للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حسن جلال باشا

كان حسن باشا جلال - المتوفى في ١٨ جمادى الأولى الماضي - من رجال
العلم والعمل والفضيلة ومكارم الأخلاق الإسلامية، ففي سيرته من العبرة وحسن
الأسوة ما يتوخى المنار نشره، ولم يكن ترْكُنا لترجمته عقب موته تعمدًا كتركنا
تراجم أكثر مَن يموت من أرباب المناصب والرتب العلمية، والمظاهر الدنيوية،
العارين مما يتوخاه المنار وإنما تركناها؛ لأن ما نعلمه من سيرته قليل مجمل،
وكان توفيق أفندي أبو طالب رئيس كتاب محكمة مصر الأهلية قد أخبرنا بأنه شرع
في كتابة ترجمة له، فانتظرنا صدورها للأخذ عنها، وأكثر ما نرويه خلاصة منها.
وُلد الفقيد بمصر في أربع خلون من شعبان سنة ١٢٧١، ولما بلغ سن التعليم
أدخل في مدرسة خليل آغا، فكان الأول من طلبتها في جميع فصولها، فمهد له
ذلك دخول مدرسة دار العلوم التي أُنشئت في سنة ١٢٧٨ بطريق الاستثناء لفقده
بعض شروطها، فعني وجدّ إلى أن حصَّل ما كان ينقصه منها، وفي سنة ١٢٩٢
جعل مدرسًا بالمدرسة التجهيزية بعد أداء الامتحان المشترط لذلك، وفي سنة
١٢٩٥ اختير لتدريس اللغة العربية لأبناء فاضل باشا، فرافقهم إلى سويسرة،
وتعلم فيها اللغة الفرنسية، وكان يتردد فيها على وزير مصر الشهير مصطفى
رياض باشا دون جميع مَن هنالك من المصريين (إذ كانوا يجتنبون لقاءه لمغاضبته
للخديوِ إسماعيل باشا) ، فلما اعتزل إسماعيل وولي توفيق، وعاد رياض إلى
وزارة مصر - أرسل الفقيد إلى أوربة لتحصيل علم الحقوق على نفقة الحكومة،
فنال شهادة الحقوق، وعاد إلى مصر، وخدم القضاء مساعدًا للنيابة، فقاضيًا،
فوكيلاً لبعض المحاكم، فرئيسًا لعدة منها، آخرها محكمة الإسكندرية تولاها عشر
سنين ونصف سنة، فمستشارًا في محكمة الاستئناف، وكان آخر راتبه الشهير فيها
مئة جنيه.
ومن خدمته للعلم أنه كان عضوًا في المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية
وعضوًا في اللجنة الإدارية لمدرسة القضاء الشرعي.
هذه السيرة الرسمية - التي تتطلع لتحصيل مثلها أعناق أكثر المتعلمين -
ليست مما نحفل بذكرى أصحابها في المنار، وإنما فضل الرجل عندنا في سيرته
العملية وأخلاقه وآدابه الدينية التي فضل بها الجم الغفير من أمثاله رجال القضاء،
وممن يعد فوقهم في المنصب والجاه كالوزراء والأمراء.
كان الرجل محافظًا على أوامر دينه ونواهيه من سن الصبا إلى سن
الشيخوخة، لم يُفتن في شبابه بمعاصي الشهوات، ولا في كهولته بمنكرات العظمة
والكبرياء، ولا في شيخوخته بدناءة الطمع والحرص على المال، ولم تزلزل
الإقامة في البلاد الأوربية ما نشأ عليه من الآداب الإسلامية، ولم تفسد عليه عفته
وورعه، ولم تحوله عن زيه العلمي ولا عاداته، حتى إنه كان يتورع عن أكل
ذبائح النصارى لكثرة الملاحدة فيهم، ويذهب من محل إقامته إلى جزار يهودي في
مكان بعيد، يشتري منه اللحم، ويعالجه لنفسه.
وروى أبو طالب عن بعض عشرائه من شبان المصريين طلاب علم الحقوق
في فرنسا أنهم أغروا به امرأة بارعة الجمال لتراوده عن نفسه، وجعلوا لها عشرة
جنيهات إن هي فتنته عن عفته، فجاءت حجرته متبرجة بما استطاعت من زينة،
وطرقت الباب، ففتح لها، وسألها قبل الدخول عن حاجتها، فضحكت ضحكة دلّ
ومداعبة، ورأرأت رأرأة مغازلة وملاعبة، وحاولت الدخول عليه، ومدت يدها
إليه، فدفعها بعنف، وأغلق دونها الباب، فرجعت خائبة تجهر بالهُجر والسباب!
ومما رواه من سيرته أنه كان أبر الناس بوالديه، وأوصلهم لرحمه، وأحفاهم
بإخوانه وأصدقائه، وأشدهم عناية بكل مَن له عهد وصلة به، مرضت والدته
بمصر أيام كان مقيمًا في الإسكندرية رئيسًا لمحكمتها، فكان يعودها كل أسبوع
حاملاً معه ملاءات فراشها كاملة النظافة والكي، ويتولى ترتيب ذلك وفرشه بيده،
وكان - وهو يطلب الحقوق في أوربة - يرسل إليها في كل شهر جزءًا من راتبه.
وبلغني أنه كان ينفق ثلث الراتب، ويرسل إليها الثلث، ويجعل الثلث الثالث للكتب،
وما زال محبًّا للكتب باحثًا عن نفائسها المخطوطة طول عمره، وكنت أراه في
أواخر عمره يختلف إلى صغار باعة الكتب، ويجلس عندهم باحثًا عما عساهم
التقطوه من بعض التركات، أو أصحاب الحاجات.
قال أبو طالب: وكان وفيًّا بالعهد؛ فقد عرف في (قنا) يوم ولي القضاء فيها
بدالاً مصريًّا متوسط الحال، كان يشتري منه حاجته، فلما عاد إليها وهو مستشار
سأل عنه، فقيل له إن حالته تضعضعت، وتجارته كسدت، وهو الآن يبيع
المراوح، فلم يمنعه ذلك من زيارته، وتعهُّد شأنه كلما ذهب إلى قنا، ولا تسلْ عن
اغتباط ذلك البدال بمثل هذه الزيارة؛ فإنها كانت أشهى إليه من رد ثروته، بل
شبابه عليه. اهـ.
وأفضل ما يؤثر من مناقبه مبالغته في الاستقلال والعدل في القضاء، حتى إنه
لم يكن يقبل شفاعة، ولا حديثًا في قضية رُفعت إليه، ولا في ترقية عامل تحت
رياسته، كما أنه لم يكن يكلم أحدًا من أصدقائه القضاة ولا غيرهم في مثل ذلك.
وقد اشتهر بذلك، حتى لم يكن أحد من أقرانه ولا ممن فوقه من المناصب يطمع أن
يكلمه في شيء من ذلك، وله مواقف ووقائع تؤثر في ذلك، ذكر بعضها أبو طالب.
ويعجبني مقاله في إثْر هذه المناقب، وهو:
ولقد أغفلت التوسع في حياة الفقيد القضائية وذكر الحوادث التي اتفقت له دالة
على مبلغ ما كان عليه من الفقه في القضاء والعدل والشجاعة مكتفيًا بأن
المعاصرين أحاطوا بكل هذه الأحوال، ويلوح لي أن كتابة تاريخه المعاصر
بالتفصيل فيه من الصعوبة ما لا يظهر لأول وهلة؛ ولذلك اقتصرت على هذا
الإلماع اليسير.
وما كنت لأطمع أن يكون كل المصريين كحسن باشا جلال؛ فهذا من المحال
قطعًا، ولا أرجو أن يكون واحد في الألف كذلك، بل الذي آمله أن يتصفح هذه
الورقات بإمعان، وأن لا يستصغروا شأن الحوادث التي سقتها هنا مثالاً من أخلاقه؛
عسى أن يحتذي حذوه ويهتدي بهدْيه نفر من الأمة؛ ليعملوا كما عمل، لعل الله
يبعث فيها الحياة الحقيقية، التي لا يُظهرها إلا مثل هذه الأخلاق؛ فإن الذي يعيش
الآن بين ظهراني المصريين لا يمكنه أن يتجاهل العلماء العديدين في كل علم وفن
فمصر ليست فقيرة من هذا النوع؛ إذ للقضاء رجال وللطب آخرون وللهندسة
والزراعة مثلهم ولكل مطلب من مطالب الحياة قوم يشغلهم شأنه، وما ينقص
المصريين إلا شأن واحد وهو الأخلاق؛ فإن ذوي الأخلاق الفاضلة قليلون بالنسبة
لمجموع الأمة ومدارسها ومعاهدها. وإني - على قدر معلوماتي القاصرة - لا أرى
بابًا لهذه الأخلاق إلا النفس التي بين جنبي كل حي من الأمة، فما عليه إلا أن
يروّضها على الفضائل التي شاعت في الكتب وتداولتها ألسن الصغار، وغفلت
عنها عقولهم، فإن أصغر كتاب مدرسي فيه بيان لأصول الفضائل، ولو مرنت
النفوس مِرَانًا حقيقيًّا عليها لتغيرت الأحوال تغيرًا عظيمًا في وقت قصير. أما ما
نعيش الآن فيه من حيث الأخلاق وآداب المعاملات - فمما يعجز عن وصفه أكبر
كاتب بليغ، وإني لَيحزُنني جدًّا أن أجهل مصدر هذا الداء الوبيل الذي تفشى تفشيًا
مزعجًا؛ فإن ابن عشر سنين يبرز في النفاق والمداهنة على ابن الستين! ، فنحن
نتقدم فيها، ولكنه تقدم معكوس؛ لأن كل مَن أتقن هذا النفاق عُدَّ ظريفًا كيِّسًا، وقد
عم جمود الإحساس والعواطف كثيرًا من هذه الطبقات في هذه الأمة ذات المجد
القديم والتاريخ العظيم، التي تحتاج إلى شيء بسيط حتى تكون من أرقى الأمم؛
وذلك باعتدال أبنائهم في أحوالهم وأقوالهم وعملهم بلا إفراط ولا تفريط؛ لأن الحالة
الوسطى تكاد تكون معدومة، وقد دعت الحياة فيها:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوني بيان عندها وخطاب
وعندي أن إصلاح شأن هذه الأمة - التي سهلت طباعها وزكت نفوسها ولان
جانبها وسهل قيادها - لا يأتي إلا بحسن اختيار العاملين من أبنائها من أصغر عامل
عمومي وهو الخفير إلى أكبر موظف وهو الوزير، فما كل النفوس بصالحة للخدمة
العامة التي تتطلب صفات خاصة تظهر في صاحبها من أول نشأته، فإذا صح
انتقاء هؤلاء أصبحت مصر في زمن قليل فردوس الأرض؛ لأن هذه الأمة سريعة
التقليد لحكامها. اهـ المراد.

(المنار)
لقد هدي هذا الكاتب إلى ما يجب من العبرة في هذه السيرة الحسنة بعبارة تدل
على أنه عني بتهذيب أخلاقه وتربية نفسه، حتى ظن أن ذلك يسير على أكثر
الناس المتعلمين. وهيهات هيهات، إنهم عن السمع لمعزولون، وعن الحاجة إلى
تزكية النفس لغافلون، وهذا التعليم المعروف لا يزيدهم إلا غفلةً وإعراضًا عنها،
ولن يكون ذلك إلا بانقلاب يتغير به نظام التربية والتعليم، ويكون أمرهما موكولاً
إلى أصحاب الفضيلة والحكمة من الأمة، وأين هم؟ ! وكيف السبيل إلى تفويض
الأمر إليهم؟ ! وأما اختيار أمثالهم لأعمال الحكومة فمَن يقدر عليه ويُعنى
بتنفيذه؟ ! ههنا محل التأمل للمتأملين.