للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رحلة الحجاز
(٨)

أيام منى ولياليها وأقوال الشعراء فيها
نصوص الشرع في أيام منى:
قال عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: ٢٠٣) .
أجمع العلماء على أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى التي تسمى
أيام التشريق. قيل: إن سبب تسميتها بذلك أنهم يشرّقون فيها لحوم الأضاحي؛ أي:
يقددونها ويبرزونها للشمس. وقيل: لأن الهدايا والضحايا لم تكن تنحر فيها إلا بعد
شروق الشمس، وقيل: هو مأخوذ من قول الجاهلية: أشرق ثبير، كيما نُغير.
أي ادخلْ يا ثبير في الشروق؛ لكي نسرع في الدفع إلى منى للنحر، ذلك بأنهم
كانوا لا يفيضون من المزدلفة إلا بعد شروق الشمس ووقوعها على جبل ثيبر أعظم
تلك الجبال، فأُمرنا بمخالفتهم بالإفاضة قبل الشروق. وقيل: لأنها أيام تشريق
لصلاة يوم النحر، فصارت تبعًا له، وأطلقوا التشريق على صلاة العيد، وسموا
مصلى العيد مشرّقًا. والجمهور على أن هذه الأيام هي الثلاثة التي تلي يوم عيد
النحر وأدخله بعضهم فيها، ولكن تخيير المتقي بين التعجيل في يومين أو التأخر
إنما هو في أيام منى الثلاثة التي بعد يوم العيد.
ووصفت أيام منى الثلاثة أو الأربعة بالمعلومات في قوله عز وجل في
الحجاج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم
مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: ٢٨) وتطلق الأيام
المعلومات على أيام عشر ذي الحجة الأوائل أو التسع التي آخرها يوم عرفة.
روى أحمد ومسلم والنسائي عن أبي نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل) ، وفي
رواية ضعيفة عند غيرهم زيادة: (وبعال) بعد شرب. والبعال والمُباعلة:
الملاعبة بين البعلين (الزوجين) ، ومعناها صحيح؛ فإنه يحل في أيام منى كل ما
كان محرمًا بالإحرام حتى التغشِّي، وإنما يحل بعد طواف الإفاضة الذي تتم به
أركان النسك كلها. والمراد بالأكل: الأكل من لحوم الأضاحي المطلوب بقوله
تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} (البقرة: ٥٨) وغيرها من الطيبات؛ فإن هذه الأيام أيام
عيد وسرور، شُرع فيها الجمع بين التمتع باللذات المباحة، حتى اللهو بالحراب
وسماع الغناء، وبين ذكر الله تعالى وشكره على إنعامه بها وبالتوفيق لإقامة النسك.
وشعار هذه الأيام من الذكر التكبير ويستحب رفع الصوت به والاشتراك فيه
عقب الصلوات وفي عامة الأوقات والأمكنة؛ فقد روى سعيد بن منصور وأبو
عبيد (أن عمر رضي الله عنه كان يكبر في قبّته بمنى، فيسمعه أهل المسجد
فيكبرون ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيرًا) وذكره البخاري في
الصحيح تعليقًا.
وأصح ما ورد في صيغته ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان،
قال: (كبروا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا) وروي عن الصحابة والتابعين
التكبير ثلاثًا ومرتين وزيادة التهليل. والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يأمر الناس بصيغة مخصوصة في التكبير والذكر في العيدين وأيام منى، كما أنه لم
يأمرهم بأذكار وأدعية معينة في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ليأتي كل فرد أو
جماعة بما شاؤوا، فلا بأس إذًا بما استحدث الناس من الذكر وصيغ التكبير مما لم
يرد عن السلف، وإن أشار بعض العلماء إلى استنكاره لذلك كأنه يراه من البدع
باستحداث صفة لعبادة تعد من الشعائر، وهو ما سماه بعضهم بالبدعة الإضافية.
وإنما يتجه هذا إذا التزموه جهرًا بغير زيادة ولا نقصان، ويتأكد إنكاره إذا صار
بحيث تظن العامة أنه واجب أو مندوب بهذا الوصف. وقد ذكر الإمام الشافعي في
الأم أن التكبير المشروع في العيدين هو كلمة (الله أكبر) ، وأن التثليث في بدئه
مستحب وأن لكل أحد أن يزيد من الذكر ما شاء.
وكذلك التكبير والدعاء والتضرع عند رمي الجمار، يرمي كل جمرة بسبع
حصيات مكبرًا مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والوسطى فيطيل القيام، يدعو
ويتضرع ولا يطيل عند جمرة العقبة. هكذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم
وروي تقدير قيامه صلى الله عليه وسلم عند الجمرتين بقدر سورة البقرة.
وكانت ذبائح النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة من الإبل، جاء
بثلاث وستين منها معه من المدينة وجاء علي كرم الله وجهه بالباقي من اليمن، وقد
نحر النبي صلى الله عليه وسلم ٦٣ بيده الكريمة فكانت إشارة إلى سِنِي حياته
الشريفة، وأمر عليًّا فنحر الباقي. وأمر صلى الله عليه وسلم بأخذ بَضعة (بفتح
الباء: قطعة) من كل بدنة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكل هو وعلي منها،
وشَرِبَا من مرقها.
كلمة تاريخية أدبية في أيام منى:
سمعنا من الشريف في منى كلمة جديرة بالحفظ والتدوين، قال: كانت أيام
منى أول الإسلام من أطيب أيام الحياة - أي لما تقدم بيانه من الجمع بين اللذات
الروحية والبدنية والاجتماعية - فلما قربت المواصلات بين الأقطار الإسلامية
البعيدة صار ينتقل الوباء إلى الحجاز مع الحجاج الموبوئين، فيكون أشد فتكه عند
اجتماع الناس في منى، فصارت أيام منى أيام غم وكدر، يتعثر الناس فيها بالموتى
في كل مكان، وتعد الحكومة لها الألوف الكثيرة من الأكفان، ونحمد الله أنه لم يمُت
فيها أحد في هذا العام، لا بمرض وبائي ولا بمرض عادي. اهـ بالمعنى.
أقول: من الشواهد المؤيدة لهذه الكلمة التاريخية كثرة ذكر منى في أشعار
المتقدمين الغزلية والتغزُّل بالنساء عند رمي الجمار فيها، وندرة مثل ذلك في
غيرها من المشاعر، وعند غير رمي الجمار من الشعائر؛ ذلك بأن ما تقدم لنا
شرحه من تأثير الإحرام ولباسه في القلب وتأثير رؤية المشاعر العظام والطواف
بها والوقوف فيها أيضًا - كل ذلك مما يصرف الحاج عن كل ما عداه، ولا يدع في
قلبه فراغًا واسعًا لغير ذكر الله، لا ذكر الحسان، ولا ذكر الأهل والولد والإخوان،
فالتجلي الإلهي في جميع المشاعر - أثناء أداء جميع المناسك - تجلِّي هيبة وجلال،
إلا منى؛ فإن التجلي فيها تجلي أُنس وجمال، ولا تنسَ ما ذكرناه آنفًا من تحلل
الحاج فيها من الإحرام، واستباحته ما كان محرمًا من الأعمال، وكونها أيام عيد
يستحب فيها التمتع بالطيبات، وزدْ على ذلك أن لياليها هي الليالي التي يكمل فيها
نور القمر، وأن هواءها اللطيف يحبب إليك السمر.
رفقًا بها أيها الزاجر ... قد لاح سلع وبدا حاجر
وخلها تسحب أرسانها ... على الرُّبا لا راعها ذاعر
واذكر أحاديث ليالي منى ... لا عدم المذكور والذاكر
* * *
لهف نفسي لليالٍ سلفت ... آه لو ترجع هاتيك الليالي
لا تقل لي بمنى تُعْطَى المُنَى ... بمنى كان من القوم انفصالي
* * *
صحبي مَضَوْا فمدامعي ... منهلة في إثر صحبي
ما فَوّق الهجران سهـ ... ـمًا فانثنى عن قصد قلبي
كلا ولا نادى الجوى ... إلا وكنت أنا الملبي
ولقد وقفت على منى ... لولا المنى لقضيت نحبي
وأشعار الشعراء بالتغزل بالنساء في منى ورميهن الجمار كثيرة، من أحسنها
قول الشريف الرضي - وهو من التغزل الخيالي النزيه -:
من معيد لِيَ أيا ... مي بجزع السمُرات [١]
ولياليَّ بجَمْع ... ومِنىً والجمرات [٢]
وظباء حاليات ... كظباء عاطلات [٣]
رائحات في جلابيـ ... ـب الدجا مخمرات [٤]
راميات بالعيون الـ ... ـنجل قبل الحصيات
أَلِعَقْر القلب راحوا ... أم لعقر البدنات [٥]
كيف أودعت فؤادي ... أعينًا غير ثقات
أيها القانص ما أحـ ... ـسنت صيد الظبيات
فإنك السِّربُ وما ... زُوِّدت غير الحسرات
يا وقوفًا ما وقفن ... في ظلال السلمات [٦]
موقفًا يجمع فتيا ... ن الهوى والفتيات
تشاكى ما عنانا ... بكلام العَبَرات
نظرٌ يشغَل منا ... كل عين بقَذاة [٧]
كم نأى بالنفر عنا ... من غزال ومهاة [٨]
آه من جيدٍ إلى الدا ... ر كثير اللفتات [٩]
وغرامٍ غير ماض ... بلقاء غير آت
فسقى بطن منى والـ ... ـخَيْف صوب الغاديات [١٠]
وزمانًا نائمَ العذَّ ... ال مأمون الوُشاة
في ليالٍ كاللآلي ... بالغواني مُقمرات
غرست عندي غرسَ الـ ... شوق ممرورَ الجناة [١١]
أين راقٍ لغرامي ... وطبيب لشَكاتي [١٢]
ومن التغزُّل الخيالي في منى وغيرها من معاهد النسك وأعماله ما قاله أبو
محمد عبد الله بن محمد التنوخي في قصيدته التي مدح بها ثقة الدولة يوسف بن
محمد بن الحسين القضاعي صاحب صقلية الروم وهو:
ولما التقينا محرمين وسيرُنا ... بلبيك ربًّا والركائبُ تعسِف [١٣]
نظرت إليها والمطيُّ كأنما ... غوار بها منها معاطسُ رعَّف [١٤]
فقالت أما منكنّ مَن يعرف الفتى ... فقد رابني من طول ما يتشوَّف [١٥]
أراه إذا سرنا يسير حذاءنا ... ونوقف أخفاف المطيّ فيوقف
فقلت لتِربيها ابلغاها بأنني ... بها مستهام قالتا نتلطف [١٦]
وقولا لها يا أم عمرو أليس ذا ... مِنًى والمُنى في خَيْفه ليس يُخلف [١٧]
تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا ... بأن عنّ لي منك البنانُ المطرَّف [١٨]
وفي عرفات ما يخبر أنني ... بعارفة من عطف قلبك أسعف [١٩]
وأما دماء الهَدي فهي هُدى لنا ... يدوم ورأي في الهوى يتألّف [٢٠]
وتقبيلُ ركنِ البيت إقبالُ دولة ... لنا وزمانٍ بالمودة يعطف
فأوصلتا ما قلته فتبسَّمت ... وقالت أحاديثُ العِيافة زُخرف [٢١]
بعيشي ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظه بُرْد الكلام المفوّف [٢٢]
فلا تأمنا ما استطعتما كيد نطقه ... وقولا ستدري أينا اليوم أَعْيَف [٢٣]
إذا كنت ترجو في مِنى الفوز بالمُنى ... ففي الخيف من إعراضنا نتخوَّف
وقد أنذر الإحرام أن وصالنا ... حرام وأنَّا عن مزارك نصدف [٢٤]
وهذا وقذفي بالحصى لك مخبر ... بأن النوى بي عن ديارك تقذف [٢٥]
وحاذر نِفاري ليلة النفر إنه ... سريع، فقل مَن بالعيافة أعرف [٢٦]
فلم أر مثلينا خليلي مودة ... لكل لسان ذو غِرارين مُرهف [٢٧]
ومما قيل في أيام منى ولياليها ما رواه صاحب الأغاني عن معبد المغني الذي
يُضرب به المثل، قال: أتيت أبا السائب المخزومي - وكان يصلي في كل يوم
وليلة ألف ركعة - فلما رآني تجوَّز أي خفف الصلاة، وقال: ما معك من مبكيات
ابن سريح؟ قلت له:
ولهنَّ بالبيت العتيق لُبانة ... والبيت يعرفهن لو يتكلم
لو كان حيَّا قبلهن ظعائنا ... حيا الحطيمُ وجوههن وزمزم
لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة ... وهمو على سفر لعمرك ما همو
متجاورين لغير دار إقامة ... لو قد أجدّ تفرّق لم يندموا
فقال لي: غنِّه فغنيته، ثم قام يصلي فأطال، ثم تجوز إليَّ، فقال: ما معك
من مطرباته ومشجياته؟ ، فقلت: قوله:
لسنا نبالي حين ندرك حاجة ... ما بات أو ظل المطي معقلا
فقال لي: غنه فغنيته، ثم صلى وتجوز إلي، وقال: ما معك من مرقصاته؟
فقلت:
فلم أَرَ كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفتنَّ ذا هوى [٢٨]
فقال: كما أنت حتى أثمر لهذا بركعتين.
وأما التغزُّل في نساء معروفات في وقائع ومشاهد كانت هنالك فكثيرة ولزير
النساء الشهير عمر بن أبي ربيعة الشاعر القرشي كثير - منها قوله في أيام منى:
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها ... وموقفي وكلانا ثَم ذو شجن
وقولها للثريا وهي باكية ... والدمع منها على الخدين ذو سَنن [٢٩]
بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت تطلب دينًا أو رضيت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن
قال ابن سريج المغني: ما ظننت أن الله عز وجل ينفع أحدًا بشعر عمر بن
أبي ربيعة، حتى سمعت وأنا باليمن منشدًا ينشد قوله: بالله قولي له - البيتين -
فحركني ذلك على الرجوع إلى مكة، فخرجت مع الحجاج وحججت.
وقد كان عمر مفتونًا بالنساء وحديثهن، ولم تكن هيبة بيت الله وسائر
المشاعر الشريفة لتصرفه عن مغازلتهن، حتى في أثناء أداء المناسك؛ لأنه - وهو
مكي - قد ألفها واعتادها والآفاقيون أشد هيبةً وخشوعًا هنالك من الحرميين في
الغالب، ومما رُوي عنه في كتاب الأغاني أنه بينما كان يطوف رأى امرأة من
أجمل النساء، فوقعت في قلبه، فدنا منها، فكلمها، فلم تلتفت إليه، فعاودها في
الليلة الثانية، فقالت: إليك عني يا هذا؛ فإنك في حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة،
فألح عليها يكلمها، حتى خافت أن يشهرها. فلما كان في الليلة الثالثة جاءت
بأخيها معها إلى الطواف، فلما رأى عمر أخاها معها عدل عنها! فتمثَّلت بقول
جرير:
تعدو الذئابُ على مَن لا كلابَ له ... وتتقي صولةَ المستأسدِ الضاري
وروي أن المنصور حدث بهذا الخبر فقال: وددت أنه لم تبق فتاة في خدرها
إلا سمعت بهذا الحديث. أقول: وهو شاهد على حكمة الشرع في حظر السفر على
المرأة إلا مع ذي مَحرم. هذا، وإن شعر عمر يوهم أنه كان من أفسق الفساق،
ولكن روى صاحب الأغاني عنه أنه حلف - في مرض موته -بالله أنه ما ركب
فاحشة قط، ولا كشف ثوبًا عن حرام قط، وحلف مرة بعتق كل مملوك له على
ذلك، وكان له في الحوك وحده سبعون عبدًا.
ومما روي عن غير عمر في هذا الباب تشبيب النميري بزينب الثقفية. ذلك
أن يوسف بن الحكم الثقفي والد الحجاج المشهور كان قد اعتل في بلده (الطائف) ،
فنذرت بنته زينب لتحجنَّ ماشية إن عُوفي، فعوفي، فخرجت في نسوة، فقطعن
بطن وَجّ (أي بطن وادي وج) ، وهو ثلاث مائة ذراع في يوم جعلته مرحلة لثقل
بدنها، ولم تقطع ما بين مكة والطائف إلا في شهر، وكان محمد بن عبد الله
النميري الطائفي يهواها، فقال - في حجها - أبياتًا منها:
تضوع مسكًا بطنُ نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات [٣٠]
تهادَين ما بين المحصب من منى ... وأقبلن لا شعثًا ولا غبرات [٣١]
أعان الذي فوق السموات عرشه ... مواشي بالبطحاء مؤتجرات [٣٢]
مررن بوجّ ثم رحن عشية ... يلبين للرحمن معتمرات
يخبئن أطراف البنان من التقى ... ويقتلن بالألحاظ مقتدرات [٣٣]
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلت بِنان المسك وحفا مُرَجّلاً ... على مثل بدر لاح في الظلمات [٣٤]
وقامت تراءى يوم جَمْع فأفتنت ... برؤيتها مَن راح من عرفات
وقد أراد الحجاج أن يفتك بالنميري لتشبيبه بأخته لولا أن منعه منه عبد الملك
وكتب إليه أن لا سبيل له عليه على أنه ما وصفها هي وصواحبها إلا بالتقى.
وعلى ذكر أبيات النميري فيمن توسَّع جيب درعها، وترفع يدها عند رمي
الجمار ليرى ساعدها، وتتراءى يوم جَمْع أي عند انصراف الناس منها صباحًا إلى
منى لتفتن مَن أفاض إليها من عرفات على ذِكرها نقول لا عجب إذا وجد في النساء
المفتونات بجمالهن مَن تحب أن تظهر جمالها في تلك المعاهد الشريفة، كما وجد
في الرجال مثل عمر بن أبي ربيعة الذي يخرج إلى الحج ليغازل النساء، ولكن هذا
نادر، وأكثر الشعر فيه تخيّل، ومنه قول العرجي الشاعر من أبيات كانوا يتغنون
بها:
أماطت كساء الخز عن حُرّ وجهها ... وأدنت على الخدين بُردًا مهلهلا [٣٥]
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا [٣٦]
روى أبو الفرج عن عبد الله بن عمر العمري قال: خرجت حاجًّا فرأيت
امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة الله
ألستِ حاجّةً؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنًا، ثم قالت:
تأمل - يا عمي - فإنني ممن عنى العرجي بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
قال: فقلت لها: فإني أسأل الله أن لا يعذب هذا الوجه بالنار. قال: وبلغ
ذلك سعيد بن المسيب، فقال: أما والله لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال
لها: (اعزبي) قبحك الله، ولكنه ظُرف عُبَّاد الحجاز (قال أبو الفرج:)
ورويت هذه الحكاية عن أبي حازم بن دينار - وذكر حكاية أخرى في معناها، فيها
أن أبا حازم قال لأصحابه: ادعوا الله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها بالنار.
وأبو حازم من كبار عباد التابعين. وكان عُبَّاد العراق - ولا سيما أهل البصرة منهم-
مشهورين بالشدة في العبادة والزهد، ومنهم خرج أكابر الصوفية.
وإننا نختم هذا السياق بخبر أبي نواس فاسق الشعراء، فقد روي أنه كان
يهوى جارية لأحد الثقفيين بالبصرة اسمها جنان وكانت حسناء أديبة عاقلة ظريفة،
تروي الأشعار وتعرف الأخبار، فقيل له يومًا إنها عزمت على الحج، فقال: أما
والله لا يفوتني المسير معها، والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها، ثم سبقها
إلى الخروج، وقال - بعد عودته -:
ألم تر أنني أفنيت عمري ... بمطلبها ومطلبُها عسيرُ
فلما لم أجد سببًا إليها ... يقربني وأعيتني الأمورُ
حججتُ وقلت قد حجَّت جنان ... فيجمعني وإياها المسيرُ
وروى صاحب الأغاني من خبر حجه عمن شهده، وقد أحرم، أنه لما جنَّه
الليل جعل يلبي بشعر، ويحدو به، ويطرب، فغنى به كل مَن سمعه، وهو قوله:
إلهنا ما أعدلك ... مليك كل مَن ملك
لبيك قد لبيتُ لك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ... والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك ... على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أَمَّلَك ... أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك ... كل نبي وملَك
وكل مَن أهلّ لك ... سبّح أو لبّى فلك
يا مخطئًا ما أغفلك ... عجّل وبادر أجَلَك
واختم بخير عملك ... لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك ... والعز لا شريك لك
والعبرة في هذه الوقائع والأشعار من وجوه:
(منها) أنه يدل على أنه لا يمكن أن يجتمع النساء والرجال الكثيرون في
مكان ينظر بعضهم إلى بعض إلا ويكون لمغازلة النساء بالكلام أو بالنظر نصيب
فيه، كما قال عمر بن أبي ربيعة في أبيات مقصورة:
ومَن مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وإذا كانت معاهد الحج لم تخلُ من المغازلة والتغزُّل في أول عصر الحضارة
الإسلامية وأول العهد بتحجُّب النساء والدين لم يزل في قوة سلطانه على
الأرواح، حتى إن أشد المترفين إسرافًا في الخلاعة ومغازلة النساء لم يرتكب في
عمره فاحشة، فما ظنك في غير هؤلاء وأمثالهم وفي أهل هذا الزمان في غير تلك
المعاهدة؟ قال لي بعض القسيسين قد مات الدين، ولا يقصد الناس المعبد
إلا لمغازلة النساء.
(ومنها) أن أقوال الشعراء في معاهد الحج وأيامه وأعماله مما يشوق
القلوب إلى تلك البلاد كما وقع لابن سريج في اليمن، ولأجله كتبت هذا الفصل
من الرحلة، وإنني وجدت نفسي في أيام كتابتي لهذا الشعر فيه شديدة الشوق إلى
الحجاز ومشاهده، وليالي عرفة والمزدلفة ومِنى، على أنني لست من المغازلة
والغزل في شيء، ولم أَرَ هنالك، ولم أسمع عن أحد شيئًا من ذلك، ولله الحمد.
ولكنني أذكر في الكلام على هذه العبرة كلمتين لفاضلين مصريين كانا معنا في
الحجاز: (أحدهما) قول أتقى الرجلين وأحسنها تدينًا - وهو محصن - إنه رأى
في منى امرأة في نافذة دار مقابلة للدار التي كان فيها تحمل منظارًا، تنظر
فيه، فتوَهَّم أنها تنظر إليه، فاشتغل قلبه بذلك مدة وجوده في منى. (والثانية)
قول الآخر، وهو أعزب: إنني لم أَرَ في الحجاز امرأة وسيمة، يشتهي المرء أن
يعيد إليها طرفه، فهل هؤلاء هن نساء العرب اللواتي شبَّب بهن الشعراء ذلك
التشبيب الفاتن، الذي يُخَّيل لقارئه أنهن أجمل نساء الأرض؟ ! ويا ليت شعري
كيف كان يكون غزلهم وتشبيههم، لو كان في نسائهم من الجمال ما نعهد في
الآستانة وغيرها؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))