبنَى) . قال النووي - عند نقله في شرح مسلم: ويؤيد الهدم - قوله: (ولا قبرًا
مشرفًا إلا سويته) . اهـ.
وأما الخلف من العوام والحكام فخالفوا جميع الأحاديث والآثار في المسألة
الأولى، ولكنهم ظلوا يشددون المسألة الثانية إلى أن عمت البلوى بها في هذا
العصر، فصاروا يتساهلون في أمر اتخاذ التصاوير للزينة وللأنس بصور الأقربين
والمحبين، وصار العلماء يسمحون للمصورين بتصويرهم، حتى أكابر شيوخ
الأزهر وقضاة الشرع والمفتين، ولكنهم لا يزالون يشددون في صناعة التصوير
نفسها على كثرة منافعها، وشدة الحاجة إليها في غير ما تساهل الجمهور في اتخاذه
من أعمالها.
سألني بعض العلماء البصراء في طرابلس الشام مرة عن التصوير؛ إذ قلت:
إنه يعد الآن من أركان العمران والحضارة، هل له فائدة يُعتدّ بها شرعًا؟ فإن ما
فتن به الناس من زينة التصاوير ليس بالأمر النافع الذي يرخص في هذه الصناعة
لأجله، ولو في غير ما تُخشى عبادته أو تعظيمه تعظيمًا دينيًّا، فقلت له -
على البداهة، ولم يكن قد سبق لي تفكّر في حصر فوائد التصوير -: إن له أنواعًا
من الفوائد في حفظ اللغة، وإيضاح كثيرمن العلوم والفنون وفي الأعمال العسكرية
والإدارية والسياسية، وذكرت له من الأمثلة على ذلك ما يأتي:
(١) إننا نرى في كتب اللغة أسماء كثير من الأشياء كالنبات والحيوان
وغيرهما غير مفسرة بما يعرف به المسمى مَن لم يكن يعرفه باسمه ذاك، بل
يقولون حيوان معروف أو طائر معروف وصاحب القاموس المحيط يكتفي بحرف
(م) المختزل من كلمة معروف، وهذا تقصير كبير في حفظ اللغة، ولو وضعت
صورة الشيء عند اسمه كما كان يفعل قدماء المصريين وكما تفعل أمم الحضارة
الآن - لكان ذلك أحسن حفظ للغة، ولا يغني عنه الوصف بالكلام؛ لأن بعض
الأجناس تتشابه فلا يسهل التمييز بينها بالقول، بل يتعسر أو يتعذر وصف أي
جنس من أجناس المخلوقات وصفًا يمكن أن يعرفه به كل مَن سمعه.
(٢) يترتب على الجهل بأجناس بعض الحيوان جهل ما يتعلق بها من
الأحكام الشرعية كأحكام ما يحل أكله منها، وما لا يحل، وأحكام جزاء الصيد على
المحرم وغير ذلك.
(٣) إن للتصوير فوائد عظيمة في علوم التاريخ الطبيعي والطب
والتشريح الإنساني والحيواني وفروع هذه العلوم قد صارت كثيرة في هذا العصر،
ويتوقف إيضاح الحقائق فيها - تأليفًا وتعليمًا - على الصور التي تظهر بها جميع
الأعضاء الظاهرة والباطنة، صحيحة ومريضة، فإتقان هذه العلوم يتوقف عليها.
(٤) للتصوير فوائد عظيمة في الأعمال الحربية، فلا يمكن لمَن يتركه أو
يقصر فيه أن يقاتل أعداءه بمثل ما يقاتلونه به، ولا أن يعد لهم ما استطاع من قوة،
فمنها تصوير المواقع والطرق والبلاد والجيوش، وما لديها من السلاح والذخيرة،
ومنها تصوير مَن يشتبه في أمرهم أن يكونوا عيونًا وجواسيس، وتقتضي الحكمة
أن يُجعلوا تحت المراقبة، ومنها تصوير مَن يحتاج إلى تحقيق شخصيتهم؛
لئلا يشتبهوا بغيرهم.
(٥) للتصوير فوائد عند حكومات هذا العصر في الأعمال السياسية والإدارية
كأعمال الجواسيس وحفظ الأمن وغير ذلك وتفصيل ذلك يطول.
لا يقال: إن المسلمين يمكن أن يستغنوا عن صناعة التصوير في التعليم
والتأليف والأعمال الحربية وغيرها كما استغنى سلفهم؛ فإن هذا بمثابة القول
باستغنائهم عن سلاح هذا العصر ومراكبه البحرية والهوائية كما استغنى عنها سلفهم،
وإنما كان يصح هذا التشبيه لو كان ما ذُكر من المستحدثات موجودًا في عصر
السلف، يستعمله خصومهم، وهم يتركونه، ولا يضرهم تركه. وهذا باطل لا
يقول به أحد.
ولا يترتب على نوع ما من أنواع هذه التصاوير تذرع إلى عبادة غير
مشروعة، ولا إلى تعظيم ديني، ولا يقصد بشيء منها مضاهاة خلق الله، فإما أن
يؤخذ فيها بقول مَن يجعل الوعيد على التصوير خاصًّا بما ذُكر من أول الأمر
كتصوير الصالحين، ومَن يخشى أن يفتتن الناس بصورهم وتماثيلهم، وبما يقصد
به مفسدة أخرى كالتحريض على المعاصي وهتك العورات، وأما أن يخص
عمومها بأحكام الضرورة في بعضها، وأحكام الحاجة التي تعد من المصلحة
الراجحة في بعض آخر؛ فإن القاعدة في المحرم لذاته أن يباح للضرورة كأكل
الميتة ولحم الخنزير، وفي المحرم لسد الذريعة أن يباح للمصلحة الراجحة كرؤية
الطبيب للعورات، وأبدان النساء الأجنبيات عملاً بقاعدة ارتكاب أخف الضررين.
فمَن عرض مسألة التصوير واتخاذ الصور على هذه القواعد الشرعية علم
منها أن دين الفطرة - الذي قرن كتابه ووصف بالحكمة، ورفع منه الحرج والعسر
عن الأمة - لم يكن ليحرم صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال، ويحتاج
إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وإنما يحرم ما فيه مفسدة، أو ما كان ذريعة إلى
مفسدة، ولا يبعد أن يقال: إن أعمال المصورين في هذا العصر تعتريها الأحكام
الخمسة، فإذا سألنا رؤساء الحكام وكبار القواد وأركان الحرب والأطباء وغيرهم
من علماء الفنون - التي هي من فروض الكفايات - عن صناعة التصوير الشمسي
واليدوي، فقالوا: إن منها ما هو ضروري يترتب على تركه ضرر عظيم، ومنها ما
فيه مصلحة راجحة، ومنفعة مجرَّبة، فمقتضى الأصول والقواعد تكون واجبة في
بعض تلك الضرورات والمصالح. ومستحبة أو مندوبة فيما دونها من المنافع،
ومباحة فيما لا ضرر فيه ولا نفع، ومكروهة فيما كان مظنة الضر، وقد بينا قريبًا
ما تكون فيه محرمة، وهو ما حمل عليه النص، فهذا ما أعلمه وأفهمه من نصوص
الشرع وقواعده في هذه المسألة، وهو يؤيد ما نقلته عن بعض علماء السلف
والخلف في التساهل فيها قولاً وعملاً، والله أعلم.