للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصائب الحرب

] وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [[١]
يشتغل بأعمال هذه الحرب - حرب المدنية - عشرات ألوف الألوف من
الرجال ومئات الألوف من النساء كان أكثرهم يشتغل بأعمال الزراعة والصناعة
والتجارة، فيكثرون من نتاج الأرض، ومن إيصال حاج بعض الناس إلى بعض،
فيعم به الرخاء وغضارة العيش، ويزداد المال في أيدي الناس، وقد قدر عدد قتلى
المعارك في أربع سنين بعشرات آلاف ألف، وعدد المشوّهين من الجِراح بخمسة
وعشرين، أو ٣٠ ألف ألف، وحل محلهم مثلهم أو أكثر منهم، فتضاعفت خسارة
البشر بالحرمان من فوائد أعمالهم، فنقصت الأموال والثمرات بنقص الأنفس، ثم
بهلاك الكثير منهما، ومن الأنفس بحرب الغوَّاصات التي ابتدعتها مبتدعة أكثر
رزايا التدمير والتقتيل - ألمانية - فقد رقت صناعة هذه السفن الغواصة، حتى
صارت تحمل المدافع، وتقطع تحت الماء ألوفًا من الأميال والفراسخ، وحيثما
التقت بسفينة تحمل عروض التجارة، أو تنقل الناس من بلد إلى آخر، أرسلت
عليها وابلاً من قذائف المدافع أو سهامًا الطوربيل، فجعلتها كعصف مأكول، لا
تفرق بين سفن المحاربين وسفن الأمم التي على الحياد، ولا بين حاملة الجنود
وعدد الحرب وحاملة العروض وأهل السلم من الرجال والنساء والأولاد، أرادت
بذلك أن تحرم إنكلترة وأحلافها من ثمرات سيادة البحار، بعد أن شدد هؤلاء عليها
خناق الحصار، فآذت الأمم كلها، وأكثرت من عدد أعدائها.
كانت جوائح الغواصات سببًا في اشتداد الضيق، وامتداد الغلاء الفاحش إلى
جميع أقطار الأرض، وقد كان هذا القطر المصري في السنتين الأولى والثانية من
سِنِي الحرب أقل الأقطار غلاءً، وأكثرها رخاءً؛ لأن أرضه زراعية خصبة يمكنها
أن تنتج من الأقوات ما يزيد عن حاجة أهلها، وكان المخزون فيه مما يرد إليه من
الخارج كالفحم الحجري والأنسجة والمواد والأدوات اللازمة للزراعة والصناعة
كثيرًا، وثمنه معتدلاً، وقد غلا ثمن القطن منذ السنة الثانية، فربحت البلاد
عشرات من الملايين، قضت منها كثيرًا من ديونها، فلما اشتد حرب الغواصات
قلّ كل ما يرد من الخارج، وتضاعفت أثمانه أضعافًا، وتبع ذلك غلاء غلاّت
البلاد ومواردها، حتى بلغ ثمن إردب القمح في الشتاء الماضي خمسة جنيهات،
ويباع الآن الرِّطْل المصري من السمن بأربعة عشر قرشًا وخمسة عشر، وبلغ ثمن
أقة زيت الزيتون أربعين قرشًا، فصار مساويًا للسمن بعد اشتداد غلاء السمن،
وكان قد زاد عنه، إلا أنه قد ورد منه أخيرًا على الإسكندرية عدة قناطير من كريت،
فنزل الثمن قليلاً. ورطل اللحم البحري يباع في القاهرة بثمانية أو تسعة قروش،
وأقة العنب بِيعت بأربعة قروش فخمسة فستَّة، وقِسْ عليه سائر الفاكهة.
وقد سَعَّرَتْ الحكومة المصرية أكثر مواد الغذاء، فكان تسعيرها إياها سببًا
لزيادة الغلاء، ولم نر أهل هذه البلاد اتفقوا على مخالفة الحكومة وعدم الاكتراث
لها بشيء كما فعلوا في تسعير الأقوات. فمن الثابت أنها لم تنقص من ثمن شيء
إلا وزادوا فيه عما كانوا يبيعونه به قبل تسعيرها إياه، اللهم إلا زيت البترول فهو
الذي استطاعت الحكومة أن تنفذ أمرها فيه تنفيذًا مطردًا. وقد كان ثمن رطل اللحم
قبل تسعيره ٦ قروش أو ٦ ونصف قرش، فلما رفعته الحكومة إلى هذا القدر
ارتقى سعره كما علمت. وكان ثمن رطل السمن ٩، فصار بعد جعلها إياه نحوًا من
ذلك بزهاء ضعفيه. وكان ثمن أقة زيت القطن المكرر كثمن رطل السمن، فصار
شأنه شأن السمن في التسعير والغلاء، وقس على ذلك سائر الأشياء.
وأما ما يرد إلى القطر من الخارج فقد تضاعفت أثمانه إلى ما شاءت أطماع
تُجاره التي لا حد لها، فتضاعف ربحهم، وعظمت ثروتهم، وكلما غلوا في الغلاء
غلا أهل الفَنَع والثراء في الشراء، وقد بلغنا أن أغنى أمم الأرض من الأوربيين
والأمريكيين ترك موسروها في أثناء هذه الحرب جميع ما يعد في العرف من
الكماليات، واكتفى الأغنياء منهم بالحاجيات، ومن دونهم بالضروريات، حتى
ترك أكثرهم شرب الخمور التي كان بعضهم يعدها ضرورية، وكسدت عندهم
تجارة الترف والزينة، وشذَّ أغنياء هذا القطر، فاشتد تباريهم في اتخاذ الحلي
والحلل، وتنافسهم في الأثاث والرياش، وأرهق مَن دونهم من أهل الطبقة الوسطى
عسرًا، فنسأله تعالى أن يجعل لهم مع هذا العسر يسرًا.