للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ عبد الكريم سلمان

في أثناء شهر شعبان من هذا العام فجع القطر المصري بعالِم من أنفع علمائه،
وأديب من أبرع أدبائه، وكاتب من أبلغ كُتابه، وقاضٍ من أعدل قضاته، أحد
أعضاء النهضة الإصلاحية (الشيخ عبد الكريم سلمان) ، تغمده الله برحمته.
ولد الفقيد في قرية (جنبواي) إحدى قرى مديرية البحيرة من أبوين كريمي
الأخلاق، أما الوالد فألباني الأصل، وأما الوالدة فعربية المحتد، وكان بين بيته
وبيت الأستاذ الإمام تعارف أهل الجوار، فلما جاورا في الأزهر تعاشرا معاشرة
الأهل لا الطلاب، ولما خرجا إلى ميدان العمل تعاونا تعاون أخلاء الأصحاب،
المتفقين في الآراء والمقاصد والآداب، وعاشا ما عاشا متوادين موادة اللدات
والأتراب، ثم ما فرق الموت بينهما مدة التفاوت في العمر، حتى جمع بينهما تحت
التراب، فعسى أن يكون هذا مُصْلِيًّا لذلك المُجَلِّي إلى دار الثواب، وأن يجمعنا الله
بهما في دار الكرامة يوم المآب.
لعل الشيخ عبد الكريم كان أذكى ذهنًا من الأستاذ الإمام، ولكن هذا فاقه ففاته
في الجد والاجتهاد، وتسديد سهام الإرادة إلى كل مراد، والعادة أن أكثر الأذكياء
يكونون قليلي العناية والاجتهاد في الأعمال العقلية التي توكل إلى رأيهم واختيارهم
(كطلب العلم في مثل الأزهر) ، والسبب الخفي لذلك أنهم لا يشعرون بما يشعر به
مَن دونهم في الذكاء إلى التعب في التحصيل، إلا مَن كان له من نفسه حافز يحفزه
إلى مقصد عظيم، وكان الأستاذ الإمام من هؤلاء؛ فإنه طلب العلم بباعث ديني
قوي، نمَّاه في قلبه سلوك طريق التصوف قبله، كما فصَّلناه في ترجمته، فكان
وهو يسكن مع الشيخ عبد الكريم في حجرة واحدة - يقضي جُلَّ ليلته في المطالعة،
ويحاول الشيخ عبد الكريم هو وغيره أن يحملوه على مشاركتهم في سمرهم وما
يلهون به فيه فيعييهم ذلك منه، ولو كان للشيخ عبد الكريم مثل جده وعزيمته لكان
للأمة منه نابغة طار صيته في الأقطار، وبلغ من الشهرة ما تبلغه شمس النهار،
على أنه مشى الهُوينا فسبق الأقران، فكان الأستاذ الإمام البدء من مريدي السيد
جمال الدين وكان هو الثنيان [١] .
كان أول عمل تولاه الأستاذ الإمام هو رئاسة تحرير الجريدة الرسمية
(الوقائع المصرية) وإدارة المطبوعات، فكان الشيخ عبد الكريم عضُده الأول في
قلم محرريها، ثم كان خلَفه بعد اعتزاله العمل باعتقاله مع زعماء العُرابيين إثْر
احتلال الإنكليز لمصر، فوضع اسم (عبد الكريم سلمان) في ذيل الجريدة موضع
اسم (محمد عبده) ، وظل في عمله هذا إلى أن أُلغي القسم الأدبي من الجريدة،
واستغني عن عمله في المطبوعات بعد عودة الأستاذ الإمام من منفاه.
ولما شرع الأستاذ - بعد استقراره بمصر - في إصلاح التعليم في الجامع
الأزهر كان الشيخ عبد الكريم ساعده الأيمن في ذلك من أول العمل إلى آخره، وهو
هو مؤلف كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر في عشر سنين) ، كتبه عقب
استقالتهما من مجلس إدارة الأزهر، وطبعناه ونشرناه قُبيل وفاة الأستاذ الإمام، بعد
اطلاعه عليه وإجازته له، ومنه يعلم قيمة عمل الشيخين في إقامة هذا الركن العظيم
من أركان الإصلاح الإسلامي، وعبارته تشهد لهما بما كانا عليه من الإخلاص
والتواضع والبُعد عن التبجح والدعوى.
فكفى الشيخ عبد الكريم فضلاً وكرامة أن كان عشيرًا وديدًا للأستاذ الإمام في
أول نشأته العلمية وعضوًا عاملاً معه في النهضة الإصلاحية الأولى التي توسل
إليها بإدارة المطبوعات، وفي الحركة الإصلاحية الثانية التي توسل إليها بإصلاح
التعليم في الأزهر، وتفصيل ذلك في سيرة الأستاذ الإمام. ولقد تخرج مع الأستاذ
الإمام على يد السيد جمال الدين كثير من الأزهريين في الأفكار والكتابة والخطابة،
كان في مقدمتهم إبراهيم بك اللقاني، واشتغل معهما في المطبوعات أفراد منهم،
أشهرهم من الأحياء: سعد باشا زغلول وإبراهيم بك الهلباوي، ومن الموتى: سيد
أفندي وفا، ولكن ترك كل أولئك زي العلم الديني، واستبدلوا به الزي الإفرنجي
العثماني، فكان أكثرهم - بعد الثورة العرابية - محامين في المحاكم الأهلية، ولم
يجد الأستاذ الإمام مَن يشتغل معه في الإصلاح بعد العودة إلى مصر إلا مَن حافظ
على الزي الأزهري وهو الشيخ عبد الكريم. وبهذا يُعلم تأثير تغيير الزي في
الشئون الاجتماعية.
بعد خروج الفقيد من خدمة المطبوعات جُعل عضوًا (قاضيًا) في المحكمة
الشرعية العليا، فكان فيها قدوة صالحة في تحري العدل، والاستقلال في الرأي،
ومن آيات ما وصفناه به من شدة الذكاء أنه ولي القضاء بمذهب الحنفية في المحكمة
العليا الاستئنافية، وهو شافعي لم يتمرن على الأعمال والأحكام القضائية في
المحاكم الابتدائية، فلم يعجزه أن يضرب مع أكبر القضاة بكل سهم، ويكون سبَّاقًا
إلى إصابة الحق والعدل في الحكم، وكان له من الشهرة في المحكمة ما هو جدير
به. نعم، إنه كان قد سبق له دراسة بعض كتب الحنفية في الفروع والأصول،
كما شهد له الشيخ عبد القادر الرافعي وغيره من كبار فقهائهم.
ولئن وُجد في زمن الفقيد أفراد يساهمونه في فضيلة استقلال القضاء، وآحاد
يجارونه في حلبة الأدب والإنشاء، وآخرون يسبقونه بالتوسع في بعض العلوم، أو
الإغراب في بعض شوارد الفنون - فقد كاد يكون نسيج وحده في أفضل ما يتفاضل
فيه الناس، بعد ما يتعلق بالباطن من معرفة الله، وكمال الإيمان والإخلاص،
أعني مكارم الأخلاق، وما يلزمها من محاسن الأعمال والآداب، فقد كان ممتازًا
بالوفاء لإخوانه، والإخلاص لأخدانه وخِلانه، والمروءة والنجدة في قضاء حاجات
قاصديه، وإن لم يكونوا من أصحابه ومحبيه، وأما أصحابه فكان أسبقهم إلى عيادة
مريضهم، وتشييع ميتهم، وإصلاح ذات بينهم، وتهنئتهم بكل نعمة تحدث لهم،
وكان ربما يسافر من بلد إلى آخر للعُتبى بين متغاضبين، والتأليف بين متباغضين،
وإزالة الجفاء بين أسرتين؛ وكان له من الحذق في الاستيعاب ما يسل به السخائم،
ومن اللطف في العتاب ما يستخرج به الحفائظ، فلا تكاد تتعاصى حية على رقيته،
أو تأبى عقدة أن تنحل بنفثته.
ومن سوء حظ المسلمين أن أسرع إليه اليأس من صلاح حالهم، فأقعده في
آخر عمره عن مساعدة أعمال الإصلاح العام لهم، وقد كان الأستاذ الإمام عناه بقوله
لي في أول العهد بمقدمي إلى مصر: (إن لي أملاً كاملاً، وهنا رجل آخر له
نصف أمل!) . ثم لم يلبث هذا النصف أن ذهبت به وقائع الأيام، حتى كان
يصرح بذلك، ويحتج عليَّ وعلى الأستاذ الإمام قائلاً: سترى ما ينتهي إليه أملكما
في هذه الأمة الميتة، وما يبلغه إصلاحكما من هذه الشعوب الفاسدة، وله كلمة في
هذا المعنى قالها لأستاذنا الشيخ حسين الجسر، ألبَسها كعادته ثوب الدعابة والهزل،
وقد كنا بدار الأستاذ الإمام، نتحدث فيما أشيع من رغبة الأمة اليابانية في التديُّن
بدين الإسلام، قال الشيخ حسين الجسر: إذًا يُرجى أن يعود إلى الإسلام مجده،
قال الفقيد: دعهم؛ فإني أخشى إذا صاروا منا أن نفسدهم قبل أن يصلحونا!
ذكرت هذا في ترجمة الرجل لما فيه من العبرة المحزنة. وإلى الله المشتكى،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الفقيد طويل القامة، عظيم الجثة، قوي البنية، فاعتراه منذ سنين مرض
في المعدة، طال عهده وما نقه منه إلا وقد ذهب سمنه، وهزل بدنه، وضعف
قلبه، حتى توفي فجأة بسكتة قلبية، وكان يعزى أصدقاؤه آل محمود في بلدة
الرحمانية، فنقلت جثته إلى مصر، وصلي عليه في الجامع الأزهر، ودُفن بجوار
صديقه الأستاذ الإمام، تغمدهما الله بالرحمة والرضوان، وقد حضر تشييع جنازته
وليالي مأتمه مَن لا يُحصى من العلماء والوجهاء ووفود البلاد من الوجهين البحري
والقبلي، مُظهرين لمكانته العالية من أنفسهم ومعزين لنجله المهذب حسان أفندي،
وللفقيد مقالات كثيرة في موضوعات شتى متفرقة في الصحف كالوقائع المصرية
ومجلة الآداب وجريدتي المؤيد والمقطم، ولكن يقل فيها ما هو موقَّع منه أو معزوّ
إليه، وفي الاستطاعة جمع طائفة كبيرة منها إن وُجد مَن يُعنَى بذلك. فعسى أن
يأذن نجله بذلك لمَن شاءه، جاعلاً له حق طبعه ونشره لإحياء ذكرى والده وحفظ
أثره.